إيلي مارون خليل
(أديب وشاعر- لبنان)
… ومن الطُّرُقِ الفُضْلى إلى الآخر، الطّبيعة. ألطّبيعةُ خارجيّة، مادّيّة؛ وداخليّة، روحيّة.
إذًا، فالطّبيعةُ طبيعتان: أولى هي المادّيّة الخارجيّة، مساحةٌ جغرافيّة من ترابٍ وماء ونارٍ وهواء وأزهار وأشجار وأطيار وأنهار وبحار… ومن كلّ ما يُرى ويُسمَعُ ويُلمَسُ ويُشَمُّ ويُذاق. وثانيةٌ هي الدّاخليّةُ، مساحةٌ روحيّةٌ نفسيّةٌ، تنقل تأثيرَ الطّبيعةِ المادّيّةِ فينا، وإيحاءاتِها. فهي المؤثّرةُ المُخصِبةُ المُثْريةُ المُوحية.
ألأولى الجغرافيّة، تُحدّد لك المكان، بالمطلَق. تتعرّفه حِسّيًّا، حدودًا وأحجامًا وأشكالًا وأوزانًا وألوانًا وميّزاتٍ… معرفةً مادّيّةً، خارجيّةً، ملموسة، مرئيّةً، تبقى في حدود الحواسّ. وتحدّد لك مكانًا بذاته، بخصائصه الحسّيّة الّتي تُميّزه. والتَّمَيُّز، هذا، يبقى في ذِهن الآخر، من خلاله تعرفه وتتذكّره وتتخيّله وتشمُّه وتلمسُه و… فالخارج طريق إليكما: “هو” و “أنت”، منه إليه، ومنه إليك. يقصر أو يطول، يسهل أو يصعب… بحسب قدرة الحَواسّ وتفاعلِها.
كلُّ ما في “الخارج” طريقٌ إليكما: صوتُه، مثَلا، وحجمُه، وشكلُه، ولونُه، ورائحتُه، و… طريقُه إليك! وصوتُك وحجمُك وشكلُك ولونُك ورائحتُك طريقُك إليه! وهذا الطّريقُ منه إليك، ومنك إليه، يتلوّن، فمرّةً هو يطولُ، ومرّة هو يقصر، مرّة يصعبُ، ومرّة يسهلُ… ما يُحدّد هذا الواقعَ هو طبيعةُ الشّيءِ، وزاويةُ الرّؤية، منه وإليه، وأهمّيّتُه، وأمورٌ أُخَر!
أمّا الطّبيعةُ الثّانيةُ، الكُتْلةُ الذّهنيّةُ والنّفسيّة، وتحدّد لك الشّخصيّة، لا بالمطلَق، إنّما بالدّقّة، بالتَّفصيل… فهي انطلاقُ تَواصُلٍ حميم ينقل التّفاعلَ، التّفاهمَ، بين الخارج والدّاخل، الظّاهرِ والباطن، المادّيِّ والرّوحيّ… وكلّ ما يُشعَر به في القلب، ويتدفّق في الدّم، ويَسري في الرّوح، وينضج في الفكر، ويَجْمل في الخيال… فهي المُكمِلةُ، المُشعِلةُ، المُرَقّية. فالدّاخلُ، هو أيضًا، طريقٌ إليكما: هو وأنت، منه إليك، ومنك إليه. وما يُميّزه؟ صفاتُه غيرُ الحِسّيّةِ.
وكذلك ما في “الدّاخل”، هو بدوره، طريقٌ إليكما: ألحبُّ، الحنان، الرأفة، الرّحمة، الصّدق، الأخوّة، التَّسامُح، الغفْران… طريقُه إليك؛ وهي نفسُها، في الواقع إيّاه، طريقُك إليه. وهذا الطّريقُ منه إليك، ومنك إلَيه، يتبدّل، يتلوّن… فمرّةً هو يخفّ، ومرّةً يشفّ، مرةً يَحولُ، وأُخرى يزول، مرةً يَصولُ، وأُخرى يجولُ… ومرّةً يَشعر بأنّه افتقر، وأخرى بأنّه امتلك الكون.
والإنسانُ شَكلٌ خارجيٌّ متناسِقٌ ينضح بما فيه، إذًا هو يوحي إليك بما يؤثّر فيك ويُخصِبُك ويُثريك. وهذا ما يجعلك تسمو وترتقي. وهذان التّسامي والارتقاء، لا يتمّان للإنسان الواحد، في الإنسان الواحد. إنّما هما، متى تأصّلا، ارتفعا بالفرد، وتاليًا بالمجموعة. لا يَرتقي الإنسانُ منفرِدًا، كما لا ينجح، ولا يسعد لوحده. إنّ الارتقاءَ، كما النّجاح، كما السّعادةَ، عملٌ جَماعيّ.
والإنسانُ، كذلك، كيانٌ نفسيّ روحيّ مُنسجِمٌ ينقلُ التَّناغُمَ. إذًا هو يحمل إليك السّلامَ السّعادةَ الطّمأنينة. وهذه لا تكتملُ في إنسان واحد، ولا هو بها يكتملُ، إنّما هي، متى ترسّخت، ارتقت بها المجموعةُ انطلاقًا من الفرد. أو ارتقى بها الفردُ حاملًا معه الجماعة انطلاقًا. هنا، أيضًا، لا يحيا الإنسانُ السّلامَ والسّعادة والطّمأنينة، وحيدًا. إنّها عَمَلٌ جَماعيٌّ بامتياز.
ألطّبيعةُ! ألطّبيعةُ!
عطرُ اللهِ بثّه في الكون! نعمتُه وهبناها! روحُه أسبغها علينا، بوساطتها نحيا الحياة الأجمل الّتي أهّلَنا لها، وحَضّرها لنا، فيها نطمئنّ، وإليها نفيء، وبها نسمو، وإيّاها نستوحي!
هذه الطّبيعةُ الطّمأنينة، الفَيْءُ، السُّمُوُّ، الإيحاءُ، طريقُنا إلينا، وطريقُنا إلى الآخر، في الوقتِ عَينِه، عَبْرَ كلّ ما فيها من جَمالاتٍ، بما فيها من تَعاقُب ليلٍ ونهار، نسائم وعواصف، أطيار وأشجار وأزهار وأنهار وبحار وفراش وألوان…
نطمئنُّ! فإذا العمرُ اشتعال الهدوءِ، الهناءةِ، بهما استمرارُ الرّصانةِ، الأصالة، بهما يأتلقُ الفردُ، جاذبًا إليه الجماعة، يصقلُها، يُضيئُهُا، فالعُمرُ حلمٌ مُشتهى!
إليها نفيءُ! فإذا روحُنا انبِثاقُ الفجرِ به نهتدي، تشعُّ الحضارةُ استمراريّةَ نفوسٍ نبيلةٍ، وفكرٍ راءٍ، وعواطفَ شفيفة، فالنّفوسُ نسيمٌ لطيف يُحيي!
بها نَسمو، وإليها، فنحن ائتلاقُ القِيَم الفُضْلى! فإذا الحياةُ تَواصُل النِّعَم، انسِجامُ التَّطَلُّعات، سيمفونيّةُ المدى البهيّ!
منها نستوحي! فإذا الوجودُ أملٌ يزهرُ، ورجاءٌ يُثمِر…
ألطّبيعةُ! أجملُ الطُّرُق إلينا وإلى الآخر، وهي لا تغيب!
(ألجمعة 11- 3- 2016)