إيلي مارون خليل
ما كان أُنسي الحاج ناثرًا، ولا كان شاعرًا. وما كان أديبًا، ولا مُفَكِّرًا. وما كان صِحافيًّا، ولا مُثَقَّفًا. وما كان طفلًا، ولا مراهقًا. وما كان ناضجًا، ولا ثائرًا. وما كان أنيقًا، ولا فوضويًّا. وما كان عاشقًا، ولا معشوقًا. كان هذه جميعًا، في الآن نفسِه. إذًا، فقد كان جماعةً مميَّزة، نادرةً، في فردٍ مميَّزٍ، نادرٍ، بل استثنائيّ. ألصّحيحُ الأكيدُ، ألثابتُ غيرُ المتحوِّلِ، أنّ أُنسي الحاج ناثرون في ناثر، وشعراءُ في شاعر.
وأنّه أُدباء في أديب، ومفكِّرون في مُفَكِّر. وأنّه صِحافيّون في صحافيّ، ومثقَّفون في مّثَقِّف. وأنّه مراهقون في مراهق، وعاشقون في عاشق. وأنّه متأمِّلون في متأمِّل، ومتصوِّفون في متصوِّف. وأنّه كافِرون في كافِرٍ، ومؤمنون في مؤمن. وأنّه، كلَّ مرّةٍ، أحرارٌ في حُرّ. وعليه، كان أُنسي الحاج نُخبةً في منتخَب، ومُختارون في مختار. وكان ثابتًا متحوِّلًا، ومتحوِّلًا ثابتًا، معًا، وفي الوقتِ عينِه. هل أبالغُ!؟ لا يبالغُ المُحِبّون! ألمحِبّون منحازون. مِثاليّون!
كيف صحّ له ذك!؟ وهل كان سعيدًا فيه؟
كيف صحّ له ذلك!؟ وهل هو يعرف!؟ فكيف أعرفُ، أنا!؟ هل أَقرّ، مرّةً، بذلك؟ فكيف أنتزع إقرارًا لم يتمّ؟ أهي الموهبةُ؟ أهي الطّاقة غيرُ المخلوقةِ تعبّر فتعبر، غيرَ مسبوقةٍ؟ أهو جنونُ الخَلْق ينبثق متفجِّرا لا واعيًا، قائلًا، بعفويةٍ متقَنةٍ، وبَساطةٍ متألِّقة، ما لا يَخطر
في بال؟ أهي الطّفولةُ البريئةُ، السّاذَجةُ، العذبةُ، تحدِسُ بما لا يَفْقَه البالِغون؟ أهي الثّورةُ
الصّاهِلةُ، ولا تخطيط، تعبِّر عمّا لا تعرف، فتخرج بما يفوقُ معرفةَ “العارفين”؟
أنسي الحاج، ولا أُعطيه أو أسبِغُ عليه صفةً، مهما سمت أهمّيّتُها، أو نَشَطْتُ في إيجادها له، مميَّزةً، تجعله مميَّزًا بين مميَّزين، لكنّها، أبدًا، تتركُه الواحدَ الأحدَ، ولا كُفْر. فمَن كانه أنسي، يستحيل اختصارُه! ستقولون: مبالَغة أُخرى! مبالَغةٌ أخرى، ولِم لا؟! فلْيكن! وما هَمّ! إنّه أُنسي، وأنا أُحبُّه! والمُحِبُّ منحازٌ دومًا، إلى مَن يُحِبُّ؛ مبالِغٌ دومًا، في وصْفِ مَن يُحِبُّ! ولا مُشكلة. مأساةُ المُحِبِّ ألّا يكونَ محبوبُه موضوعَ مبالغة!
