حَصادُ الماضِي المُستَعاد!

maurice

مُورِيس وَدِيع النَجَّار

(أديب وشاعر- لبنان)

في زَحمة المطبوعات، وفي فترةٍ من عُمر مِنطقتِنا يَقفُ التَّاريخ، فيها، مَشدوهًا مُتأَمِّلًا لا يَملِكُ قرارًا مُبينًا، فالأرضُ تَتَمَلمَلُ بفِعل التَّغييرات الجذريَّة الصَّاعقة، فتختفي حُدودٌ وتَنبُت حدودٌ، يَطلُعُ علينا المُهَندس إميل عبدالله شاهين بكتابه “التَّكوينُ التَّاريخيُّ لنظام لبنان السِّياسيِّ الطَّائفيّ”.

صاحبُنا، هذا الصُّلبُ كَجِذعِ سنديانةٍ جَبليَّةٍ، الَّلطيفُ المَعشَرِ كَكِمِّ وَردٍ، المُلتَزِمُ العَتيقُ الَّذي كان مِن الطَّليعة الَّتي بَزَغَت على أَيديهِم نهضةُ الجامعة الُّلبنانيَّة، كانت له بَصمَةٌ عَميقةٌ في تاريخ النِّضال الطُّلَّابيِّ، أوائلَ ستِّينيَّاتِ القرن العشرين، يومَ كان مِن طلَّابها المُجِدِّين في الرِّياضيات، قبل أن يُكمِل دراستَه في الهندسة.

هو، اليومَ، كاتبُ تاريخٍ، وبالتَّحديد تاريخٍ سياسيّ.

فما تُراهُ يكون شَأوُه في خِضَمِّ دراسةٍ واسعةٍ تُغطِّي تاريخ لبنان؟

هل سيكون مُتجَرِّدًا أمام الوقائع والمُعطيات، أم سيَجنَحُ إلى التَّنظير في مُعتقَده السِّياسيِّ الَّذي ما فَتِئَ يُكافِح في صفوفه منذ يفاعَته؟

هل سيكونُ جديدًا، والموضوعُ قد استَنفَدَته الأقلامُ الحاذِقة، وجَهابِذَةُ الكتابة التَّاريخيَّة، منذ عقودٍ طوال؟

هل سَيَقَعُ في سَقَطاتٍ كُبرى، حيث شَدَّ العزمَ مَسيرًا في مَفاوِزَ قد تَعصي على ذوي الاختصاص؟

هل سَيَجِدُ المَسيرة الكتابيَّة شائكةً – وإن كان أصدر كتابًا مِن قَبلُ – وهو ابنُ الأرقام والخرائط الهندسيَّة؟

هل ستَكبُو خيلُه في حَلْبةٍ ليست لها؟

راودَتني هذه التَّساؤلاتُ حين أمسكت مُؤَلَّفَه الحافِلَ، الكبيرَ الحجم، الصَّادرَ حديثًا.

على عكس كُتُب التَّاريخ الجافَّة، فإنَّك تَجدُ فيه طَلاوةَ الحكاية، وحرارةَ الصِّدق في القناعات، والَّلهفةَ العارمةَ أمام المآسي الَّتي تتوالى على بلدنا الصَّغير، منذ مئات السِّنين. وحيث يَلفَحُك عُنفٌ في المَقول، فذلك لأنَّ صديقَنا قد عايَن الفسادَ في كلِّ مفاصِل الدَّولة، مِن عَهدِ الطَّلَبِ، حتَّى ابيِضاض الِّلمَّة. كما عاش بعض مآسي الوطن، وقرأ عن الكثير من سابقاتها في تاريخنا المُدَمَّى.

guilaf takouin

يقول كَارل مَاركس: “التَّارِيخُ يُعِيدُ نَفسَهُ، في البِدايَةِ كَمَأساةٍ، ثُمَّ كَمَهزَلَة”.

