الأب كميل مبارك
تمهيد
لَوْ أَردْنا أَنْ نَضَعَ إطارًا ثقافيًّا لمَسْأَلَة السلام اليوم، لَرَأَيْنا أَنَّ جُذورَ المشكلةِ تعودُ إلى الهوَّةِ السَّحيقةِ بَيْن المفاهيم الثقافيَّة في الغَرْب والشَّرْق.
لقد اعْتقدَ الغربيُّون أَنَّهم إذَا مَا تحَرَّروا من الله يستطيعونَ أَنْ ينظِّموا دنيا البشر وسُلوكيَّاتهم بالعَقْلِ والتكنولوجيا وَحْدَها بعيدًا عن القِيَمِ والفضائِل الإلهيَّة وعن كلِّ مَا يُلْزِمُنا به القانونُ الطبيعيُّ في الانتظامِ الكَوْني العام، فَفَشِلوا في مَشْروعهم وأَتى الخَرابُ فضاعت القِيَمُ وتاهَ العَقْلُ عن مَسارِه الذي وُضِعَ له.
أَمَّا الشَّرْق، وبخاصَّةٍ شَرْقنا الأَدْنى والأَوْسط، فقد ابْتَكَرَ النَّاسُ فيه آلِهَةً على مقاسِهِم عِوَضًا عن أَنْ يَرْتَقوا بذَوَاتِهِم إلى مَا أَراده إلَه السَّلامِ والمحبَّة، وخدَّروا عُقولَهُم بمورفين ثقافيٍّ مَغْلُوط، ففشَّلُوا آلِهَتَهُم وأَضَاعوا العَقْلَ فأَتَى الخَراب.
بَيْنَ هَذَيْن الانحرافَيْن حَيْثُ لا مَوِقِع للسَّلامِ ولا محطَّة للتَّآخي والوِئام، جاءَت الكنيسةُ لتنطلِقَ في حديثِها عن السَّلامِ من كلامِ السيِّد المسيح الَّذي يقول: السَّلام أَسْتَوْدِعُكُم، سلامي خاصَّةً أُعْطيكم، لَيْسَ كما يُعطي العالَمُ أُعطيكم أَنا. فسلامُ المسيحِ يأْتي عَبْرَ المُصالحَةِ الَّتي أَرْساها بالتَّجسُّد والفِداء. فصالَحَنا مع أَبيه ومع بَعْضِنا البَعْض ومع أَنْفُسِنا ومع الطَّبيعة. ومَن يعيشُ هذه المصالَحَةَ لا بُدَّ له من أَنْ يفْعَلَ السَّلامَ ويَنْعَمَ به. وهو حينَ علَّمَنا أَنْ نصلِّيَ قائلين: إغفِرْ لنا كمَا نحن نغفرُ لِمَنْ خَطِئَ وأَساءَ إليْنا، إنَّما رَبَطَ السَّلامَ بَيْننا وبَيْنَ الآخرين بالغفْرانِ ولَيْسَ بالقوَّةِ أَو السِّلاحِ أَو توازُنِ الرُّعْب، وبهذا السَّلامِ نَعْبُر إلى المَلَكوتِ لمُعايَنَةِ وَجْهَ الله. أَلَيْسَ هذا ما تَعْنيه عِظَةَ المسيحِ على الجَبَلِ حينَ قال: طوبى لفاعِلي السلامِ فإنَّهم أَبناءُ الله يَدْعون.