مع هذا وذلك، أرى أنّ صفةً كبيرةً، وحيدةً، يُمكِنُ أن تكونَ مناسِبةً له أكثرُ من سواها، وأعرف أّنّه يحبُّها! وأنّها تَليقُ به، وبها يَليق! إنّها أُنسي العاشق! فقد عشقَ الحبَّ وخَطاياه(لا أومنُ، أنا، بأنّ للحبّ خطايا)؛ المرأةَ ومُلابَساتِها؛ الفنَّ وفوضاه؛ الّلغةَ ومُشاكَساتِها؛ الحياةَ ومفاجَآتِها؛ الأناقةَ: نثرًا وشِعرًا، هِندامًا ولِباسًا، مِشيةً وجلوسًا، تكلُّمًا وسُكوتًا، ابتسامةً وعبوسًا، جرأةً وخجلًا…
تصدِّقون!؟ هذا الأنسيُّ المثاليُّ كان خجولًا؛ وكان وقِحًا؛ كان متحفِّظًا؛ وكان جريئًا؛ كان منطويًا؛ وكان منفتِحًا؛ كان حُرًّا؛ وكان… حُرًّا! إنّه أنسي المفرَدُ الجمع. أُنسي المنضبِطُ الفوضويّ! أنسي الفوضويُّ الّلذيذ! والإنسانُ الفائضُ حبًّا ومَزايا حُبّ! مُتَصَوِّفٌ حقيقيٌّ جديد!
وسأتّخذ، للإضاءة، من دون إطالة، كتابَه الثّلاثيَّ الأجزاء ، وكلُّها مضيء: “كلمات. كلمات. كلمات.”
فما هو هذا الكتاب؟
إنّه كتابُ التّفكير بصوتٍ عالٍ. كتابُ الصُّراخ. كتاب الألم. كتاب الحميميّة. كتاب الكآبة، الفرح، السّعادة، الكفر، الإيمان، الصّلاة، السُّباب، الهزْل، الرَّصانة، كتاب الفنّ على أنواعِه… وإذا شئتَ فقل: إنّه كتابُ الحياة! أحقًّا ما تقول، يا أنا، وما تُشيع؟
ليس ما أُشيعه سِوى انعكاسٍ لروح أُنسي كما تتّضح في “كلمات…”. إنّ نظرة سريعة إلى الفِهْرِسْتْ، تؤكّد ما أكّدتُ. هو كتابُ الحياةِ! قلتُ! وإلّا فكيف نفسّر هذا التَّنوُّعَ المليءَ بالألوان، بالأنواع، بالاتّجاهات، بالمَشاهِد، بالموضوعات… فمن ذات إلى جماعة، ومن كلاسيكيّة إلى رومنطيقيّة، ومن واقعيّة إلى رمزيّة، ومن أدب إلى رسم إلى نحت إلى موسيقى، ومن رواية وأقصوصة إلى مسرح وشِعر، ومن فكر إلى وِجدان، ومن مجتمع إلى دين، ومن فلسفة إلى قِيَم، ومن تاريخ إلى جغرافية، ومن علم نفسٍ إلى علم اجتماع، ومن حبّ إلى حبّ، ومن حرّيّة إلى… حرّيّة؟ إلخ. أليست هذه بعضُ وجوه الحياة واتّجاهاتها؟ يتناولها مرّة بمَرارة وكآبة، بسُخرٍ مرّةً، وبجِدّ؟ ومرّة بفرح وتفاؤل، وبحزنٍ وتشاؤم، مرّةً أخرى؟
والأجملُ من تمازج هذه الألوان وانسجامها، من مختلف زوايا النّظرِ إليها، الأسلوبُ ـــ الأساليبُ الّتي يلجأ إليها، وفيها يُقيم. فهو أسلوب الغضب الثّورة العنف، مرّة؛ وأسلوبُ الهدوءِ السّلم الّلُطف، أُخرى؛ ألإيجازُ الموحي ولا تعمية، مرّة؛ والإطنابُ المفيدُ ولا إطالة ثرثارة، أُخرى. ألأسلوبُ المَجازيّ الغنيّ المتضمِّنُ الصّورَ، الخصبُ الإيحاءات، الجميلُ الإيقاعات، مرّة؛ والآخرُ النّثريُّ الفصيحُ البليغُ أخرى. يختبر أنسي الحاج أساليب البلاغة العربيّة كلَّها، ويختار المناسبَ منها في موقع، والمناسب الآخر في موقعٍ آخر، على قاعدة أبي عثمان الذّهبيّة! وبالعفويّة الّلازمة، بعيدًا من أيّ تكلُّف أو تَصَنُّع. إنّ أسلوبَ كاتبِنا متفرّدٌ بروحه وبنسجه، متميّز بحبكه ومتانته. ويُمكن أن يُقال فيه إنّه نثرُ الشِّعر، أو شَعرنةُ النّثر. إنّه أسلوبُ النّولِ، ونحن في زوق مكايل، المنسوجُ بالذّوق الأرقى، بالبراعةِ الأجمل، بالنّسج الأشدِّ حِنكةً ودِراية! ولا يتورَّعُ، أو يَرتدِعُ، عن استعمالِ لفظة محكيّة، فتأتي “حَفْرًا وتَنْزيلًا” في موقعها، منسجمةً الانسجام كلَّه فع مُحيطِها: ألفاظًا وتراكيبَ ومعانيَ!
