إيلي مارون خليل
(أديب وروائي وشاعر- لبنان)
… وقد تجد، في القِيَم، طريقَك إلى السّوى. فالقِيَمُ تفتح الأرواحَ، الأذهانَ، القلوبَ، بعضها على بعض. ما يعني أنّها تُشْرعُ الطّريق منك إليه، ومنه إليك، وبينكما… انطلاقًا من الجميع إلى الجميع، وبينهم جميعًا.
إنّ انفتاحَ الأرواحَ يجعل منها صفحةً واحدةً من دون حدود، ولا سُدودٍ، ولا حُصونٍ، ولا أبراج. ما يقرّبها، بعضها إلى بعض، بعفويّة وبساطة وصدق ورؤيا. ألعفويّةُ، في الحياة، أن تحيا من دون معوّقات، من دون عقَدٍ، حياةَ طمأنينةٍ وسلام وغنى داخليٍّ حميمٍ، مُمتزِجٍ بالفرح الأقصى. والبَساطةُ المُمتزِجةُ بالطّمأنينة، غِنًى روحيٌّ شَفيف يشفُّ الحياةَ، ينحتُها، يَصقلُها، يُلوّنها، يُسبغُ عليها مسحةَ الارتياحِ النّبيلِ الرّاقي. أمّا الصّدقُ، فارتياحٌ روحيّ ـ نفسيّ ـ فكريّ ـ اجتماعيّ رائقٌ، صافٍ، يُحوّل الحياةَ إلى سيمفونية في غاية الانِسجام الذّاتيّ الجَماعيّ، ما يؤدّي إلى المجتمع الحيّ الحَضاريّ الخالي من أيّة شائبة قد تؤخّر تطوّرَه أو رقيَّه، فتستمرّ الحياةُ مستقرّةً على المحبّة والارتياح والطّمأنينة المُسالِمة. تبقى الرّؤيا، وهي نوعٌ من نَفاذِ البصيرة إلى المستقبل، الّذي هو تكريس الحاضرِ لتخطيطٍ واضح وسليمٍ وناجحٍ، لمستقبل يُرجى آمِنًا وناجحًا، إذًا سعيدًا، وفي منتهى الارتياح الرّوحيّ ـ النّفسيّ في صلب المجتمع المُعافى، كونه نتيجة انفتاح الأرواح الهانئة.
وانفتاحُ الأذهانِ هَدْمٌ لانغلاق النّفس والرّوح، وارتقاءٌ سامٍ بهما إلى عالم البهاء النّقاء الصّفاء الرّجاء. أن تهدم انغلاقَ النّفس، فأنت تُشْرع لها الآفاق الّلانهائيّة على كلّ مدى، كلّ مدار؛ حيث الأنوارُ الّلطيفةُ، والنّوايا الشّفيفة، والعوالمُ النّظيفة، فكلٌّ إلى ارتقاء. أن تهدمَ انغِلاقَ الرّوحِ، هو أن تجعل الإشراقَ ينبجِسُ منها، مهلّلًا، محتفِلًا بالتَّجاوزِ، تَجاوز كلّ ما يُعيقُك عن أن تحيا نورانيّتَك. أن ترتقي، هو أن تتخطّى مادّيّتَك المُعتِمة الّتي تُكَبّلُ انطلاقَك البَنّاءَ المُحْيي الخصبَ المشرِفَ على ما ترجو من هناء في المستقبل المنشود، الّذي ليس إلّا أملَ طموحِك، وطَوعَ رغبتِك، ورَهْنَ عزمِك، كلّ لحظة. كلُّ لحظةٍ أبدٌ موعودٌ مُضيءٌ منذ الماضي المُنسلِّ خِفْيَةً، رُوَيدًا رويدًا، فلا تشعر بأذيّته، ولا بتلصُّصه؛ فالزّمنُ حَسَنُ الانسِلالِ، لا يَقي، لا يؤخّر، لا يَملّ، لا يشقى، لا يتعب، فلا يتوقّف. يسرق العمر، يغدر، لا يُهملُ ولا يُمهِلُ. ألزّمَن أمهر مَن يسرقُ العمر، أو يُنهيه، أو يقطعُ حُسْنَ انسِيابِه!
وما العمرُ؟ وتاليًا: ما الحياة؟
هلِ العمرُ فترةٌ زمنيّة تتراوح بين الولادة والموت نملأها كيفما اتّفق، بما اتّفق، لأيّ غرضٍ كان، بلا غايةٍ، ولا طريقة، ولا نوعيّة، فتكون تَراكُميّة سخيفة لا وجهة لها، ولا رجاء منها!؟ وتاليًا تكون فترةَ انتِظارٍ للموتِ، بما فيها من سوداويّة وتشاؤميّة تؤدّيان بصاحبهما إلى الوقوع في الحُفَر الظّلاميّة، كأن تنقضي في مستنقعات آسنةٍ، نُطلِقُ عليها اسمَ محطّات، نظنّ أنّها تُنقِذُ من تكرار وعفونة ومَللٍ وشقاء!؟ أم هو هذه الفُسحة الزّمنيّة الحلوةُ، ممنوحة لنا، ونحن مَن يُخصِبُها بما نشاء، بما يُفترَض، لنقضيَها ملأى بالخير، بالسّعادة، بالسّلام، الطّمأنينة، المحبّة، التّسامح، الغفران، الصّدق، وبقيّة القِيَم، وهكذا نكون على طريق الآخر، إقامةً للمجتمع الأكثر رقيًّا، وتَرسيخًا له، وتأصيلًا !؟
وهلِ الحياةُ إلّا هذه المساحةُ الرّوحيّةُ النّفسيّة الفكريّةُ، غيرُ المادّيّةِ الّتي علينا أن نُخصِبَها بما يُثمِرُ ويُفيد ويُجمّل ويَبني ويُرَقي فنسمو، دومًا، نحو مِثالٍ هو المُرْتَجى والمَآل!؟ فكيف نُهمِلُ مِنحةً كهذه، نعمةً وُهِبْناها، بها يَحسنُ أن نهتدي، على نورها يَجملُ أن نسيرَ، بمحتواها نخلصُ، فنكون طريقَ واحدِنا إلى الآخر، وردةَ عمرِه، بل حياتِه؛ أملَه، بل رجاءَه؛ أناهُ الثّانيةَ، بل كمالَه!؟
وتاليًا، فالعمرُ وِعاءٌ، والحياةُ مَضمونُه! والأملُ أن يَنتفِضَ المَرْءُ على هَشاشةِ عمرهِ، ومادّيّتِه، فيملأه بما يُتَمَنّى، فيرتفع به، مرتقِيًا نحو الآخرِ، مُلاقِيًا إيّاه… يُزهرُ العمرُ وتزدهي الحياة! ما إلّا بالقِيَم يتمّ ذلك!
(ألثّلاثاء 23 شباط 2016)