عبودي أبو جودة
يعود تاريخ صناعة السينما في لبنان إلى العام 1929، ففيه جرت المحاولة الأولى لتصوير فيلم سينمائي بتمويل فردي، إذ أنتج هاوٍ إيطالي يُدعى جوردانو بيدوتي فيلماً فكاهياً صامتاً عنوانه “مغامرات إلياس مبروك”، وكان يومها يصوّر بعض الأفلام الإخبارية لمصلحة شركة “باتيه ناتان” الفرنسية. ثم صوّر في العام 1931 فيلم “مغامرات أبو عبد”، الذي أنتجه رشيد علي شعبان الشهير بـ”أبي عبد الجرس”، ومثّل فيه مع ابنه وابنته، وقد حمل هذا اللقب لأنه كان يحمل جرساً صغيراً ويقف عند مدخل قاعة العرض السينمائية المعروفة في ذلك الوقت باسم “الكوزموغراف”، وينتقل بجرسه إلى ساحة الشهداء داعياً الجمهور إلى مشاهدة العروض السينمائية.
تدور قصة هذا الفيلم حول رجوع أبي العبد من أفريقيا، وما يحدث معه من مغامرات، وتتخلّل الشريط مشاهد مصوّرة في ساحة الشهداء والروشة، إضافة إلى مشاهد مستعارة من أفلام أجنبية تجعل المتفرج يعتقد أن أبا العبد كان في أفريقيا، وأنه شاهد الأفاعي الكبيرة والحيوانات المفترسة. بعد هذه المحاولات، أنشئ أول ستوديو في لبنان في العام 1933، وحمل اسم “لمنار فيلم”. أسّست السيدة هيرتا غرغور هذا الاستوديو بالتعاون مع شركة “قطان وحداد” التي كانت تملك عدداً من الصالات السينمائية في سوريا ولبنان، ونتجت من هذه الشراكة ولادة أول فيلم سينمائي ناطق في العام 1934، وكان عنوانه “بين هياكل بعلبك”. توقف ستوديو “لمنار فيلم” سريعاً عن العمل مع بدء الحرب العالمية الثانية، إلا أن السينما اللبنانية عادت لتنطلق مجدداً في العام 1943 عندما قدّم المخرج علي العريس فيلم “بيّاعة الورد”، ثم “كوكب أميرة الصحراء” في العام 1946.
في تلك المرحلة، كانت السينما في مصر قد تمكّنت من استقطاب عدد من الشباب والشابات من المشرق العربي، وذلك من خلال الاستوديوات التي ظهرت، من مثل ستوديو مصر وغيره. مع بداية السينما في العشرينات، وصلت إلى مصر كلٌّ من آسيا داغر ثم ابنة أختها ماري كويني، وكان لهما دور كبير في الإنتاج السينمائي المصري بدءاً من الثلاثينات. ثمّ، أدت نور الهدى دور البطولة مع يوسف وهبي في فيلم “جوهرة”، في العام 1943، وظهر المطرب والملحن والممثل محمد بكار في العام 1944 مع تحية كاريوكا في فيلم “نادوجا” من إخراج حسين فوزي. في مطلع العام 1945، قدّمت آسيا داغر الوجه الجديد، صباح، في فيلم “القلب له واحد”. في العام 1946 أدّت لور دكاش دور البطولة في فيلم “الموسيقار”، وظهرت نورهان في فيلمين منسيين: “الخير والشر” و”ابن الشرق”.
في الفترة نفسها، وصلت مغنية أخرى من لبنان هي سهام رفقي، فشاركت في فيلم “عودة الغائب”، ثم أدّت دور البطولة في فيلمي “البريمو” و”الزيناتي خليفة”. في العام 1946 كذلك، شارك محمد سلمان والكاتب وفيق العلايلي في إنتاج فيلم “لبناني في الجامعة”، ثم أنتج محمد البكار فيلم “قلبي وسيفي” في العام 1947، وأدّت صباح دور البطولة في هذين الفيلمين. في العام 1948، حلّت سعاد محمد في القاهرة حيث أدّت بطولة فيلم “فتاة من فلسطين”، إنتاج عزيزة أمير وإخراج محمود ذو الفقار. وفي العام 1949، ساهم محمد سلمان في إنتاج أول فيلم عراقي – لبناني مشترك عنوانه “ليلى في العراق”، وأدّت زوجته، نورهان، أمامه دور البطولة في هذا الشريط.
