مسرحية “بستان الكرز” لتشيخوف في نسخة  لبنانية… عبور من عالم إلى آخر على جناح الأوهام

boustan al karaz 1

منار علي حسن

الإقطاعية احد أبرز القواسم المشتركة بين الشعوب، وإحدى القضايا المستمرة في الزمان والمكان مع فارق بسيط يكمن في تعاطي الأجيال معها، هذه الإقطاعية بالذات التي تمحورت حولها مسرحية “بستان الكرز” للأديب الروسي تشيخوف، شكلت جواز عبور   للمسرحية عبر  القارات لتحط رحالها أخيراً  على خشبة مسرح المدينة في بيروت، بعدما  لبننها المخرج كارلوس شاهين وأخرجها وجعل إطارها الزمني خمسينيات القرن العشرين، باعتبار أن الأجواء العامة في تلك الفترة شبيهة بأجواء روسيا في بداية القرن العشرين، تحديداً 1904، تاريخ صدور مسرحية تشيخوف.

خلال تخصصه في المسرح الوطني في ستراسبورغ، اكتشف كارلوس شاهين مسرحية “بستان الكرز”، وتخيّل على الفور أن الأحداث تدور في منزل جده في إحدى قرى جبل لبنان حيث ترعرع. “لكن لا يعني ذلك أنه حنين إلى طفولة سعيدة فأنا لا أعلم إذا كنت سعيداً حينها أم لا. هذا ليس مهماً لأن عالم الطفولة الذي نسعى للعودة إليه، ليس بالضرورة أن يكون عنواناً للسعادة إنما عنوان عالم شئنا أم أبينا ولى إلى غير رجعة” على حد تعبيره.

عائلة إقطاعية مؤلفة من الشيخة ليلى (رندا الأسمر)، شقيقها الشيخ كميل (كارلوس شاهين)، ابنتها ندى (جويس أبو جودة)، تعود إلى قريتها لبيع بستان الكرز الذي تملكه بعدما أسرف كل من الشخية ليلى والشيخ كميل في صرف الأموال، فتستقبلها  ابنة الشيخة ليلى بالتبني  فيوليت (كارول الحاج)، الشيخ سمعان (موريس معلوف) الذي خسر بدوره أمواله، سليم (علي سعد) ابن فلاح جمع ثروة من عمله في التجارة، يسعى إلى شراء بستان الكرز انتقاماً لوالديه اللذين عملا فيه، بطرس (جوزف زيتونة) الشاب الواعد الذي يكمل تعليمه على أمل أن يكون له شأن في المستقبل في المجتمع وتفتتن حبيبته ندى بكلماته، سعيد الخادم الشاب (فؤاد يمين)، شارلوت مربية اطفال (سينتيا كرم)، دونيا الخادمة ( سيرينا الشامي)، فارس الخادم العجوز (حسام صباح)،  بركات (هادي دعيبس)، تزور المكان عابرة سبيل (سارة البيطار).

boustan al karaz 2

حرفية وحركة

هذه الشخصيات أدى كل واحد منها دوره بإتقان، لا سيما موريس معلوف، أحد أبرز أركان المسرح في لبنان، والأستاذ الجامعي الذي خرج أجيالا من الممثلين الشباب، ويعود إلى المسرح بعد طول غياب، وصاحب تاريخ غني بتجسيد شخصيات من المسرح اللبناني والعربي والعالمي، و ساهمت الحرفية التي تميّزوا بها  في إدخال المتفرج طوعاً منه إلى اللعبة المسرحية،  فإذا به يتفاعل معها في  معظم المواقف والتناقضات، ويشارك الشيخة ليلى والشيخ كميل التفكير في كيفية الحفاظ على البستان الذي يمثل صلة الوصل بين الماضي والحاضر التي تكاد تنقطع، طاوية بذلك صفحة من حياة لتفتح صفحة جديدة فيها تقوقع على الذات، والانتقال من حال ميسورة سيطر عليها الجشع والاستهتار  إلى أخرى  تنذر بحياة أقل من عادية.

لا شك في أن  عودة العائلة إلى منزلها قرب بستان الكرز، يشكل عودة إلى الجذور وانتقالها من المنزل بعد بيع البستان هو انقطاع عن هذه الجذور.

boustan al karaz 3

مع مسرحية “بستان الكرز” تحول مسرح المدينة، برموزه الخزانة القديمة، الألعاب التي تذكر بالطفولة، والسجاد الفاخر، إلى  عالم قائم بذاته تتصارع فيه المصالح والأنانيات، وتغدو العلاقات محكومة بحدث واحد هو بيع  بستان الكرز الذي عرىّ الأشخاص من أقنعتهم، وأظهر كل واحد منهم على حقيقته، الثائرة، التائهة، المتمردة، المحبطة، الخائفة، المتفانية والمخلصة…

رندا الأسمر تجسد شخصية  رانيفسكايا في مسرحية تشيخوف  وكارلوس شاهين يجسد شخصية جايف، وقد نجحا كلاهما في إبراز الفرق بين حياة البذخ والترف التي كانا يعيشانها وحياة التقشف التي يستعدان لعيشها بعدما فقدا ثروتهما باستهتارهما وتبذيرهما.