1- سلام العدالة
ترَى الكنيسةُ أَنَّ السَّلامَ قيمةٌ عالميَّةٌ وواجِبٌ إنسانيٌّ له جُذورٌ مُنْغَمِسَةٌ في القانونِ الطَّبيعيِّ للعَقْلِ البشَريِّ والمبادئ الأَخلاقيَّةِ للمجتمع، وكلُّ هذه تعودُ إلى اللهِ بالذَّات، مَبْدَأ كلِّ الكائِناتِ وغاية الإنسانِ القُصْوَى، فهو الحقُّ المُطْلَقُ والخَيْرُ الأَسْمَى. والسَّلامُ لَيْسَ انْتِفَاءَ الحَرْبِ فحَسْب، كمَا أَنَّه لَيْسَ توازُنًا بَيْن القِوى المتخاصِمَة، بل هو بنْيَان النِّظام المُجْتَمَعي العالَمي على أُسُسِ العدالةِ والمحبَّة، إنْطلاقًا من مَفْهومٍ صحيحٍ للشَّخْص البَشَري. وحينَ نقولُ إنَّ السَّلامَ ثَمرةُ العدالَةِ بمَفْهومِها الواسِع، نَعْني احْتِرامَ التَّوازُنِ والتَّناغُمِ بَيْنَ جميعِ أَبْعادِ الشَّخْص البشري. فالإنسانُ يهدِّدُ السَّلامَ في كلِّ مرَّةٍ يرَى أَنَّ ما يحقُّ له يُؤْخَذُ منه، وحينَ تُمْتَهَنُ كرامتُه وحينَ يتنافى التَّعايُشُ مع الخَيْرِ العام. من هنا ضرورةُ احترامِ جميعِ حقوقِ الإنسانِ ضمْنَ حدودِ الشَّرْع الإلهيِّ والطبيعةِ البشريَّة وخَيْر المجتمعِ البشريِّ العام.
2 – سلامُ المحبَّة
وكمَا أَنَّ السَّلامَ ثَمرةُ العَدْلِ، هو كذلك ثمرةُ المحبَّةِ التي متَى قَسَتِ العدالةُ تأْتي لتُعَوِّضَ عن هذه القَساوَة. فالعدالةُ تُمَهِّدُ الطريقَ وتُزيلُ العوائِقَ أَمامَ السَّلامِ الذي هو وليد المحبَّة، لأَنَّ المصالحةَ والغفرانَ مرتبطان بالمحبَّة أَكثر من ارتباطِهِما بالعدالة، لذلك قال البابا بولس السادس: إنَّ السَّلامَ يُبْنى يَوْمًا بَعْدَ يَوْم فهو إرادةٌ وفِعْلٌ وذلك عَبْرَ تَحْقيقِ مشيئَةِ الله، ولا يمكنُه أَنْ يكتمِلَ إلاَّ إذا التزم كلُّ واحدٍ من النَّاسِ بمسؤُوليَّاتِه تجاه السَّلام، وذلك حينَ يعيشُ كلُّ فَرْدٍ في المجتمع السَّلامَ الحقيقيَّ مع ذاتِهِ أَوَّلاً، وفي عائِلَتِهِ وحَيْثُ يمارِسُ نشاطَه في المجتمع، وهكذا يَصِلُ الإلتزامُ إلى المُجتمعِ السِّياسيِّ بكامله، فتُبْنَى بَيْنَ أَوْساطِ المجتمعِ البشريِّ ثقافةُ السَّلامِ المتأَصِّلَةِ في طَبْعِهِم منذ كانوا، وتَسْتَيقظُ بَيْنَهم الدَّعوةَ إلى سلامٍ حقيقيٍّ وكامل، وهذا لا يمكنُ أَنْ يكونَ إلاَّ بالتَّضامُن الواسع بَيْنَ أَفرادِ المجتمعِ البشريِّ وبَيْنَ المؤَسَّساتِ التي تدبِّرُ شؤُونَ هذا المجتمع. وإذا مَا تَمَّ التَّضامنُ، عَرَفَ الجميعُ أَنَّ العنْفَ لا يؤَدِّي إلى السَّلام، لأَنَّ العنفَ شرٌّ بذاتِه، وما هو شرٌّ لا يأْتي بالسَّلامِ ولا يَليقُ بكرامةِ الإنسان. فالعنفُ بالنسبة إلى المؤمنِ المسيحيِّ يَنْبَعُ من الكَذبِ الذي هو أَصْلُ الشُّرور، لأَنَّه يتنَافَى مع حقيقةِ إيمانِنا بإلهِ السَّلامِ والمحبَّةِ الذي بمَوْتِهِ وقيامتِهِ رَفَعَ العداوَةَ من بَيْن البشر.
