كتاب “قول في التسامح” لفولتير. ترجمة سعيد بنكراد في عرض مسرحي

houria

د. حورية الخمليشي

(كاتبة وباحثة- المغرب)

  الحاجة إلى فولتير

حينما قرأت كتاب “قول في التسامح” لفولتير ترجمة سعيد بنكراد أدركتُ فعلاً  كم أننا بحاجة إلى خطاب التّنوير على كافّة المستويات. الحاجة إلى فولتير هي الحاجة إلى الفكر التنويري وإلى التسامح والحرّية في زمن تفاقم فيه العنف ووجد الإنسان نفسه في هذا العالم الذي انتشرت فيه الحروب والصراعات السياسية والدينية عدوانياً في سلوكه. ولا نقصد هنا التسامح السياسي المبني على أهداف وفوائد بل التسامح بمعناه المعرفي الفكري الشمولي الذي ينبذ العنف ويسعى إلى التعايش المشترك، وهو ما دعا إليه العديد من المفكرين والفلاسفة والأدباء الكبار. وهو ما جعل كتاب “قول في التسامح” يلقى صدى كبيراً عند جمهور المثقّفين.

ولعلّ من أجمل العروض المسرحية التي قُدّمت في فضاء الطفل بمعرض الدار البيضاء للكتاب لهذه السنة هي المسرحية المقتبسة من  أشهر كتب فولتير (Traité sur la Tolérance à l’occasion de la mort de Jean Calas) والذي ترجمه سعيد بنكراد إلى العربية بعنوان “قول في التسامح”. ففي هذا الكتاب يدافع فولتير عن مبادئ وقِيَم التّسامح والعدالة بعد أن كرّس فولتير كل حياته للدفاع عن الحرية بكل معانيها بما فيها حرّية المعتقد وحرّية التعبير كوجه من أوجه التسامح والذي لا يمكن أن يتحقّق إلا بالحرية.

وكان قد صدر كتاب فولتير في النصف الثاني من القرن السابع عشر وفيه يدعو إلى نبذ التعصّب والطائفية والدعوة إلى التّآخي وحرّية التعبير. يبدأ كتاب “قول في التسامح” بتصدير لفولتير يقول فيه: “إننا نتوفر على ما يكفي من الدين لكي نكره ونضطهد، ولكننا لا نملك منه إلاّ القليل من أجل الحب وتقديم العون للآخرين”. (قول في التسامح، ص. 5)

وقد كتب سعيد بنكراد مقدمة مستفيضة للكتاب عن مفهوم التسامح ودلالاته الاصطلاحية والمفهومية، موضحاً ما يميّز هذا المفهوم عن مفهوم “الحق في الاختلاف”. فهو يرى أن “التسامح لا يعني القبول بكل الآراء بما فيها تلك الداعية إلى العنصرية والكراهية والأنانية، إنه على العكس من ذلك حماية من كل هذه الأمراض، فهو مبني على مبادئ القانون الإنساني الذي يعترف بحق الناس في التعدد في العقائد والأفكار والرؤى وأنماط الوجود على الأرض، دون أن يقود ذلك إلى المس بكرامة الناس وحرّيتهم، أو التضييق على قناعاتهم الدينية أو الإيديولوجية. إن ما يوحّدنا ليس الإيمان بفكرة واحدة، بل التعدّد في الرّؤى، لأنه يكشف عن الغنى في الطبيعة والإنسان”. (ص. 15). وتنتهي المقدمة بقولة لفولتير يقول فيها: “لقد جاء الدين من أجل إسعادنا في هذه الحياة وفي الآخرة. فما شرط السعادة في الحياة الآتية؟ هو أن يكون المرء عادلاً. وماذا على المرء القيام به لكي يكون عادلاً؟ هو أن يكون متسامحاً. فكيف “يكون لنا ما يكفي من الدين لكي نكره بعضنا بعضاً، ولا يكون لنا القليل منه لكي نتعلم الرحمة والتراحم، ولا نأخذ منه سوى ما يدعو إلى الكراهية والحقد، ولا نلتفت إلى ما فيه من مبادئ الحب والتعاون والرحمة؟” (قول في التسامح، ص. 16).