حركة مستمرة على المسرح، ذهاب وإياب الممثلين، حفلة رقص،  حوارات مستمرة تدور في معظمها حول الثورة والقضاء على الإقطاع… كل ذلك يشكل أحد أبرز عناصر مسرح تشيخوف القائم على الحركة التي تنذر بانفجار قريب.

عبور وواقعية

 في بستان الكرز تبرز  التناقضات التي تتسم بها الشخصيات، لا سيما الشيخة ليلى التي تبدو تارة إمرأة عاطفية، لعوب، متمردة على تقلبات الزمان، والشيخ كميل الذي  يبدو كأنه خارج الزمان الحاضر، ويستمر في عيش حياته كأن شيئاً لم يحدث وكأن ثروته لم تبدد… وحده الخادم الأمين العجوز يعيش في قلب الزمن ويختصر بشخصيته رحلة حياة أرادها أن تصل به إلى شاطئ الراحة فإذا بها توصل إلى لامكان، مع ذلك يحافظ على ولائه للأسرة التي احتضنته سنوات طويلة، لكنها في المقابل تنساه  بين اغراض البيت ولا تعبأ به.

boustan al karaz 4

رفض الشيخة ليلى والشيخ كميل أن يكونا من ضمن عالم جديد يعيشان فيه من دون القاب  لا يستمر طويلا، فهما في اللحظة الأخيرة يرضخان للأمر الواقع وينسلخان من محيطهما ويسيران  في اتجاه رسمه لهما القدر مرغمين، خصوصاً بعدما اشترى البستان والبيت الفلاح الذي عمل ووالداه عندهما… هكذا تنقلب الظروف ويصبح الفقير غنياً والغني فقيراً، وتتغير المعطيات وتتلاعب الأقدار بالأمكنة والأزمنة…

هذه الأمور وغيرها التي تتمحور حولها المسرحية لا بد من ان تحاكي المتفرجين، لأن الحال التي تصفها يمكن أن  يواجهها أي شخص، من هنا يقول المخرج كارلوس شاهين إن “مسرحية بستان الكرز” هي مرحلة العبور من عالم الطفولة إلى معترك الحياة. بساتين الكرز لم يعد لها وجود على أرض الواقع، إنما نحن نصرّ على وجودها في مكان ما في حياتنا ونتعامل معها أحياناً على أنها حقيقة. فلنضحك على أوهامنا! فما يمكن أن يكون أكثر طرافة وأكثر مأساوية من تمديد الطفولة؟”

شارك في ترجمة المسرحية مع كارلوس شاهين: رندا أسمر، سيرينا الشامي، جوزف زيتوني، هادي دعيبس.  يذكر أن كارلوس شاهين  يقف للمرة الأولى ممثلا على خشية المسرح في لبنان.

boustan al karaz 5

من رسالة ستانيسلافسكي إلى تشيخوف

 

مسرحية بستان الكرز، هي عملك الأفضل تعلقت بها أكثر من “النورس”. ليست كوميديا، ولا مسرحية هزليّة كما تكتب لي، إنها تراجيديا، مهما كان الدرب إلى حياة أفضل الذي تفتحه في نهاية العرض. إنها ذو وقع عظيم، فهي أكثر شاعرية وغنائية وأكثر مسرحة، وكل الأدوار فيها مذهلة، حتى تلك العابرة. أنا متأكد بأن نجاح هذه المسرحية سيكون مدوّياً، لأنها تغمر المتلقي وتأخذ حواسه. إنها متكاملة ومتماسكة إلى درجة يصعب معها حذف كلمة واحدة منها. أعجز عن التقاط أي عيب أو شائبة فيها. بل هي تحتاج إلى ممثلين عظماء، ومرهفين قادرين على التقاط كل جمالها وإبرازه بالشكل المطلوب.

 

boustan al karaz 6

كارلوس شاهين

بعد نيله شهادة الدبلوم في جراحة الأسنان (مهنة لم يمارسها يوماً)، اكتشف كارلوس شاهين المسرح في باريس مع الممثلة فيرا غريغ. بين 1985 و1988، تابع دروساً في المدرسة الوطنية العليا للفنون الدرامية” و”المسرح الوطني” في ستراسبورغ مع “مجموعة 23”. لاحقاً تعاون مع مخرجين فرنسيين وأوروبيين من بينهم ميشال فينافير، ماتياس لانغو…

عام 2002، أعاد اكتشاف وطنه الأم لبنان بفضل السينمائي غسان سلهب الذي شارك في ثلاثة من أفلامه. عام 2008، قدم فيلمه القصير الأول “الطريق إلى الشمال” (كتابة وإخراجاً وتمثيلا)، حظي الشريط بحفاوة  ونال جوائز في مهرجانات عالمية من بينها: جائزة أفضل فيلم في “مهرجان ترايبيكا” و”مهرجان دبي السينمائي الدولي” (2008)، الجائزة الكبرى لأفضل فيلم روائي في “مهرجان الأفلام الوثائقية وافلام التحريك- أوين سينما” في سان بطرسبورغ.

****

(*) جريدة الجريدة الكويتية 

 

اترك رد