بعدُ إشارة!
صفتان ـ نِعمتان يتمتّع بهما “الشّيخ” أنسي. أقول “الشّيخ”! لأنّه “شيخ” طريقة في الحياة والكتابة، إنّها الحبُّ والحُرّيّة!
وما الحُبُّ عند “شيخِنا”؟ من ثمّ: ما الحرّيّة؟
ألحبُّ هو النّعتُ الأوّلُ للإنسانِ الرّاقي! كيف!؟ أليس هو “نعتُ اللهِ الأوّلُ”، على قول ابن الزّوق: أنطون قازان؟ وهو أوجد الإنسانَ على صورته، كمِثاله. بالطّبع ليس بصورة الجسد، إنّما بصورة الحبّ والرُّقيّ. ونضيفُ، عند أُنسي، إنّه الذَّهابُ، شَغَفًا مطلَقًا تامًّا كاملًا، حتّى “الجنون”! وما “الجنونُ”، في هذا المجال؟ إنّه الاندفاعُ، لا إلى تَراجُع؛ الحماسةُ، لا إلى راحة؛ الذّهاب، دائمًا الذّهابُ، إلى حيث لا مَدارٌ ينغلقُ، أو يُغلَقُ، ولا آفاق تنقفلُ، أو تُقفَلُ! ليس للحبّ أيّةُ حدودٍ، فكيف للحبِّ “المجنون”!؟ كيف يكون هذا؟
إنّه أُنسي وعوالِمُه! أُنسي الحرُّ، النّاشدُ الحُرّيّةَ، لسواه كما لذاته. وفي كلّ حرّيّة، بمفهوم “شيخِنا”، معرفةٌ وسيعةٌ، ومسؤوليّةٌ لا محدودة. وكأنْ لا نِقاشَ مع الحرّ، فهو “العارفُ” و”الواعي” و”المسؤولُ”!
ولا عجب! إنّه أنسي الحاج! أنسي المُبَدِّدُ الحياة، المبدّدُ الحُبَّ والحرّيّة، وما بينهما: الحياةُ وقد عَبَرَ إليها، وعَبَّ عنها ومنها وفيها، عَبْر النَّثرِ والشِّعر! أنسي المتفرِّدُ في كلّ شيء. أنسي المتمرِّدُ على كل ّ شيء. أنسي نسيجُ ذاته، على نَول ذاتِه، وقد حاك ذاته، وعلى قلمه: “هدوءُ الحبّ المجنون”. أقولُ: بل عاصفةُ “الحُبِّ المجنون”!
ختامًا،
تساءل “الشّيخ” أنسي مرّة، لا من دون ألمٍ وكآبة ومرارة: “لماذا لا أملك عينيّ وحدي!؟” صحيح، “شيخ” أُنسي، ولماذا، بعدُ، لا أمتلكُ، أنا، قلبي وحدي!؟ والتّسبيحُ لله دائمًا.
*****
(*) كلمة ألقيت في ندوة حول أنسي الحاج نظمتها جمعيّة أهل الفكر في “بيت الشّباب والثّقافة، زوق مكايل 30 أكتوبر 2015.