الدكتور أحمد علبي… أسير الكتابة

micheline-olabi

الأديبة ميشلين حبيب

(*) لم يسأل أحد الفكر إن كان يهوى الجوائز أم يعاديها، ولم يراسل أحد الإبداع سائلاً إياه عن رأيه في الحصول على جائزة جرّاءَ صولاته وجولاته. لذلك نتساءل هل منح جائزة أمر يستسيغه الفكر؟ ويأتي الردّ إيجاباً. كيف ذلك والفكر والإبداع لا يعترفان بحدود أو آفاق بل يخلقان الآفاق ويتحديان المساحات والزمن؟

الجوائز الشعرية أو الأدبية  أو الفكرية هي تقدير لمنجز العمل الأدبي وإقرار بأهمية فكره وقلمه. لكن الفكر يستسيغها لسبب آخر إذ إنَّها أيضاً مجال للمشاكسة الفكرية والنقد والجدال. فأمام كل تقدير، هناك مشاغبة فكرية وتمرد وهذه هي لعبة الفكر والإبداع.  والحاضرون هنا اليوم كل يتقن هذه اللعبة، والفكر والإبداع ملعبهم. أهلاً بكم حضوراً مبدعاً مفكراً كريماً.

يشرّفني أن أقدم هذا الحفل المليء بالأقلام والأعلام المفكرة والمثقفة والتي زادتني ثقافة. وأرحب بكل مبدع ومفكر وكاتب وشاعر وأديب وصحافي وإعلامي وتربوي وصديق موجود معنا اليوم حضوراً ومتكلمين.

جرت العادة أن يُكرّم الكاتب أو الأديب أو الشاعر أو المفكر بعد موته. يعني بعد أن يكون قد كرّمه الخالق.

أما في حياته فلا بد أن يعيش مغبوناً رازحاً تحت ثِقَلِ الحياة وإلا لا يُسمّى كاتباً. وكأن الكاتبَ بطل خارق (سوبر هيرو) يتمتع بقوى خارقة تحميه من العوز والقهر الاجتماعي والمعنوي. هو يملك تلك القوى الخارقة في قلمه وفكره لكن ليس في جسده أو حياته الأرضية.

ونسمع كثيرين يقولون “هو برستيج وما بيطعمي خبز”. وأجبت أحدهم مرة على إثر مثل هذا التعليق: ماذا يحصل إن لم تتنفس؟ قال أموت. قلت له، وهكذا الكتابة بالنسبة إلي، إن لم أكتب أَمُت.

وأقتبس من الدكتور علبي رداً آخر من حوار له مع الشاعر لامع الحر لمجلة الشراع، على إثر سؤاله، بعد هذه التجربة الكتابية هل من جدوى؟ أجابه: إن كنت ترمي إلى النفع المادي، فأنا أطمئنك، ولستَ بحاجة إلى مَن يفعل ذلك، أن دواوينك الشعرية، مهما تعددت واستطالت، لن تنهض بإعالة أولادك الميامين. ولكنك أنت لن تقلعَ عن معاقرة الإلهام واستدعاء ربة الشعر. فهناك جدوى روحية لا نظير لها، ولا يدرك قيمتها إلا من تعاطاها.

ويقول د.علبي أيضاً… والكتّاب راحلون وما هم براحلين، وذلك لأن ما يُوَرِّثُونَه من أدب للأجيال اللاحقة تستعيده بعدئذ بنظرة مستحدثةٍ وعينٍ جديدة، فكأن هؤلاء الراحلين ما زالوا، على نحوٍ ما، يواظبون على الكتابة ويُبدعون. هل مات أمين الريحاني، وهل انطوى ذكر طه حُسَين، وهل نسينا عمر فاخوري وهل غاب عن بالنا إبراهيم عبد القادر المازني ….. وغيرهم وغيرهم في النهاية أقول: لا معنى لحياتي إن لم ألوّث الورق وأخلق عوالم وأطير الى أماكن وأخرق العقول وأنهب القلوب. الكتابة ولادة وألم وعذاب ومتعة ولذة تقتلني لتعيش هي. نعم سأموت لأكتب ولا يهمني الموت سأعصر أنفاسه وأجعلها حبراً لقلمي.