ونَستأذِنُ فيلسوفَنا، لنقولَ إِنَّ المَهزلَةَ، عندنا، هي أنَّ تاريخَنا يُعيدُ نفسَه، دائمًا، ودائمًا كمأساة.

تَأَلَّمَ صاحبُنا كَكُلِّ صادقِ نفسٍ، وتَكلَّمَ مِن جُرح. فهل تَنِزُّ الجراحُ إلَّا النَّجيعَ القاني؟!

يَتَمَيَّزُ الكتاب، على وَساعَتِه، بسلاسةِ السَّردِ، ويُجانِبُ كاتبُه الأكاديميَّةَ الجَهمَةَ، الشَّاقَّةَ، الجافَّةَ، ويُكثِرُ مِن التَّبويبِ في ذَكاءٍ ودُرْبَةٍ، ما يُريح القارئ في تطوافه، ويَطرُدُ الملالَة.

وقد أتت مَشهديَّتُهُ المُتَنَوِّعَةُ الطَّويلةُ “بانُورامِيَّةً”، لا تفوتُها التَّفاصيلُ، فالَّلوحةُ، كُلُّها، تحت المِجهر، والعَرْضُ سَلِسٌ سَلسَبيلٌ، والُّلغةُ سهلةُ المُتناوَل، تَتَّجِهُ كالسَّهم إلى غايتها، فلا متاهَةً تُضِلُّ، ولا تَصَنُّعًا يُعتَلُّ عَنهُ، ولا تَزاوِيقَ تُسِيءُ إلى رصانَة البلاغ.

وعلى تَعَدُّدِ الأحداث، وتَوالي تَدَخُّلِ الدُّول في شؤون لبنانَ، استطاع صاحبنا أن يَحفَظَ خَيطَ التَّسلسُل في هذه المَعمَعَة، فقَلَّما تَجِدُ فجوةً في سرده، أو تَقَدُّمَ روايةٍ على أخرى حيث لا يجب. لقد أظهر براعةً، لكأنَّه الرِّوائيُّ الحَصِيف، والمُجَرَّبُ الحَنيكُ، في لَبُوسِ المُؤَرِّخِ المُحيطِ بِجُملَةِ المشهد.

ومِمَّا يُحسَبُ له، في كلامه عن الفترة الزَّمنيَّة الرَّاهنة من حياتنا الوطنيَّة، أنَّه كان صريحًا لا يُحابي، ولا يُمالِئُ، ولا يُصانِعُ فئةً مِن دون أخرى، فقد رأى كل “أَهلِ الحكمِ يدافعون عن الطَّائفيَّة لأنَّها تُفَرِّق الُّلبنانيِّين ويَخشَونَ المُواطِنيَّةَ لأنَّها تَجمَعُهم” (ص 22).

ولكنَّه، عُمومًا، لم يكن ينظرُ إلى الأمور مِن بعيدٍ، وبِنفسِ المِنظار، بل بدا تحت تأثير قناعاتِه السِّياسيَّة، فكان مُنَظِّرًا لأفكارٍ مُعَيَّنةٍ، ومُبَشِّرًا بها، وهذا يُؤذي شموليَّةَ وموضوعيَّةَ كتابِ تاريخٍ يَحسُنُ أن يُطَوِّفَ قارئه به، مِن غير أن يرى كاتِبَه مُهيمِنًا على السُّطور.

وقد تكون مادَّةُ الكتاب باتِّساعِها، وكثافةُ المُعطياتِ والمعلوماتِ التَّاريخيَّةِ، وفَساحَةُ الفترة المدروسة، أَوقَعت المُؤَلِّفَ في بعض التَّكرار، الَّلهُمَّ إِلَّا أن نُعيِدها إلى رَغبةٍ في التَّوكيد.