بالتزامن مع هذا الإنتاج، صوّر عدد من الفنانين المصريين مشاهد لأفلامهم في لبنان، وساهموا في صناعة أفلام دعائية تروّج للسياحة المصرية في لبنان، منها “الصيف في لبنان” لصلاح بدرخان في العام 1946، و”الإصطياف في لبنان” مع بشارة واكيم في العام 1947. وفي العام 1950 عرّف محمد سلمان المخرجَ المصري حسين فوزي على المنتج اللبناني أرتين تورابيان، ونتجت من هذا اللقاء ولادة فيلم “عروس لبنان” من بطولة محمد سلمان وحنان وعدد من الوجوه المصرية المعروفة. قضى حريق القاهرة على هذا الشريط للأسف في العام 1952، ولم يعد له أثر.
دفع المردود المالي الجيد للاستثمار السينمائي بعض التجار الحلبيين والبيروتيين إلى تأسيس “الشركة السورية اللبنانية المساهمة” في العام 1947، التي أنتجت أول فيلم لها، “ليلى العامرية”، في مصر في العام 1948، ثم شرعت في بناء ستوديو للتصوير السينمائي بالقرب من مستديرة شاتيلا في محلة صبرا، لكنّ الخلافات المالية بين الشركاء عصفت بالشركة، فتحولت في أواسط الخمسينات إلى اسم “الاستوديو العصري” الذي جرى فيه تصوير أكثر أفلام المرحلة الأولى من ستينات القرن الماضي. مع أوائل الخمسينات بدأ ظهور الاستوديوهات اللبنانية، مثل “ستوديو هارون” و”ستوديو الأرز”.
أنتجت “فرقة الأرز” فيلم “عذاب الضمير” في العام 1952 من إخراج جورج قاعي، واعتمد الحوار فيه اللغة الفصحى لضمان رواجه في البلاد العربية، غير أنّه لم تُبَع منه سوى ثلاث نسخ إلى العراق والأردن والكويت، ولم يتمكن الفيلم من تأمين كلفة إنتاجه، على رغم الإقبال الذي حصده عند عرضه في مجمل المناطق اللبنانية.
بعد توقف لأربع سنوات، عادت الصناعة السنيمائية اللبنانية في العام 1956 بفيلمين، أوّلهما فيلم “زهور حمراء” من إنتاج وإخراج ميشال هارون صاحب “ستوديو هارون”، وثانيهما فيلم “قلبان وجسد” من إخراج جورج قاعي. في العام 1957 كرّت السبحة مع عودة محمد سلمان من القاهرة، وجورج نصر من أميركا، بعد دراسته الإخراج السينمائي. أخرج محمد سلمان “اللحن الأول”، واعتمد فيه على التوليفة السينمائية القائمة على الجمع بين الغناء والاستعراض في قصة خفيفة، وفقاً للتقليد الذي عُرف في القاهرة في الأربعينات والخمسينات.
وقد نجح هذا الفيلم وحقق إيرادات جيدة في لبنان وسوريا. من جهته، أخرج جورج نصر “إلى أين”، وفيه حاول تقديم إحدى أهم المشكلات التي كان لبنان يعانيها، وهي هجرة شبابه، لكنه واجه صعوبة في عرض فيلمه في الصالات، بسبب احتكار الأفلام الأميركية والمصرية لهذا الدور. في العام نفسه، ظهر فيلم “ذكريات” الذي أنتجته “شركة الأرز” وأخرجه جورج قاعي.
