بلال حسن التل
(كاتب- الأردن)
بالتزامن مع الانتحار الجماعي الذي يمارسه الأردنيون في المقاهي، حيث يهدرون وقتهم، وينحرون حياتهم انتحارًا مدفوع الثمن من جيوبهم كما قلنا في المقال السابق.. فإنهم يمارسون انتحارًا جماعيًا من نوع آخر يتمثل في منع الغذاء والتغذية عن العقل، بتجفيفهم منابع هذه التغذية من خلال قتلهم لثقافتهم ومعارفهم، ومن ثم تعطيل عقولهم.. والأدلة على ذلك كثيرة أولها: نسبة توزيع الصحف ومدى إقبالنا عليها، وهي بكل المقاييس نسبة متدنية، خاصة في أيام العطل، حيث يزيد الإقبال على الصحف عند معظم شعوب الأرض، لكنها تقل عندنا. علمًا بأن قراءة الصحيفة المحترمة هي من المصادر الرئيسة للثقافة في مختلف أنواعها ومجالاتها.
عند الحديث عن القراءة، نطرح سؤالاً هو: كم هي النسبة المخصصة من ميزانية الأفراد والأسر الأردنية لشراء الكتب، قياسًا إلى نسبة الإنفاق على السجائر والأراجيل؟ وهل ننفق مليار دينار سنويًا على الكتب مثل المليار الذي ننفقه على التدخين؟ وهل نحرص أثناء السفر على زيارة المكتبات، وشراء الكتب مثلما نحرص على زيارة معارض الملابس والمقاهي والمطاعم؟ وهل نحرص على شراء كتاب كحرصنا على شراء «كروزين من الدخان»؟ والجواب بكل تأكيد «لا» كبيرة، بل إن أرقام النسخ التي يتم استيرادها من الكتب الهامة والمنتشرة خارج الأردن التي يتم استيرادها إلى الأردن مخجلة، وأكثر منها مدعاة للخجل، حجم الإقبال على الكتاب الأردني، وحجم معاناة الكتاب الأردنيين الجادّين.
غير النسبة المخصصة من ميزانية الأسرة والفرد للإنفاق على الكتب ومصادر المعرفة الأخرى، نسأل عن نسبة الوقت المخصص من يومنا للقراءة والتعامل مع مصادر المعرفة الجادة، والجواب عن هذا السؤال صادم أيضًا، فالشخص الذي لا يخصص جزءًا من ميزانيته لشراء أي مصدر من مصادر المعرفة وأولها: الكتاب، والشخص الذي يمضي جلّ وقته في المقاهي، ليس لديه في معظم الأحيان وقتٌ للقراءة والتعامل مع مصادر المعرفة.
وما دمنا في حديث النسب والأرقام فإننا نتساءل عن عدد المكتبات العامة في بلدنا، قياسًا إلى عدد المقاهي، وعن عدد مراكز بيع الكتب ومصادر المعرفة، قياسًا إلى عدد محلات بيع الدخان والأراجيل ومستلزماتها، والجواب بالتأكيد صادم جدًا، فلا يكاد يخلو شارع من شوارعنا الرئيسة من المقاهي أو محلات بيع الدخان والأراجيل، بينما تخلو معظم شوارعنا من المكتبات.
غير الكتب والمكتبات، ما هي نسبة إقبال الأردنيين على المسرح؟ وكم مسرحية تعرض سنويًا في الأردن، سواء كانت من إنتاج أردني، أو لفرق عربية وأجنبية؟ وكم هي نسبة رواد مهرجانات المسرح قياسًا إلى رواد معارض الطعام والشراب؟ والجواب عن هذا السؤال أيضًا هو الآخر صادم، ومثله الجواب عن السؤال عن علاقة الأردنيين بالسينما، ومن ثم عن عدد دور العرض في بلادنا. وهل يعقل ان مدنًا كثيرة في بلدنا ما زالت بدون دور عرض سينمائي؟ فما بالك بالمسارح؟ ومن ثم فإن السؤال عن العروض الموسيقية يصبح نوعًا من العبث واللامعقول!.
كثيرة هي مؤشرات الانتحار الجماعي الذي يمارسه الأردنيون من خلال تجفيفهم منابع الثقافة، ومن ثم حياة العقل، ابتداءً من عدم اهتمامنا بثقافة الطفل، كتّابًا ومسرحًا، وسينما، وصولاً إلى المقاطعة شبه العامة، ليس للكتب والمكتبات فحسب، ولكن لكل مصادر المعرفة وأولها: ارتياد المكتبات التي استبدلناها بارتياد المقاهي.. أو ليس ذلك نحراً جماعياً للعقل الذي هو أساس الحياة الراقية للفرد والمجتمع؟!.