guilaf voltaire

لوحة جدارية لغلاف الكتاب بالمعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء

إن الكتاب مرافعة رائعة من أجل التّسامح والتّآخي ونبذ العنف والتّعصّب بتعبير سعيد بنكراد. وترجع أحداث قصّة جان كالاس إلى عام 1761 حينما شنق مارك أنطوان نفسه وهو الإبن الأكبر للأسرة، فادّعت الأسرة أنها وجدته مخنوقاً لتبعد عنه فكرة الانتحار. وجان كالاس ينتمي إلى الأقلية البروتستانتية، وهو تاجر في تولوز. لكن بعض الإشاعات أشارت إلى أن الإبن المنتحر كان يرغب في اعتناق الكاثوليكية فتمّ التحقيق في القضية. واعترف والده بأنه الجاني لكنه تراجع. وبعد أن أدانته المحكمة حكمت عليه بالإعدام في 1762. وقد التقى دونات ابن جان كالاس فولتير وأقنعه ببراءة والده فدافع بكتاباته عن جان كالاس البروتستانتي. لكن فولتير الذي ينتمي إلى الكاثوليك ينتصر لجان كالاس البروتستانتي والذي لقي حتفه على يد التعصب الديني  المذهبي. وهكذا انتصر فولتير لجان كالاس الذي ستنصفه العدالة بعد موته لأن الدين حسب فولتير وُجد لإسعاد الناس. فدعا المسيحيين إلى التسامح الديني والأخوّة الإنسانية رغم اختلاف العقائد والمذاهب. وجاءت فصول الكتاب كالتالي:

  • الفصل الأول: تاريخ موجز لحادثة موت جان كالاس
  • الفصل الثاني: تبعات تعذيب جان كالاس
  • الفصل الثالث: فكرة الإصلاح في القرن السادس عشر
  • الفصل الرابع: هل يشكل التسامح خطراً، ومَن مِن الشعوب تسمح به؟
  • الفصل الخامس: كيف يمكن القبول بالتسامح؟
  • الفصل السادس: هل التسامح حق طبيعي أم حق إنساني؟
  • الفصل السابع: هل عرف الإغريق التعصب؟
  • الفصل الثامن: هل كان الرومان متسامحين؟
  • الفصل التاسع: قول على الشهداء
  • الفصل العاشر: عن الاضطهاد وخطر الحكايات المزيفة
  • الفصل الحادي عشر: الغُلو في التعصب
  • الفصل الثاني عشر: هل كان التعصب جزءاً من الشرع الإلهي في اليهودية؟ وهل كان دائماً جزءاً من الممارسة؟
  • الفصل الثالث عشر: التسامح الكبير عند اليهود
  • الفصل الرابع عشر: هل كان التعصب من تعاليم المسيح؟
  • الفصل الخامس عشر: شهادات ضد التعصب
  • الفصل السابع عشر: رسالة كتبها مستفيد من دخل كنسي إلى اليوسعي لوتوليي في 6 مايو 1714
  • الفصل الثامن عشر: الحالات الوحيدة التي يكون فيها التعصب من حق الإنسانية
  • الفصل التاسع عشر: حكاية شجار خلافي في الصين
  • الفصل العشرون: هل من المفيد تربية الشعب على الخرافة؟
  • الفصل الحادي والعشرون: الفضيلة خير من العلم
  • الفصل الثاني والعشرون: حول التسامح الكوني
  • الفصل الثالث والعشرون: صلاة الله
  • الفصل الرابع والعشرون: حاشية
  • الفصل الخامس والعشرون: تتمة وخاتمة
  • مقال أُضيف حديثاً نكشف فيه عن الحكم الذي صدر لصالح عائلة كالاس
houria 1