في المفاصل التَّاريخيَّة ما قبل عام 1943، لم يكن لِهَوى المُؤَلِّف الشَّخصيِّ المكانَ الأَبرَزَ في البَحث. وعلى توثيقه موضوعاتِه بالرُّجوع إلى مُؤَرِّخينَ كبارٍ ثِقاتٍ، فإِنَّه كان يختارُ مِن مَظانِّهم ما يَخدُمُ أفكارَه ويَصُبُّ في المَجرى الَّذي يَشُقُّه حتَّى يَصِلَ إلى الفترة الحديثة من تاريخ لبنان. وهنا يَصُولُ ويَجُولُ في قناعاتِه السَّياسيَّة، مُحلِّلًا الأحداثَ، مُعَلِّلًا النَّتائِجَ، مُشيرًا إلى الأسباب، مُوَجِّهًا البحثَ في الاتِّجاه الَّذي رسَمَه، حين أَنَّ الكثيرَ مِن الوقائع لم تَجِفَّ أَورِدَتُها بَعدُ، ولم يُعطَى الزَّمنُ مَداهُ لِيحكُمَ، وهو مِن خِيرَة الحاكمين.

يُعِيدُ كاتبُنا كُلَّ مِحَنِ الحروب في بلادنا إلى عِلَّة وحيدةٍ: الطَّائفيَّة. فَـ”دَورِيَّةُ الحروب الُّلبنانيَّة تَكمُنُ في الدُّستور الطَّائفيّ” (ص 16).

لَكَم صَدَقَ، فَإِصبَعُه غُرِسَت في قَعرِ جُرحِنا الَّذي ما اندمَلَ يومًا، إِلَّا وَهمًا، وفي تَخَيُّلاتِنا.

إنَّ الرُّعاةَ في هذا الوطن الصَّغيرِ ككلمةٍ، الكبيرِ كفِعلِ الكلمة، يزرعون في الرَّعيَّة ثقافة الخُنوع والتَّزلُّم، ويحفِرون في خَلَدِهم خوفًا مِن الآخر، لِيَبقى في أيديهم الزِّمامُ، وليُفضيَ القِطافُ إلى سلالهم، يُوَزِّعون مِنه الفُتاتَ على الأتباع العُماة.

فَهَلَّا ذَكَرُوا أَنَّ “الَّذِينَ يُرَبُّونَ شُعُوبَهُم على عَقلِيَّةِ المَمالِيكِ يُوجَدُونَ ذَاتَ صَباحٍ وَخَناجِرُ المَمالِيكِ مَغرُوسَةٌ في صُدُورِهِم”، كما قال يومًا المُفَكِّرُ أنطُون سَعادَة؟

وصاحبُنا قناعَتُه راسِخةٌ بِأَنَّ “كَوْنَ الطَّائفيَّةِ زُرِعَت زَرعًا فَمِنَ المُمكِنِ اقتلاعُها” (ص 37).

حَبَّذا ما يقولُ، وليتَ ما رأى يَسرِي إلى عُروقنا جميعًا، فيُضحي واقعُنا سليمًا مُعافًى، وَنَنتَقِلُ مِن “دولة المزرعة” إلى الدَّولةِ العِلمانِيَّةِ  العصريَّةِ الَّتي عِمادُها الإنسانُ كقيمةٍ مطلقةٍ، وحيث “الدِّينُ لله، والوطنُ للجميع”، فَنَندَرِجَ يومئذٍ في موكب الأمم الصَّاعدة، ونُساهِمَ في إرث البشريَّة، وإنَّنا لَشعبٌ قادرون.

في الخُلاصة..

سواءٌ أَكنتَ تُوافِقُه في طروحاته الأيديولوجيَّة أم تعارضه فيها، فإنَّك لن تُنكِرَ مَقدِرَتَه في حَشد المعلومات في منظومةٍ سليمةٍ، على تعدُّدِها، وتفرُّعِها، ودِقَّةِ إشكالاتِها.

لقد رأى صاحبُنا خلاصَ البلاد والعِباد من زاويةٍ قد يَجِدُها آخَرون مُضَلِّلَةً، على أنَّه كان صادقًا مع نفسه وقناعاتِه، ففتح، في كتابه، بابًا واسعًا للجدَل والتَّعاطي، وهما أُسُّ كلِّ تقدُّمٍ وتطوُّرٍ، ونحن من جهتنا ندعو أربابَ الفكر، على تمايُزهم، إلى نقاشٍ عالي المَناف، علَّنا نخرجُ مِن حوار البنادق إلى حوار الأقلام.

