فضاءات تشكيلية تعيد تركيب العناصر وتتحدى العدم
كلود أبو شقرا
“منظر متحرّك” عنوان المعرض الذي ينظمه متحف سرسق في بيروت للرسام التشكيلي اللبناني أسادور (17 مارس- 30 مايو)، يتضمن أكثر من مئة عمل على الورق، فضلًا عن لوحات وكتب مصوّرة أنجزها الفنان على امتداد الأعوام الخمسين الماضية.
للمرة الأولى ينظم معرض استعادي ضخم لأسادور، أحد أبرز رواد الحركة التشكيلية الحديثة في لبنان، تتجاور فيه لوحات جديدة وأعمال منفذة بتقنية الحفر وأخرى من مجموعة المتحف، وهي هبة من بيار قرداحي التي أوصى بها قبل وفاته عام 1996.
يتمحور فن أسادور حول سبر أغوار حالة حديثة تتراوح بين الاغتراب والتجذر في الأرض، ويزخر تأليف اللوحة بتفاصيل تمزج بين الأشكال المعمارية والكائنات والفضاء الكوني. جذبه سحر مبكر تجاه التكنولوجيا والمناظر الطبيعية، وفي وقت لاحق جذبه جسم الإنسان.
بالاعتماد على تأثيرات تتراوح بين الأيقونة البوذية والأقنعة القبلية الأفريقية في لوحات عصر النهضة، تسأل أعمال أسادور حول مكانة الإنسان في العالم، وبناء الهوية، ودور القدر والوقت والتاريخ.
انبهار الرسام بالتكنولوجيا، المناظر الطبيعية وجسم الإنسان استمرّ على مدى مسيرته التشكيلية. منذ ثمانينيات القرن الماضي يتركز عمله على الطبيعة المتفاوتة أو الأشكال الهندسية، وعلى رؤية للمدن في تحوّلها. في تسعينيات القرن الماضي ركز عمله على حضور الإنسان في الكون اللامحدود…
محطات
ولد أسادور عام 1943 في بيروت وترعرع فيها، وفي مراحل طفولته ومراهقته، نمت لديه نزعة لرفض التقاليد والعادات الموروثة المعششة في كل مكان، في البيت والشارع والمدرسة والمجتمع… وقد دفعه هذا الرفض إلى ترك المدرسة باكراً والالتحاق بصفوف اللغة والرسم في المعهد الثقافي الإيطالي في بيروت. في السابعة عشرة من عمره نال منحة لدراسة الفن في إيطاليا فأمضى ثلاث سنوات في أكاديمية بييترو فانّوتشي.
شكل 1964 محطة مهمة في فن أسادور، إذ عرض لوحاته للمرة الأولى في بيروت، فاستقطبت متذوقي الفن والنقاد على السواء، ونال منحة لبنانية لدراسة الفن في معهد الفنون الجميلة بباريس، فسافر إلى العاصمة الفرنسية، وراح ينهل من معين الفنون فيها، فأعجب بتيارات التجريدية والواقعية والتكعيبية والبدائية الإيطالية وباهاوس والسريالية…
أكسبه هذا الغنى الفكري والثقافي انفتاحاً على خيارات تعمق فيها وجعلها ركائز مهمة بنى عليها خطه الخاص الذي تنوّع بين الحفر والرسم بالألوان الزيتية والمائية والغواش…
القلق، هاجس أسادور الأول، فهو يسير بسرعة مع الأيام ويلهث وراء الزمن، مسجلا كل لحظة فيه بالخط واللون، ورابطا الماضي بالحاضر في سلسلة إبداعية تنبع حلقاتها من الوعي وتخاطب اللاوعي. وهو في كل ذلك، يسعى إلى التغلب على العدم، وألا تزول الأشياء وتتوارى، بل يفتتها ويعيد تشكيلها، فتنبض بالحياة والحركة منتفضة على تحديات الموت والعدم.
متأمل كبير للحياة، هو أسادور، يغرف من معينها الحلو والمرّ على السواء، وقارئ جيد للطبيعة، يسبر كنهها، يرتمي في أحضانها ويتلمس دفئها، ويترجم كل ذلك في لوحاته ألوانا دافئة حيناً وباردة ومتناقضة حيناً آخر، عاكساً من خلالها خبايا روحه وفكره ونبضات قلبه.
واقعية وطبيعية
تنساب ريشة أسادور بين الخطوط والألوان وتدون تاريخ الإنسان منطلقة من جذوره وسابحة في تأثيرات المحيط عليه… رغبة منه في إعادة رسم قصة الخلق بواقعية وبألوان الطبيعة المحيطة به.
يتميّز تأليف اللوحة عند اسادور بأشكال هندسية ودوائر وخطوط متداخلة وآلات وشخصيات غريبة، تبدو للناظر أنها موزعة بطريقة عشوائية فيما في الحقيقة هي نموذج عن واقع الفنان الذي تتداخل فيه لعبة الحركة والظل، وتتشعب الخيارات بين فلسفية وجمالية وفكرية مانحة للوجود معنى…
لا تنفصل عناصر اللوحة عند أسادور عن بعضها البعض، فالأشكال الهندسية تمتزج مع حضور الإنسان والطبيعة، لتؤلف في ما بينها مشهداً من مدينته بيروت التي حملها أسادور في حله وترحاله أينما ذهب في العالم، وأضفى عليه تدرجات لونية تعكس نبض هذه المدينة التي لا تنام، وإن اصطبغت في بعض الأحيان بألوان رمادية بفعل الغيوم السود التي قد تغطي سماءها بين حين وآخر.
أما التغيير الأساسي فيبقى في انحسار الأشكال الهندسية الكبرى والمنظمة لفضاءاته المدينية السديمية، والوجوه والقامات الصغيرة المبعثرة فيها، لصالح وجوه وقامات بشرية كبرى ومركزية.
هذه الدقة في التعامل مع الفضاء الكوني ومع الأشكال لها ناحية علاجية، فهي تضع حداً لحالة القلق التي ترافق اسادور باستمرار، ومن خلال آلية تعويضية تصبّ هذه الفوضى الاستثنائية والخاصة في الفوضى العالمية العامة، داعياً الآخرين إلى وضع تفسيرات أو تحليلات لعملية إعادة الانخراط.
*****
(*) جريدة الجريدة