الكاتب بلال حسن التل
أشرنا في المقال السابق وفي إطار نعينا للمفكر الراحل ماجد عرسان الكيلاني، إلى كتابه «فلسفة التربية الإسلامية « الذي قيل عنه أنه دراسة لم يكتب مثلها منذ 800 عام في مجال العلوم الإسلامية.
غير أن للراحل ماجد عرسان كتبا لا تقل في أهميتها عن هذا الكتاب في طليعتها كتابه المميز « هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس» بل لعل هذا الكتاب أشهر كتبه وأهمها، لأنه يجسد دعوته إلى ترجمة الأقوال إلى أفعال، خاصة عندما دعا إلى إعادة قراءة تاريخنا واستلهام نماذجه الناجحة، وإلى فهم سنن التغيير،وهو ما فعله في هذا الكتاب انطلاقاً من قناعته بأن هذا الفهم هو الذي يقودنا إلى تحقيق التغيير، الذي ننشده في حياتنا من خلال تطبيق نواميس التغيير في هذه الحياة.
فعلى ضوء هذه الدعوة وتجسيداً لها جاء سفره الخالد عن ظهور جيل صلاح الدين، الذي أكد فيه بالدليل القاطع على أن نهوض الأمم وانتصارها ليس بطولة فردية، بل عملاً جماعيا يبدأ بالتكوين الفكري للمجتمع، كأساس للنهوض الشامل للأمة، وقد تتبع الراحل في كتابه كل ملامح ومكونات النهضة التي أدت إلى إنتصار الأمة وطرد الصليبين، مؤكداً على إمكانية إعادة التجربة الحضارية التي أنتجت جيل صلاح الدين، وقادت إلى انتصار الأمة،ومؤكداً أيضا على أن العلماء والمفكرين هم الصناع الحقيقيون لأية نهضة، وهم الذين يضعون أساساتها ويرفعون مداميكها الأولى، وقد برهن الرجل على ذلك من خلال تتبعه لمسيرة نهوض الأمة التي أدت إلى ظهور جيل النصر، من خلال تتبعه لآثار عدد من المفكرين ودورهم في صناعة النهضة وتربية جيل النصر، مقدما في كتابه المشار إليه خارطة طريق لإقالة الأمة من عثرتها المعاصرة.
وعند كتاب الراحل ماجد عرسان عن ظهور جيل صلاح الدين،وهو الجيل الذي حصد زرع العلماء والمفكرين نصراً حضاريا شاملاً، كان النصر العسكري واحدا من تجلياته وليس أعظمها، نقف لنقول من جديد أنه لا يجوز بحال من الأحوال أن نتعامل مع مدينة القدس على أنها حجارة بنيت منها المقدسات، فلطالما هدمت هذه الحجارة، ولطالما تحولت المقدسات إلى اسطبلات على أيدي الغزاة، فالقيمة الحقيقية للقدس تكمن في المعاني التي تمثلها، وأبرز هذه المعاني أن القدس فكرة وملهمة للمفكرين، وأنها كانت تلعب دوراً رئيسيا في صناعة النهضة الفكرية للأمة، وهي النهضة التي تصنع جيل النصر والتحرير.
كثيرة هي المحطات الفكرية في مسيرة الراحل ماجد عرسان الكيلاني التي تستحق الوقوف عندها، ودراستها والبناء عليها، ومن ذلك ما قاله وكتبه من «إن الاسلام لا يمكن أن يؤدي دوره في الحياة الا اذا حملته عقول مستنيرة يحمل اصحابها ارادة وتصميم».
وهذه حقيقة كبرى لا يستوعبها الا من فهم حركية الاسلام المبنية على دور الفكر والعقل والربط بين هذه المكونات ربطاً عضوياً، إنطلاقا من أوضح القواعد القرآنية التي تقول” كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون»، وتطبيقا للدعوة القرآنية الملحة في التدبير والتفكر، وإعمال العقل، واجلال العلم والعلماء، والاقتداء بهم باعتبارهم «أولي الأمر» أو من «أولي الأمر»الذين أُمرنا باتباعهم وطاعتهم في أرجح التفاسيروفي معظم التفاسير، وفي كل الاحوال يجب ان تظل لأهل العلم والفكر مكانة الصدارة في المجتمع اذا أرادت الأمة ان تكون في صدارة الفعل الحضاري.
وهي صدارة لن تتحقق الا بحركة تنوير تصنعها عقول مستنيرة وهذه واحدة من اهم القضايا الفكرية التي ركز عليها الراحل ماجد عرسان، وهي قضية تقود إلى أخرى لا تقل أهمية بل لعلها شرط من شروطها، وهي القبول بالاخر وكفالة حرية الرأي واحترام تجارب الأخرين، من هنا كانت دعوة ماجد عرسان الكيلاني لإخوانه في الحركات الاسلامية» بأن يكون تقويمهم لظاهرة التيارات القومية او اليسارية تقويما تشخيصيا لا تقويم المتشفي فيما لحق ببرنامجهم من انتكاسات، فهم أولاً أبناء الأمة، وعنصر من عناصر الثروة البشرية.
وهم كانوا يمثلون مرحلة الحس الاجتماعي او الوعي الساذج. ومعروف ان من خصائص هذه المرحلة التقليد، إما تقليد الماضي او تقليد المجتمعات الأخرى فهم قلدوا المجتعات الأخرى، وما هو مطلوب اليوم هو ان تُستثمر كافة العناصر لدينا»ومن هذه الرغبة في استثمار كافة عناصر الأمة جاءت دعوة ماجد عرسان الى عدم التشفي بفشل الفكر القومي ومطالبته للإسلاميين بان ينطلقوا من أن هؤلاء اجتهدوا واخلصوا لأمتهم، وإن اخطأوا الطريق،لأن الهدف هو بناء جسور نحو المستقبل تضم جهود الجميع وطاقاتهم واستثمار تجاربهم،وذلك عن طريق ما سماه القرآن التزكية»هو الذي بعث في الأميين رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم» رحم الله ماجد عرسان الكيلاني وجعله ممن زُكيت نفسه بما قدم لأمته وللبشرية من علم نافع.
****
(*) رئيس “مركز البيرق للدراسات والمعلومات” ومؤسس “جماعة عمات لحوارات المستقبل” وصاحب وناشر جريدة “اللواء” الأردنية.