منار علي حسن
عن “دار الإبداع” في بيروت، صدر حديثاً للدكتور ربيعة ابي فاضل ديوان “نشيد
مشرقي”، يضم مجموعة من القصائد باللغة العربية وترجمتها الفرنسية، أرادها الشاعر بلغتين لكي يسمع العالم بأسره أنين المشرقي وتخبطه في محرقة التفكك والانهيار.
قصائد الديوان لا تنتمي إلى زمان معين ومكان معين، بل تحدق إلى السماء وتتأمل في رحلة الأرض وأهلها، وإلى حضور العلي الصامت، محاولة صنع الحياة ونسج الفرح من قلب الآلام، لكن الواقع يكبل كل شيء حتى الشعر، كيف لا والأنهار يبست وشاخت من فرط التغرب والأنين، وخيّم العطش والجوع بعد الدموع، وبات المشرقي لا يعرف تماماً أين يولد وأين يموت؟
إزاء هذه المعاناة الدامية لم يبقَ لربيعة أبي فاضل غير النصوص الشاعرة كرسيّ اعتراف وفضاء للتوبة والصراخ، والخيال مذبحاً للبخور، للعبور إلى الولادة الجديدة. لم يبقَ غير لغة السحاب، نمنحها اشكالا غريبة، نسافر معها نحو بلادنا البعيدة. وبصوفية جميلة تناجي القصائد الخالق وتتساءل: كيف ننأى عن ظلام ذواتنا لنقترب من نور ذاتك؟
حول ديوانه الجديد وكيف يمكن أن يرسم الشعر المعاناة ويكون صوتاً يردد صداه العالم باسره، وحول جذور قصائده التي ترسم معاناة عبر التاريخ وليس في اللحظة الحاضرة فحسب، والدليل أن القصائد تحاكي المجازر منذ القرن التاسع عشر، كان الحوار التالي مع د. ربيعة أبي فاضل.
ما هو الشعر بالنسبة إليك؟
الشعر نافذة على الروح ومحاولة عيش العالم بتجاربه الحلوة والمرة، والارتقاء بها إلى مستوى الحلم، أحياناً يكون الحلم متمماً للواقع إذا كان الواقع مفرغاً من الخيال واللطف اللذين يحتاجهما الإنسان في رحلته. الشعر رجاء لأن الله يفرح بالشعر وبأن نسبحه ببساطة الصورة والإيقاع وحرارة التجربة. أجمل زمان في حياتي هو عندما أتعرى من كل شيء لأعطي لحظة الشعر ما تستحق من عناية وسفر ورؤية.
متى تفيء إليه؟
عندما يقوده الشوق إلي، يهزّ كياني، ويجذبني نحو فضائه، فيغمرني بضبابه، وأغمره بآلامي، أحملها ملتهبة، ومعها جراحات الأرض، وتأوهات أهلها. والذي يجرح في القلب، لا يخرج، يتّسع له المدى الشعري، فأرسل الأنين يلبس ثوب الرجاء، وأعاني المرارة تؤاسيها حلاوة الآتي… فأنسى العالم ورائي، بعنفه، وغرائزه، وفراغاته، وتحجّره، وأصوغ عالماً آخر، من ألحان الفردوس، وموسيقى الزهر، ومشاهد الحدائق تتشوّف الربيع، ومياه الحياة.
متى كان اللقاء الأول بين الشعر وبين قلمك؟
كان الشعر، دائماً، بيتي الذي يدفئني، وحقلي الذي يسعدني، والمكان الذي تسكنه طمأنينتي، وتنمو فيه حريتي. منذ 1976، وإلى هذه اللحظات، وأنا اعترف له بجميع الخطايا، والأوهان، ومنه استمدّ التوبة، والمغفرة، والرقي. لذلك كان حواري معه ذا نفس عميق، وإيقاعات متنوّعة، متناسقة، وصور تصعّد من طبقة الحسّ، والفناء، إلى طبقة التّخييل والبقاء، إلى رؤية الرؤيا، ولطف الموقف، وجوهر الكائن المشعّ، والكائنات التي تتطلع الشرق الحق.