3 – السلام والقُوَّة
أَمَّا السلطةُ الزمنيَّةُ التي أُوكِلَ إلَيْها من فَوْق أَمر السَّهر على الخَيْرِ العام وعلى سلامةِ الناسِ وسلامِهِم، فهل يصلُ بها الأَمْرُ إلى القَتْلِ من أَجْلِ حِفْظِ النِّظامِ وتأْمينِ العدالةِ وإحقاقِ الحقِّ؟ هل في كلامِ المسيحِ لبيلاطس – لم يكُنْ لك هذا السلْطانُ لو لمْ تُعْطَه من فَوْق – إقرارٌ ضمنيٌّ بحقِّ بيلاطس بإصدارِ حكْمِ المَوْتِ على المسيحِ أَو سِوَاه؟ وهل في كلامِ بولس الرسول «من لا يفعل الشرَّ لا يخاف السلطةَ أَمَّا الذي يفعل الشَّرَّ فعلَيْه أَنْ يخْشَاها لأَنَّها وسيلةٌ في يَدِ اللهِ لتردَّ الناسَ إلى الخَيْر، ولَيْسَ عَبَثًا حمْلُها السَّيْفِ، لأَنَّها وسيلةٌ بِيَدِ الله لإحقاقِ الحَقِّ ومعاقَبَةِ فاعل الشرِّ». هل هذا الكلامٌ اعترافٌ بواجبِ استعمالِ السلطةِ للقوَّةِ من أَجْلِ إحْقاقِ السَّلام؟ وهل دَعْوَةُ المسيحِ في قَوْلِه مَنْ لا سَيْفَ عنده فليبِعْ رداءَه ويشترِ سَيْفًا، تشريعٌ لاقْتِنَاءِ السِّلاح؟ وهل يتناقَضُ هذا المَوْقِفُ مع كلامِ المسيحِ لبطرس من أَخذ بالسَّيْف فبالسَّيْفِ يؤخذ؟
هناك جدليَّةٌ قائِمةٌ وما تزال وستَبْقَى بَيْنَ الحقِّ والقوَّة. فمن الطبيعيِّ أَنْ يختارَ النَّاسُ الحقَّ والعدالةَ، ومن الشَّائِعِ أَنْ يتَّبِعوا القَوِي. فالحقُّ غيرُ المدْعومِ بالقوَّةِ عاجز، والقوَّةُ التي تَسْتَغْني عن الحقِّ قاهرةٌ طاغِيَة. وإذا كانَ بَعْضُ النَّاسِ يخالِفُونَ الحقَّ فلأَنَّ الأَشْرارَ مَوْجودون، وإذا اتَّجهتْ أَصابِعُ الاتِّهامِ نَحْوَ القوَّةِ فلأَنَّ المظْلومينَ كثيرون. من هنا ضرورةُ مساندةِ القوَّةِ للحقِّ والعملِ على أَنْ تصبِحَ القضايا العادلةُ قويَّةً أَو على جَعْلِ القوَّةِ عادلة. أَمَّا أَنْ نَرْضَى بالقوَّةِ البعيدةِ عن الحقِّ لأَنَّنا عاجزونَ عن جَعْلِ الحقِّ قويًّا، فهو أَمْرٌ مرفوضٌ منطقيًّا وأَدبيًّا.
لذلك على القويِّ أَنْ يَجْعَلَ من قوَّته فضيلة فلا يصبح عَبْدًا للقوَّة، وهكذا تصبِحُ القوَّةُ في خدمةِ العدالةِ وتشاركُ في صُنْعِ السَّلام.
أَمَّا الجنْديَّةُ بالذَّات فدَوْرُها الأَساسِيُّ هو حمايةُ السلامِ والدفاع عنه، وبهذا تَهْدِفُ إلى تحقيقِ العدالةِ بَيْن النَّاس. وإذا صَحَّ هذا التَّحديدُ فلا يكونُ الجنديُّ أَداةَ حربٍ بقَدْرِ ما هو صانعُ سلام. وإذا ما استخدم القوَّةَ فهذا يَعْني أَنَّه يضَعُ قوَّتَه في خدمةِ العدالة، في خدمةِ السَّلامِ والطمأْنينةِ الكامنةِ في حفْظِ النِّظامِ والتي تؤَمِّنُ سلامةَ الخَيْرِ العام لجميعِ الناس. وهكذا يكونُ الجنديُّ ممارِسًا لفِعْلِ المحبَّةِ في الخدمةِ والتَّضْحِيةِ حتَّى بالذَّات.
4 – نزع السِّلاح الطريق الأوسع إلى السلام
تقولُ العِظَةُ على الجبلِ، طوبَى لفاعلي السَّلامِ فإنَّهم أَبناءُ الله يُدْعَوْن. ومَنْ يَسْعَى لفِعْلِ السَّلامِ لا بُدَّ له من إزالةِ أَمْرَيْن، السِّلاح وهو الآلةُ التي تجعلُ من الحَرْبِ قاسِيَةً وواسعة، والشرُّ الكامنُ في النُّفوسِ الآمرةِ بالسُّوءِ الذي يدفعُ الانسانَ إلى محاربةِ أَخيه.
