ماذا لَوْ أَتَتْ مَرْيم!

pere-camille-moubarak-1

الأب كميل مبارك

راوَدَني ما يُشْبِهُ الحلمَ والْتَبَسَ عليَّ الأَمرُ، أَهُوَ حُلْمٌ كما تلكَ التي يراها النَّائِمُ أَمْ هو حلمُ اليَقَظَة، تعبُرُ مشاهدُه أَمامَ ناظِرَيَّ وتحفُرُ في ذِهْني كما الإزميلُ يفعلُ في الصَّخر، فيتركُ خلْفَهُ ما يَبْقى ولا يتآكلُ تحت زخَّات المطَر وفي لهيبِ الشَّمسِ، ولا تُزيلُهُ أَيَّامٌ تكرُّ وتكرُّ، فيبقَى، علَّ العابرين ينظرون ويعْتبرون.

رأَيْتُ مريم واقفةً حائِرةً وكأَنَّ الجلجلة باتت آلافَ الجلجلات، وراحت تبحثُ شاخصةً عَيْنَيْها في آلاف الصلبان، عَلَّها تجدُ على واحدٍ منها ابنَها يسوع، وإذا بصَوْتها العَذْبِ وقد أَضناه الدَّمعُ يناديني تَعَالَ، تَعَالَ وابحثْ معي لنعرفَ معًا على أَيٍّ من هذه الصلبان التي لفَّت المسكونة قد عُلِّقَ يسوع. أَتَيْتُ وفي رأْسي كما في رأْسها، صورةُ الجلجلة الأولى وعليْها ثلاثةُ صلبان ويسوع معلَّقٌ على أَوْسطِها بَيْنَ لِصَّيْن، وعلى رأْسِه إكليلٌ من شَوْك القَتَاد، وآثارُ الرُّمح الذي دَخَلَ جَنْبَه لم يختفِ خلف الدَّم النَّازف والماء. ورأَيْنا، ويا هَوْلَ ما رأَيْنا، على يمينِ المسيحِ صليبٌ وما من مصلوبٍ عليْه، فَقَدْ تَرَكَه ذاكَ اللِّصُّ التَّائِبُ وذَهَبَ إلى الفرْدَوْس، وعلى شماله آلافُ آلافِ الصلبانِ وعليْها لصوصٌ معلَّقون وقد كُتِبَتْ عِلَّتُهم على لَوْحةٍ وعُلِّقَت فَوْقَ رأْسِ كلِّ واحدٍ منهم. قَرَأَتْ مريمُ وقالت: إقرأْ فهلْ تَرَى كما أَرى؟ قرأْتُ مِئَاتَ اللَّوْحاتِ وكلُّها تقول: عُلِّقَ لأنَّني دعوْتُه إلى الخِدمةِ فسخَّرَ  النَّاسَ لخدمتِه، ومئَاتٌ أُخرى تقول: سلَّمته السُّلْطةَ فتسلَّطَ وأَعْطَيْته الحِكْمَةَ فتحكَّمَ بالنَّاس، وَوَهَبْتُه الكِبَرَ فتكبَّرَ، والمئَاتُ الباقِيَة تقول: خلَقْتُه للحُبِّ فعاشَ البُغْضَ وعلَّمْتُه الغفرانَ فامتلأَ من الأَحقاد، وسأَلْتُه العطاءَ فنامَ بالحَسَد وقَام. ثمَّ نظرْنا إلى آلافِ اللَّوْحاتِ المعلَّقة خَلْفَ لصوصِ الشَّمال وإذا بأَحْرُفِها ملتهِبَةٌ كنَارِ العَذَاب وكلُّها تقول: تعبَّد للمال وَقَد حَذَّرْتُه مِنْه، تعبَّدَ للمال وقد حذَّرْتُه مِنْه. ولَوْحاتٌ أُخرى وخَلْفَها آلافٌ، وقد كُتِبَ عليْها: رأَى الجائِعَ وما أَطْعَمَهُ والعُرْيانَ وما كَسَاه، وإذا بالنَّارِ تَشْتَعِلُ هائِلَةً فَوْقَ رُؤوسِهِم، وتَرَاءَى من خلالِ النَّارِ وَجْهٌ يَدْمَعُ ويقول: ماذا فَعَلْتم بالأَرْض وهي مَوْطِئُ قدَمَيَّ وبإخوَتِكم البَشَرِ وهُم مِنْ صُنْعِ يَدَيَّ.

vierge marie 1

وهنا أَمْسَكَتْ مريمُ بيدي وقالتْ تعالَ نبحثُ عن يسوع. وإذا بصليبٍ يبدو من بعيد، وقد كُتِبَ عليْه: مَلِكُ المُلوك. فاقتربْنا وإذا بنا نُشاهِدُ على أَقدامِ الصَّليبِ أَطفالاً وشُيوخًا وعجائِز وصبايا وقد أَضاءَ نورٌ أبْيَضُ كالثَّلج جِباهَهُم، وعلى أَجسادِهم حُلَلٌ وهَّاجةٌ لم يُبَيِّضْ مثلَها قَصَّارٌ على الأَرض، وعلى وُجوهِهم ابتساماتُ الرِّضى، وفي عيونِهم ما يُشْبِهُ دموعَ الفرح، فسأَلْناهم: وأيْنَ ملكُ المُلوكِ الذي كان مُعلَّقًا على هذا الصَّليب؟ فسمعْناهم يقولون بصَوْتٍ واحدٍ: نحنُ يسوعُ الذي صَلَبَهُ الطُّغاةُ الظَّالِمون، وامتهنَ كرامتَه الحُكَّامُ البائِسون، وحَرَمَه من لُقْمَةِ العَيْشِ الطمَّاعون الجَشِعون، وتَرَكَهُ للذِّئَابِ الرُّعاةُ الهاربون الذين تلَهَّوْا بما هُوَ للبُطون وتغافَلوا عن أماناتٍ عليْها مُؤْتَمَنون. نحن يسوع، ودربُ الجلجلةِ تحوَّلت إلى آلافِ الدُّروب، فهي في كلِّ بيتٍ وحَيٍّ وشارعٍ من بقاعِ الأَرض، ولم يعُدِ الرُّمْحُ في يَدِ ذاكَ الجنديِّ الرُّومانيِّ بل تكاثَرَ وباتَ آلافَ الرِّماح، وقد اختبأَ الجَلاَّدون في قلوبِ النَّاسِ وضمائِرِهم وعقولِهم، إنْ وُجِدَت. أَمَّا المسيحُ المصلوبُ فها هو في قلوبِنا، فتعالَيْ يا مريم وامْسحي جِراحَه بحبِّ عَيْنَيْكِ فكلُّنا ساهِرونَ مُنْتَظِرون.

اترك رد