شهد العام 1958 أيضاً ظهور ثلاثة أفلام، “مهرجان الحب”، “لمن تشرق الشمس”، و”موعد مع الأمل”. كان “مهرجان الحب” أول إنتاج مشترك مصري ولبناني، وقد جمع بين حلمي رفلة، منتجاً ومخرجاً، وأنطوان كيروز الذي بدأ عمله مديراً لإحدى شركات توزيع الأفلام الأميركية، ثم افتتح مكتبه الخاص، وأصبح واحداً من الموزعين المستقلين في لبنان والشرق الأوسط. حمل فيلم “لمن تشرق الشمس” توقيع المخرج السوري يوسف فهدة، وكان من بطولة نور الهدى. وكان “موعد مع الأمل” ثاني أفلام المخرج محمد سلمان. في العام 1959 وصل عدد الأفلام اللبنانية إلى خمسة وهي: “العقد القاتل” لإبرهيم طقوش، و”حكم القدر” لجوزف الغريب، و”أنغام حبيبي” لمحمد سلمان، و”أيام من عمري” لجورج قاعي، و”في قلبها نار” للمخرج المصري أحمد الطوخي.
مع نهاية الخمسينات، أصبحت بيروت أحد أهم المراكز التجارية ومركزاً إقليمياً لمعظم شركات توزيع الأفلام العالمية، ومنها كانت توزّع الأفلام إلى الشرق الأدنى وإيران وتركيا وصولاً إلى باكستان وأفغانستان، وقد بنى بعض اللبنانيين الذين أداروا بعض هذه المكاتب شبكة معارف أهّلتهم لاحقاً لتأسيس شركات توزيعهم الخاصة، معتمدين على عدد من الشركات الصغيرة التي أصبحوا يمثّلونها في هذه المناطق، وعلى الأفلام المستقلة والمصرية التي تولّوا توزيعها في المشرق العربي وأوروبا والأميركتين. وصل الإنتاج السينمائي اللبناني إلى ستة أفلام سنوياً، وذلك على رغم صعوبات التمويل والتوزيع التي واجهت السينما اللبنانية حينها، والتي أرجعها الموزّعون إلى عائق اللهجة اللبنانية ما حصر التوزيع في لبنان وسوريا وبعض الدول الأجنبية التي يسكن فيها مهاجرون لبنانيون.
تغيّرت الصورة على نحوٍ كبير في الستينات، وجاء هذا التحوّل نتيجة عوامل عدة. أمّمت الجمهورية العربية المتحدة السينما المصرية في العام 1962، وحدّدت عدد الأفلام للمخرجين والممثلين، وحاولت تغيير نوعية الأفلام التي كانت تنتج في مصر. في المقابل، ظهر “ستوديو بعلبك”، واشتهر بأجهزته الحديثة، وكان له الدور الأكبر في تطوّر الصناعة السينمائية من تحميض وصوت ومونتاج. أمام ازدياد قاعات السينما في العالم العربي على نحوٍ كبير، وحاجتها إلى عرض أفلام عربية، تحوّل الموزعون اللبنانيون الذين تمرّسوا في توزيع الأفلام المصرية في الخمسينات إلى منتجين، واستقطبوا عددا كبيرا من السينمائيين المصريين إلى لبنان للمشاركة في أفلامهم، فوصل عدد الأفلام اللبنانية- المصرية التي أنتجتها الشركات اللبنانية ما بين 1962 و1967 إلى نحو ثلاثين فيلماً في السنة.
في الوقت نفسه، ونتيجة لتطوّر الحوادث السياسية في سوريا، وتحوّل النظام إلى الإشتراكية، إضافة إلى المعوقات الرقابية، أخذ المنتجون السوريون يصوّرون أفلامهم ما بين لبنان وسوريا، وبدأوا بتوزيعها من خلال شركاتهم في لبنان، كما جرى إنتاج عدد من الأفلام المشتركة ما بين لبنان وتركيا وإيران، ساهم فيها منتجون ومخرجون وممثلون سوريون ومصريون. بعد هزيمة حزيران 1967 تراجع الإنتاج السينمائي في لبنان، حيث أُنتج في العام 1968 عشرون فيلماً، نصفها إنتاج مشترك مع تركيا وإيران. وتضاءل العدد إلى عشرة أفلام في العام 1969 نصفها إنتاج مشترك، وثلاثة منها تمجد المقاومة الفلسطينية التي استقطبت وقتها الجمهور السينمائي العربي. وقد تأثر الإنتاج أيضاً بسبب دبلجة أكثر من عشرة أفلام كل سنة من الأفلام التركية إلى اللغة العربية لتوزيعها في الأسواق العربية ما بين 1965 و1969.