أَمَّا السِّلاحُ فالكلُّ يعرفُ أَنَّه باتَ منتشِرًا بأَشْكالِهِ المختلِفَةِ، خفيفًا وثقيلاً وجرثوميًّا وكيميائيًّا ونوَوِيًّا وخلافَ ذلك ممَّا لا أَذكرُه، ونَزْعُ كلِّ هذه الترسانَةِ من العالمِ أَمْرٌ يبدو صَعْبًا جدًّا إنْ لمْ يكنْ مستحيلاً. فالمطلوبُ إذًا الحدُّ من انْتشارِهِ والاتِّفاقُ بموجَبِ معاهداتٍ دَوْليَّةٍ تمنعُ استعمالَ الخطيرِ منه، وهذا ما يُقَلِّلُ خَطَرَ اشْتِدادِ العنْف. غيرَ أَنَّ هذا الأَمرَ يسْتَدْعي الثقةَ المتبادَلَةَ بين القِوَى الفاعلةِ في العالم. وقد جعلَ البابا يوحنَّا الثالث والعشرون من انعدامِ الثقةِ المتبادَلَةِ سببًا أَساسيًّا لعدمِ نَزْعِ السِّلاح. ويُضيف إنَّ الثقةَ المتبادَلَةَ لا يمكنُ أَنْ تترسَّخَ إلاَّ في احترامِ النِّظامِ الأَخلاقيِّ العام الذي يُبْنَى على الله، هذا وإذا عُدْنا إلى قداسةِ البابا فرنسيس في حديثِهِ عن اللَّامبالاةِ نراه يجعلُ منها سببًا واضحًا للشُّرورِ والاقتِتَال.
لذلك وجبَ على الدُّولِ أَنْ تَسْعَى لتحديدِ نظامٍ أَخلاقيٍّ مشترَكٍ أَو مَقْبولٍ من الجميع. يكونُ أَساسًا للثقةِ المتبادَلَةِ ويعبِّرُ عن اهتمامِ الجميعِ بمسْأَلَةِ السَّلامِ للجميع. وإذا تعذَّرَ قُبولُ هذا النِّظامِ الأَخْلاقيِّ المشتَرَك، فعلى الدُّوَلِ القُبولُ بسلطةِ مراقَبَةٍ دَوْليَّة. وقُبولُ هذه السُّلطة، يقول بيُّوس الثاني عشر، هو دليلٌ على سَعْيِ الدُّوَلِ إلى تَجَنُّبِ الحروبِ وبُرْهانٌ على حُسْنِ نَوَايا السُّلطاتِ فيها. غَيْرَ أَنَّ اتِّفاقًا من هذا النَّوْعِ يجبُ أَنْ يكونَ على المستوى العالَمي، ويجبُ أَنْ يعْرِفَ المشارِكونَ أَنَّ نجاحَ هذا الاتِّفاقِ يُبنَى على قواسِمَ مشترَكَةٍ بَيْنَ الأُممِ وهذه القواسِمِ المشتَرَكَةِ تنْبَعُ من القانونِ الطبيعيِّ المَوْضوعِ في الطَّبْعِ البشري.
5 – السلام والقانون الطبيعي
كلُّ هذا يبيِّنُ أَنَّ السَّلامَ مَرَدُّه إلى السَّيْرِ بحسَبِ القانونِ الطبيعيِّ الذي وضَعَهُ اللهُ في كلِّ إنسانٍ والذي يتعارضُ مع الشَّرِّ الدَّخيلِ على النَّفْسِ البشريَّة. فالقانونُ الطبيعيُّ هو السَّلام، والسَّيْرُ بحسَبِ نظامِهِ يَعْني العَمَلَ بإرادةِ الله. هذا مَا أَكَّدَ علَيْه قداسةُ البابا يوحنَّا بولس الثاني في رسالتَيْه: عَظَمَةُ الحقيقةِ وإنجيلُ الحياةِ حين قال: لأَنَّ الناسَ لا يسيرونَ بحَسَبِ القانونِ الطبيعيِّ الذي وضَعَهُ اللهُ في طَبْعِهِم، أُغْرِقُوا في الفساد وانْعَدَمَتِ العدالةُ وعمَّتِ اللَّامساواة إقتصاديًّا وإجتماعيًّا، وشاعَ الحَسَدُ والبغْضاءُ وباتَ التكبُّرُ وسوءُ الظنِّ سيِّدَ المَوْقفِ في العلاقاتِ بَيْنَ الناسِ كمَا بَيْنَ الأُمَم، وكلُّ هذه تُهدِّدُ السلامَ وتسبِّبُ الحرب.
