تأملات منثورة على شاطئ الحياة، تغمرها الأمواج حينًا وتصارع الرياح العاتية حينًا آخر، وتطير على أجنحة الأيام لترسم”مسيرة نحو السعادة” مقطوفة من خبرات لبنان التعايش ومن قلب معاناة الحروب والإبادات، وتتردّد على جنباتها أصداء هموم المؤمن والمقهور والقلق…
“مسيرة نحو السعادة”، أجل أرادها المطران كيغام خاتشريان عنوانًا لكتابه الجديد الصادر عن دار المراد إيمانًا منه بأنه “على الرغم من تدهور العالم بحروبه وقنابله النووية، والمذابح والإبادات التي لا تغتفر، فإن الوجود البشري لا يُحكم بالحماقات ورجاؤنا بالملكوت ثابت وقويّ”.
يقول القديس أغسطينوس: “اتركوا الضجة والارتباك وراءكم. انظروا في أنفسكم واعلموا إن كان فيها مكان خفي جميل قد تتحررون فيه من الضجة والجدال”… هكذا فعل المطران خاتشريان وتلمس الطريق الصواب لتحقيق سعادتنا ويختصر بكلمة واحدة “الصلاة”، فمن خلالها يحيا الإنسان الجديد في ذواتنا وينفخ الله روحه القدوس في صدورنا فينتعش القلب فينا وتُشرّع أبواب السعادة أمامنا، ونكتشف المواهب التي أمننا الله عليها وكيفية الاستفادة منها، بعيدًا عن الهوس بالكمال ومن خلال السعي إلى ما هو أفضل بدلا من السعي إلى الأفضل.
أكثر من ذلك يذهب المطران خاتشريان إلى القول بضروة الصلاة بطريقة تناسب كل شخص وليس بالطريقة التي يظن أن عليه اتباعها، ويذكّر أنه “كلما توقفت عن الصلاة تصعب عليك بعدئذ. لربما نتعب أحيانًا من ترداد الكلمات نفسها ونتعب من التوجه إلى الله بتكرار الصلوات ذاتها فنشعر بالضيق والتململ، عندها لا بأس من التأمل بصمت والانصراف إلى مشاركة يسوع المسيح في إحدى مراحل حياته”.
قد نشعر أحيانًا بجفاء في قلوبنا وكأن الله تخلى عنا، هنا يقول المطران خاتشريان: “علينا أن نتأمل وجه الله في ذواتنا، أن نحاوره ونستمع إليه، أن نقيم علاقة حب وسلام معه، عند ذلك نختبر وجوده في صميمنا”.
من قال إن الكنيسة هي للصالحين فحسب؟ في تأملاته يشرع المطران خاتشريان أبوابها للخطأة، “يعني أن ندلهم على الدرب المستقيم، أن نحوطهم ونتفهم اضطرابهم ونعالج جروحهم المعنوية والروحية ونرافقهم في رحلتهم للعودة إلى قلب الله”.
ليس اليأس ما يقود المؤمنين إلى السفر أو السير ساعات بل هو الرجاء في لقاء من نحبّ، لقاء من وهبنا الحياة يومًا وإليه سنعود. من هذه الناحية التأمل هو صلاة، إذا انصرفنا إليه بعقولنا وقلوبنا فنربح بذلك وقتنا الضائع ونقترب أكثر فأكثر من روحانيتنا المسيحية. لكن المطران خاتشريان يستطرد أن الصلاة ليست واجبًا شاقًا يزيدنا إرهاقًا بل هي راحة في أحضان الرب، فهو أدرى منا بحاجاتنا وأمننا وسعادتنا. يقول: “كم من أمبراطوريات وسلطنات في التاريخ القديم والحديث غزت وفتحت وعاثت الدمار، وفي يوم غضب الربّ تلاشت واندثرت ولم يبقَ منها غير الحكايات وضحايا المآسي والخزي والعار”.
أمام الدمار الذي يحل بالعالم والجنون الذي يعصف بالعقول فتسير نحو الانتحار البطيء وقبل أن يتحطم الرجاء على صخرة أنانية الإنسان، يدعو خاتشريان إلى التوبة والمصالحة بين الله والبشر والطبيعة، “يكفينا جريًا وراء المال والسلطة والجاه”، وإلى ترويض النفس على الخدمة والطاعة ولو في الأمور البسيطة المملة والسيطرة على انفعالاتنا، فغاية وجود الله بيننا ليست معاقبتنا على إثم اقترفناه بل مشاركته فرحنا وحزننا فيغدو الرفيق المخلص في مسيرة حياتنا.
بما ان الواقع اليوم لم يعد مثالا يحتذى به، وبما ان السلطة تبدو في مفهومها عكس ما نلمسه في عالمنا، فإن مسيرة المطران خاتشريان نحو السعادة تعتمد البساطة والوضوح في الدخول إلى قلب الإنسان وعقله بعيدًا عن الأساليب الغامضة والتعابير الملتبسة، وقيام السلطة على التواضع والخدمة، كبف لا وقد دخلت الكنيسة الميادين كافة بروح السلام والغفران فصمدت إزاء إساءات البشر وفسادهم ووضعت إمكاناتها لخدمة الله والمجتمع والإنسان فحققت نجاحات هائلة ومكانة سامية.
“الخدمة” كلمة صعبة تحتاج إلى المحبة لتكتمل وتؤدي دورها، أي أنها تحتاج إلى روح الله ليكون لها معنى. من هنا يدعونا الواجب اليوم، يقول المطران خاتشريان في تأملاته، إلى إعلان كلمة الحق مهما غلت التضحيات ومهما تآزرت علينا قوى الشر وحاربتنا بمختلف أسلحتها الفتاكة، فنحن
شعب الله الذي لم يفقد إيمانه بالرغم من الويلات التي حلت بوطنه وبأبنائه فاقتلعته من جذوره ومن ترابه ومن تراثه، من كنائسة ومن قبوره لكن الله نثره في وجه الرياح الأربع التي حملته إلى أرض بعيدة فلحها وزرعها فأكل وأطعم من ثمارها…
وكأن المسيرة نحو السعادة لا تبلغ كمالها إلا بالتوقف في محطة مع الكتاب المقدس، فتضمن الفصل الأخير “قرأت لك” مقاطع من العهدين القديم والجديد، وقبل أن تنغلق دفتا الكتاب يتوقف القارئ عند فاكهة الرمان التي تفتح قلبها من دون استئذان داعية إلى الحياة وتعتبر رمز أرمينيا.