بدت الأفلام التي ظهرت في لبنان خلال تلك الحقبة متأثرة بالأفلام التي راجت عالمياً، بدءاً بالأفلام الغنائية والعاطفية في أواخر الخمسينات وبداية الستينات، إلى الأفلام الغنائية ذات الطابع البدوي التي برزت من خلال المجموعة التي قدّمتها سميرة توفيق ابتداء من العام 1962، وتبعتها أفلام المغامرات والجاسوسية التي ظهرت بين 1963 و1968، وفيها ظهر أثر أفلام جيمس بوند وما يماثلها، وقد صُوّرت بعضٌ من مشاهد هذه الأفلام الأجنبية في لبنان ما بين 1964 و1972.
من جهة أخرى، راجت في تلك الفترة الأفلام اللبنانية – السورية المشتركة التي أدى أدوار البطولة فيها الفنانان دريد لحام ونهاد قلعي، وبعدها موجة الأفلام التي حملت لواء المقاومة الفلسطينية، ثم موجة أفلام الإغراء والجنس في أوائل السبعينات، إلا أن هذا لم يمنع ظهور أفلام لبنانية ذات طابع اجتماعي، مثل “الأجنحة المتكسّرة” المستمدّة من رواية جبران خليل جبران، إخراج يوسف معلوف وتمثيل نضال الأشقر وبيار سلامة، و”غارو” لكاري كربيتيان، و”الأخرس والحب” لألفرد بحري، بطولة منير معاصري وريمون جبارة، إضافة إلى ثلاثية الأخوين رحباني وفيروز، مع حفظ حقوق المخرجين، وفي الأخص فيلم “سفر برلك” الذي يُعدّ الفيلم التاريخي اللبناني الوحيد حتّى اليوم. ولا ننسى هنا فيلمي المخرج والناقد سمير نصري، “شباب تحت الشمس” و”انتصار منهزم”.
لقد كان الغرض الأول للإنتاج السينمائي في لبنان حتى أوائل السبعينات ملء نقص العائد من تقلص الإنتاج السينمائي في مصر والوصول الى أكبر عدد من المشاهدين العرب وكان أسمى أهدافه آنذاك محاكاة السينما المصرية والعالمية والتشبه بهما. مع عودة السينمائين المصريين الى بلادهم والغاء التأميم عن الشركات والإنتاج السينمائي أوائل السبعينات افتتح عدد من المنتجين اللبنانين مكاتب لشركاتهم في مصر وتعاملوا مع مخرجين وفنانين مصريين في صناعة أفلامهم في مصر (نرى بعض النماذج من هذه الأفلام في السبعينات:
“الزائرة” 1972، “حبيبتي” 1972، “أبناء للبيع” 1972، “أجمل أيام حياتي” 1973، وأفلام عديدة أخرى). قبل اندلاع الحرب الأهلية، عاد إلى لبنان عدد من المخرجين الشباب الذين تابعوا دراستهم السينمائية في الخارج، مثل برهان علوية ومارون بغدادي وجوسلين صعب ورندا الشهال ورفيق حجّار وجورج شمشوم وجان شمعون وآخرين. في البداية، صوّر هؤلاء المخرجون الأفلام الوثائقية، وعالجوا على نحوٍ خاص الأوضاع التي كان يعيشها لبنان قبل انفجار الحرب الأهلية، وكان لثلاثة منهم أفلامهم الروائية الطويلة: جورج شمشوم في فيلم “سلام بعد الموت”، وبرهان علوية في فيلم “كفرقاسم”، ومارون بغدادي في فيلم “بيروت يا بيروت”. في هذا السياق، شرع رفيق حجّار في تصوير فيلم “المطاردة” ولم ينهه لأسباب إنتاجية. ثم، ظهرت أفلام هذا الجيل الجديد في الثمانينات، ومثلت هذه الأفلام ولادة لسينما لبنانية جديدة ستكون قصة الجزء الثاني من كتابنا عن تاريخ السينما في لبنان.
*****
(*) مقدمة كتاب “هذا المساء – السينما في لبنان 1929 – 1979” لعبودي أبو جودة، يصدر قريباً لدى “الفرات للنشر والتوزيع”.
(*) ملحق المهار، 7 نوفمبر 2015