ولَرُبَّ غامِزٍ على الرَّجل توجيهَ سردِه في اتِّجاهٍ سياسيٍّ مُعَيَّن. وهذا واقعٌ التزمَ هو به، وهو شأنه، ولن نَعذِلَهُ فموضوعاتُه تَناوَلت أَدَقَّ شؤونِ السِّياسة في بَلَدٍ حتَّى نُفاياتُه باتت مُسَيَّسة. ولكنَّ القارئ المُنصِف لن يَغفُلَ عن أنَّ صاحبَنا، حين رَأَى الشَّاذَّ استفحلَ، والهَناتِ والاعوِجاجاتِ طَفَحت، في الأَحلافِ، ما قَصَّرَ في الإِيماءِ الكاشِفِ للحقيقة. فمثلًا نراه، في رواية احتلال بلدة الدَّامور في كانون الثاني من العام 1976، يقول: “… ما دَفَعَ القُوَّاتِ المشتركةَ بأن تقومَ بهجومٍ حاسمٍ وأن تقوم بعضُ فصائلها بأبشع أنواع القتل والسَّرِقة والنَّهب والحرق” (ص 260).

فَلَيتَهُ عَمَّمَ نَمَطَه التَّأريخيَّ هذا على جُملَة الكتاب، فكان كَفَى نَفسَه الكثيرَ مِن الملامة والنَّقد. ولكنَّ رَغبَةَ إبلاغِ المُرادِ أَمَّارَةٌ بالهوى، وجُذُورَ المنازِعِ الشَّخصيَّة عميقةٌ في النَّفس.

ويبقى حَسْبُه أنَّه قَرَع ناقوسًا!

فلتُقرَع في مَدانا كُلُّ نواقيس الحرِّيَّة، لِتُرَجِّعَ صداها كلُّ نفسٍ حُرَّةٍ ترى في الوطن الحُرِّ السَّليم حِضنَها الأوحد. وقالها المُفَكِّرُ المِصرِيُّ أَحمَد لُطفِي السَّيِّد: “لا إِنسَانَ حُرًّا فِي أُمَّةٍ غَيرِ حُرَّة”.

ويبقى على كُلٍّ مِنَّا أن يحملَ راية النِّضال في سبيل الحقِّ، ولو في حَيِّزِهِ الضَّيِّق، فالأصواتُ الضَّعيفةُ إِنِ اتَّحَدَت أَضحَت هديرًا يُصِمُّ آذان المُفسدين، وَإِلَّا.. فَلَن يكونَ لنا مكانٌ في سِجِلِّ التَّاريخ النَّاصع. وهل كان الشَّاعر لامَارتِين(Lamartine) مُخطئًا يومَ قال: “عَارٌ عَلى مَن يُغَنِّي، وَرُومَا تَحتَرِق”؟

نَعَم.. سَنَظَلُّ نذكُرُ الماضيَ، لِنَستَقيَ مِنه العِبَرَ، فَـ”تَنَاسِيه مُوَافَقَةٌ عَلَى تَكرَارِه”، كما يقول وِينستُون تشرشل.

وَلَن نَتَخَلَّى عن الأمل في غَدٍ مشرقٍ..

ولن نَتَرَدَّى في هُوَّة اليأس والإحباط..

أَوَلَيس “بعد الحُرُوبِ تَتَنامَى المَحاصِيلُ مِن جَدِيدٍ، وَتَصمُتُ الثَّرثَراتُ الفَارِغَةُ أَمامَ جِدِّيَّةِ التَّارِيخ”، كما يقول الفيلسوف هِيغِل؟

*****

(*) الكتاب صادر عن دار الفارابي  سبتمبر 2015

اترك رد