بلال حسن التل
(كاتب- الأردن)
تحدثنا في المقال السابق، وفي إطار تعقيبنا على مقال الدكتورة آية الأسمر، حول جدلية العلاقة بين المثقف وحركات الإصلاح، المنشور على صفحات الرأي الغراء، عن الشروط التي يجب توفرها لتؤتي حركات الإصلاح أُكلها، وقلنا أن أهم الشروط الواجب توفرها في هذه الحركات هي أن تأخذ بالأسباب،وأول هذه الأسباب هي الإعدادان المادي والمعنوي.
فبدون تلازم هذين الاعدادين لن يتمكن مصلح من إحداث التغيير في مجتمعه، ومن ثم العودة بأمته إلى حالة النهوض الحضاري، وحتى يتمكن المثقف من أداء دوره في الاعدادين المادي والمعنوي لأمته على طرق نهوضها الحضاري, لا بد من أن يسعى هذا المثقف إلى تجسيد أفكاره في واقعه وواقع الناس الذين يعيشون في محيطه، وهم عند المصلح أبناء الأمة كلهم، لأن المصلح يسعى إلى تغيير واقع الأمة لا واقعه الفردي،وهذا يستدعي أن يفهم المثقف واقع أمته ومكونات هذا الواقع المادية والمعنوية، ليستطيع أن يستنهض عوامل النهوض في الأمة.
لقد دلت دراسة أسباب إخفاق الكثير من حركات الإصلاح ومنها العربية, على أن الذين تصدوا لإحداث هذا التغيير وقيادته كانوا غرباء عن واقع أمتهم وفهمه، وكانت محركاتهم الفكرية تستمد قوتها من تجارب أخرى غير تجارب أمتهم، وكان جل جهدهم ينصب على محاولة استنساخ تجارب الأمم التي انبهروا بها، وحاولوا إنزال هذه التجارب على واقع أمتهم، دون مراعاة للسياق الحضاري بمكوناته العقدية والثقافية والتاريخية والجغرافية، وكل مكون من هذه المكونات له دور. في بناء تجرية الأمة، أية أمة, مما لا يجوز تجاهله, ولعل هذا هو الخطأ القاتل الذي وقع فيه جل المثقفين الذين تصدوا لعملية التغيير والنهوض في بلادنا، عندما سعوا إلى استنساخ النموذج الغربي بشقيه الرأسمالي والاشتراكي وإنزاله على أمتنا دون مراعاة للخصوصية الفكرية لهذه الأمة فكان حصاد الإصلاح في بلادنا هشيماً.
ما أريد أن أقوله أن من أسباب إخفاق حركات الإصلاح في بلادنا، أنه رغم وجود المثقفين على رأسها وهو شرط من الشروط التي ذكرتنا بها الدكتورة الأسمر لقيام حركات الإصلاح، تتمثل في عجز هؤلاء المثقفين عن بناء النموذج النظري الخاص والمستقل، الذي يجب أن تسعى أمتنا إلى بنائه في مستقبلها الذي ترنو إليه، وسبب فشل بناء هذا النموذج يتمثل في أن جل مثقفي الأمة سعوا للتماهي في تجارب الآخرين، وجاءت دعواتهم للإصلاح مجرد ردات فعل سعت لتقليد الآخر، دون بذل جهد حقيقي لبناء نموذج مستقل يستلهم التجربة الحضارية لأمتنا وثقافتها وخصوصيتها، حتى لقد تم طرد لغتها من معاهد العلم ومعاقل الثقافة، لحساب لغات أخرى أُعجب المثقف العربي بتجارب أهلها،وقد فاته أن العلوم التي تصنع النهضة لا يمكن أن تؤتى أُكلها إلا إذا استوطنت لغة الأمة الساعية إلى النهوض.
غير عجز المثقف العربي عن بناء النموذج النظري للنهوض فقد غاب شرط آخر من شروط النهضة التي ذكرتها الدكتورة الأسمر، وهو شرط شمولية عملية الإصلاح للمجتمع كله بكل مكونات حياته سياسياً واقتصاديا، وقبل ذلك فكريا وثقافيا، لأن النهوض الفكري هو أساس أي نهوض شامل لأنه النهوض الذي يبني الوعي والقناعات التي تتحول إلى سلوك في واقع الناس، ولعل غياب هذا الشرط هو سبب إخفاق جل حركات الإصلاح التي شهدها الوطن العربي في العقود الأخيرة، فقد انصرفت هذه الحركات إلى إصلاح جزيئات من واقع الأمة، وكانت في غالبيتها تنصرف إلى معالجة الواقع السياسي دون غيره، مع أن السياسة هي إفراز لواقع فكري وثقافي واجتماعي واقتصادي لابد من السعي للنهوض به كله،لأن تخلف مكون من مكونات حياة الأمة لا بد أن ينعكس سلبا على سائر المكونات الأخرى لهذه الحياة، ولعل تسرع دعاة الإصلاح في الوصول إلى النتائج هو الذي دفع غالبيتهم للتركيز على الجانب السياسي من حياة الأمة، باعتباره الأسهل من حيث القدرة على دغدغة عواطف الجماهير واستثارتها، بينما الإصلاح الاجتماعي والثقافي والفكري قد يصطدم مع رغبات الجماهير، مثلما أنه يحتاج إلى جهد وصبر ينتج عنها تراكم في بناء قناعات التغير عند الناس، وهو ما أشارت إليه الدكتورة الأسمر وهي تعدد شروط نجاح حركات الإصلاح، فقد كان من هذه الشروط التي حددتها شرط التدرج والتراكم الذي يأتي بعد الصبر عندما قالت” إن حركات الإصلاح لا تتم بشكل عشوائي أو بطريقة كلية بل تحتاج إلى المرور بمراحل زمنية تتعاقب وتتواصل، بحيث يؤدي التراكم الكمي لخطوات الإصلاح إلى تغير نوعي في المجتمع”.
وعندي أن هذا هو الشرط الأساس لإحداث أي تغير في المجتمع ونهوضه وإصلاح واقعه،لأن تغير المجتمع لا يتم دون تغير قناعات أبنائه وهذا أصعب أنواع التغير وابطئها، وهنا نعود مرة أخرى لنستذكر سير الأنبياء والمرسلين الذين تعبوا لإصلاح واقع مجتمعاتهم، فقد صبر كل أنبياء الله ورسله طويلاً، ولم يتعجلوا النتائج لأنهم تعاملوا مع القناعات وسعوا إلى تغييرها، وهو الأمر الذي لا يتم دفعة واحدة بل لا بد من أن يتم ببطء، وعلى مراحل حتى ينضج ويؤتى أكُله، وهذا شرط لا بد من أن نعيه جميعا، فنؤمن أولاً بشمول وتكامل الإصلاح بالتدرج دون عجلة لأن من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه ولعل العجلة والتعجل سبب رئيس من أسباب إخفاق حركات الإصلاح في بلدنا .