من المسرحية

إن فلسفة فولتير في التسامح كأنها كُتبت لزمننا. إذ كان يسعى من خلال عمله إلى بناء رؤية جديدة لنبذ العنف والطّائفية، وهو المعروف بسجالاته اللاهوتية والسياسية. فحاربته الكنيسة التي لم تستوعب آراءه وفلسفته واتّهمته بالإلحاد وشنّت عليه حربها الضروس. فطالب بإبعاد الدين عن كل ما يجلب الدمار للشعوب، مما أدى به إلى السجن والنفي، لعدائه ونَبذه لقمع السلطة وسيطرة الكهنوت والتعصّب الذي كانت تمارسه الكنيسة الكاثوليكية آنذاك. ويرى سعيد بنكراد أن الكتاب صورة لما يجري في زمننا، يقول: “إنه لا يذكرنا بما يجري الآن عندنا فحسب، بل نقرؤه وكأنه معاصر لنا، فهو يصف بالحرف ما يجري في الفضاء الإسلامي. فيكفي أن نغيّر أسماء الفرق وأسماء الأعلام، لكي ينطبق كل ما يقوله على حالتنا. إن الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت، والصراع بين الفرق الكاثوليكية ذاتها، هو الصراع بين السنة والشيعة، وصراع الفرق السنية فيما بينها. كل ما في هذا الكتاب تصوير لحالتنا. إنه يذكّرنا، أننا مثلهم في القرن الثامن عشر، لا يمكن أن نستمر في الوجود إلا بالتسامح، كما فَهِمَهُ هو في المرحلة التي كتب فيها الكتاب، فالناس لم يكونوا قد تشبّعوا بعد بمبادئ الثورة الفرنسية.” (قول في التسامح، ص. 17-18).

كان فولتير مفكّراً موسوعياً وكان في بداية حياته كاتباً مسرحياً. اختار دراسة الأدب ضدّ رغبة والده لشغفه بدرس الأدب. فقد عدّه النقاد أكبر مفكّري فرنسا في القرن الثامن عشر. امتاز بنضاله من أجل الحرية. فثار على الظلم ودعا إلى نبذ التقاليد البالية، وقد ألّف العديد من الكتب العلمية والتاريخية والفلسفية، وله أيضاً العديد من الأشعار والروايات والمسرحيات.

houria 2

من المسرحية

بين النص وفضاء العرض

أعادت مسرحة هذا العمل بتفكيك شفراته وإعادة تركيبها معاني وتأويلات جديدة أكثر ثراء وجمالية بعد أن تمّ تحويل أجزاء من النص إلى خطاب مسرحي كثيف الدلالات، وإخضاعه لسنن وأعراف فضاء المسرح وِفق آلية جديدة لضبط شفرات النص وتوزيعها في بنية الخطاب. فالمَشاهد كانت تخضع لبعض الإضافات التي تأخذ في الحسبان كل ما يجري في الساحة العربية اليوم من تقتيل وترهيب، بإضافة أشياء جديدة مستقاة مما يعرفه زمننا من عنف سياسي ديني عقائدي عبر النصوص المشهدية ونَسَقها الاستعاري والتي نجحت في تحقيق زمكانية مشتركة للتلقي بين الممثّلين والجمهور مما ساهم في تكاملية العرض، خاصة حينما جسّدت المسرحية الصراع الرّاهن بين السّنّة والشيعة وصراع الفرق السنية فيما بينها الذي هو شبيه بالصراع بين الكاثوليك والبروتستانت، وكذلك صراع الفرق الكاثوليكية فيما بينها كما ورد في مقدّمة الترجمة. جاء كل هذا في انسجام تام مع الإثراء الدّلالي للخطاب المسرحي الذي عمل على تفعيل محمولاته السميائية التي تحملها معاني النص بعد تحويلها من عالمها الذهني الفكري إلى الإنجاز المشهدي الجمالي الغني بالإيحاءات والرموز التأويلية المفتوحة.

houria 3

اترك رد