ahmad olabi wa jean salmeh

أحمد علبي وجان سالمة

(**) الدكتور أحمد عُلبي

“… في هذا سر الكتابة، فهي توهم المرء بعالم وأحداث وأجواء، فينساق في اللعبة الفنية، ويصبح أسيراً لها. وهو أسرٌ يطول ويطول، بمقدار ما يحتوي العمل الأدبي من عناصر البقاء والخلود”. وقد انساق الأديب والباحث والمفكر الدكتور أحمد عُلبي في هذه اللعبة الفنية التي وصفها في تلك السطور وأصبح أسيراً لها وقد طال أسره وطال فنتج عنه نتاج أدبي غزير ومهم. هو أديب ريادي يحوّلك وأنت تقرأ له عن معتاد، وقد تعد نفسك أنك عائدٌ وفي جعبتِكَ أشياءُ جديدة. كتب، خلال ما يزيد على نصف قرن، عدداً وافراً من الأَبحاث العلميّة الأكاديميّة ومن المقالات العلميّة، في الأدب والفنّ والنقد والتاريخ.

هو إنسان يحب الثقافة ويؤمن أن التعليم فن ومن الضروري أن يكون المعلم مثقفاً. يستوحي من الطبيعة التي هي كتاب مفتوح يستوحي منه الجميع. يعرف مناطق لا تحصى في لبنان زارها وخلّدها في كتاباته. الكتابة بالنسبة إليه سليقة وهو على الدوام في لُجّة كتابية يتنقّل من موضوع إلى آخر ومن صنف أدبي إلى أخيه، حتى يقول: لقد صارت الكتابة بعدئذ هُتاف قلبي وزاد عقلي ومبرر وجودي وجوهره. ولا أجدني في هذه الدنيا الرحلة أُحسِنُ صنعة أو أتعاطى مهنة غير امتشاق القلم…

micheline olabi 2

ميشلين حبيب وأحمد علبي

مارس التعليم الثانويّ فالجامعيّ مدّة أَربعين عاماً حيث عمِل أستاذاً للأدب العربيّ الحديث ولمنهجيّة البحث في كلّيّة الآداب بالجامعة اللبنانيّة. يتجلّى أسلوبه الأدبيّ وروحه الكتابيّة من خلال ممارسته المقالةَ الأدبيّة، هذا الفنّ الذي يكاد يختفي في زمننا. اشتغل في الصِّحافة، وهو لا يزال فتًى، ثم أقلع عنها سريعاً لأنّه آثر الانصراف بعدئذٍ إلى البحث العلميّ بشقَّيْه الأدبيّ والتاريخيّ.

كان من اهتماماته الأُولى التي تابعها بعدئذ، اهتمامه بثورة الزَّنْج في العصر العبّاسيّ. وهذه الثورة الاجتماعيّة، برغم ما خالطها من عنفٍ وتدمير من الطرفين المتقاتلَيْن: الخِلافة والعبيد، هي صفحة من المطالبة بالعدالة الاجتماعيّة وبالخبز والحريّة؛ وهكذا كان له، في هذا الميدان الاجتماعيّ الاقتصاديّ، الذي اقتحمه باكراً في حقل الدراسات الإسلاميّة، كتابان: «ثورة الزَّنْج، وقائدها عليّ بن محمّد»، و «ثورة العبيد في الإسلام».

وكان احتفاله بطه حُسَين كبيراً وكذلك برئيف خوري وابن المقفّع، فكتب “طه حسين، رجلٌ وفكرٌ وعصر”، و”طه حسين، سيرةُ مكافحٍ عنيد”، و”رئيف خوري، داعيةُ الديمقراطية والعروبة”، و”إبن المقفّع، مُصلحٌ صرَعه الظلم”.

*****

(*) الكلمة التي  قدمت بها ميشلين حبيب  المهرجان التكريمي الذي أقامته لجنة جائزة جان سالمة للأديب  الدكتور محمد علبي  في 4 نوفمبر ، في قاعة الجمعية الإسلامية للتخصص والتوجيه العلمي، وشارك فيها الدكتور أهيف سنو، الأستاذ الياس شاكر، الأديبة غريد الشيخ محمد، الأستاذ جان سالمة.

(**) الكلمة التي قدمت بها ميشلين حبيب الدكتور أحمد علبي. 

اترك رد