هذا ولمْ يكُن المجمعُ الفاتيكانيُّ الثاني غريبًا عن هذا الرَّأْيِ حينَ قالَ: بقَدْرِ ما يَغْرَقُ الناسُ في الخطيئَة، تكونُ أَسبابُ الحروبِ أَكثرَ فعاليَّة، وبقَدْرِ ما يتَّحِدُ النَّاسُ بالمحبَّة ويتجنَّبونَ الخطيئَة، يبتعدونَ عن العنْفِ ويعمُّ السلامَ وتسودُ حضارةَ المحبَّة.
6 – الإنماء هو الأسم الجديد للسلام
حينَ أرادَ قداسةُ البابا بولس السادس أَنْ يَرسُمَ خارطةَ طريقٍ للسلامِ في رسالتِهِ «تقدُّم الشعوب»، جَعَلَ من الإنماءِ الشَّامِلِ والمتوازِنِ حجَرَ الزاوِيَة في مفهومه للسلام. وكلمتُه في هذا المجالِ ساطعةٌ دامِعةٌ وهو الذي قال صراحةً: لا بُدَّ للعازر الفقيرِ أَنْ يَجلِسَ على مائِدةِ ذاك الغَنيِّ. وإذا لَمْ يجلسه الغنيُّ بالحُسْنى، جَلَسَ بالحربِ والإرهاب، من هنا وقَطْعًا لطريقِ الشَّرِّ الممثَّلِ بالحروب، دعا قداستُهُ إلى فِعْلِ إنماءٍ شاملٍ ومتوازِن، لا بَيْنَ القطاعاتِ وحَسْب بل بَيْنَ ما هو للجسدِ ومَا هو للعقْل والروح، والطريق الأَقرب إلى هذا الإنماء، هو التضامُن المتكامل بين الناسِ أَفرادًا ومؤسَّساتٍ ودُوَلاً، بَيْنَ العارِف والجاهلِ والغنيِّ والفقيرِ والدُّوَل المتقدمة والأُخرى النَّامِيَة. وهكذا يصبحُ الإنماءُ الإسمَ الجديدَ للسلامِ كما أَحبَّ قداستُه أَنْ يسمِّيَه.
خاتمة
أختُمُ كلامي نقْلاً عن المفكِّرِ الفرنْسيِّ بوسُّويه Bossuet الذي وَصَفَ، مع كثيرٍ من أَترابِه، الحربَ بالأَمْرِ المُرْعِبِ الذي يتعارضُ مع شَرَفِ الإنسانيَّة. وهذا ما دَفَعَ البابا بولس السَّادس إلى أَنْ يقولَ في خطابِهِ أَمامَ الجمعيَّةِ العموميَّةِ للأُممِ المتَّحدةِ سنة 1965: لا مجالَ للعَوْدةِ إلى الحرب، خاصَّةً وأَنَّ الوصيَّةَ الإلهيَّةَ واضحةٌ في هذا المجالِ وهي تأْمُرُ بعدم القَتْل. أَجل، لقد قالَ اللهُ لا تقتلُ ولكنَّ الناسَ يتقاتلونَ أَفرادًا وجماعاتٍ ودُوَلاً وكلٌّ يدَّعي بحقِّه السَّاطع دفاعًا أَو هجومًا، على الرغم من تكْرارِ نداءَاتِ أَهلِ النُّصْحِ والإرشادِ التي تَشْجُبُ الحربَ وتضعها في خانةِ التخلِّي عن الحكمة والعقلانيَّةِ والحوارِ من أَجْلِ حلِّ المشاكل بين الأُمم.
هذا لَعَمْري دليلُ على أنَّ الدربَ إلى تحقيقِ السلام طويل طويل، فالبشريَّةُ اليوم تَحْيا وكأَنَّ اللهَ غير موجود، وأَيُّ سلام يمكن أَن يُبْنى بعيدًا عن إلهِ السَّلام ؟