لماذا “نشيد مشرقي” تحديداً؟
لأن هذا الشرق عذّبني إلى حدّ الصلب، وأيبس شجرتي، وجفف ثماري. احببته فافترسني، ونوّرت طريقه، فعتّم قلبي، وحياتي، وتصوّفت في ترابه، وتراثه، وأرضه، فاقتلعني كورقة لعِبت بها يد الخريف. أردته أباً، وتاريخاً مقدّساً، وسراجاً يضيء الدنيا، فمزّقت نصوصه سكينتي، ونزفت كلماتي تحت سكّينه، وغدا زماني القلق كله، وأكلت الوحشة مكاني، وما تبقى من طيور حديقتي، وبتّ، لا الماضي يحميني ولا المستقبل يهديني، ولا الحلم يزورني، ولا البهاء يعرفني. هكذا، منذ 1860، مروراً بـ 1915، مروراً بـ 1975، و2015، رأيتني طيراً يهاجر بلا فضاء، ليس له من دنياه، سوى فضاء الشعر، والروح.
متى انطلق قلمك غائصاً في “نشيد مشرقي”؟
بدأت الكتابة قبل أكثر من سنة وكان في بالي ما حدث عام 1915 من مجازر بحق الأرمن والسريان والأشوريين واليونان وغيرهم. حملت همّ المشرقيين وهمّ الصراع ما بين النص والنفس. وتساءلت: لماذا يجني النص تحت عنوان الـ “ميتافيزيك” على النفس وهي تستحق الحياة؟ هذه الأزمة تشبه في حدتها وشدتها أزمة نيتشه عندما أحل العدم محل الله، وأزمة هايدغر عندما حاول أن يفرغ الماروراء من القيم المتعلقة به.
“نشيد مشرقي” يتغنى بالحياة وثقافة الحياة ويرثي ثقافة العنف والموت، ويستعين براعي المخلوقات ويسأله من المسؤول عن كل هذه التناقضات؟ هل يعقل أن يكون الروح الكوني مبدع المجرات والشمس والحياة هو الذي ينسخ نصوصه ويبدل ويغير ويخلق تناقضات قاتلة؟
هنا تكمن الأزمة وهي نفسية وجودية كيانية في هذا النشيد، وبرهنت أن تجربة الفرد الشعرية قيمتها في أن تصهر تجارب الآخرين ومآسيهم، لذلك القاتل مقتول تماماً كالذي قتل، يعني أن الجهل هو جريمة والتجهيل جريمة وثقافة العنف جريمة، لذلك لا أملك سوى أمرين بإزاء هذه الأزمة: الأول الدعوة إلى تغيير جذري في اتجاه السلام والحوار وتقبل الآخر. الثاني أن أحاور الخالق في ظل موت الحوار بين الناس وبخاصة الرعاة الذين تركوا القطيع يذبح، ومارسوا السياسة المدمرة بدلا من القداسة التي تحمي وتنمي.
المشرق الآن يدفع ثمن السبي منذ عهد إرميا أيضاً، هنا تطرح أسئلة على الله الذي نقم على الأشوريين الذين تسببوا بهذا السبي، ومن يراجع الحرب على العراق يجد في تفاصيلها ردأ ولو بعد ألفي سنة من قبل جماعة إرميا على جماعة نبوخذ نصر، لذلك نهبت الوثائق والمخطوطات بمئات الألوف واقتلعت من الأعراق.
إذاً هي حرب على تراث ما بين النهرين والهلال الخصيب.
بالطبع، وليس تدمير الآثار سوى جزء من هذه الحرب الشرسة التي هي رد على هذا السبي، ولا استبعد أن تكون مذابح الأرمن والأشوريين والسريان ضمن هذه الدائرة، لأن الذين صلبوا المسيح وعدوا بصلب أتباعه أيضاً، ولم يقصروا في هذا المجال، فالآمر صامت والمأمور هو الذي ينفذ، الآمر عارف والمأمور جاهل لكنه مجرم. هل يعقل أن نعود بهذا الشرق إلى القرون الوسطى، وهل يعقل أن نحل الجهالة محل الجهالية؟
ما تعني بالجهالية؟
الجهالية ظاهرة جماعية دينية تمارس الجهاد والجهل معاً بحق الإنسان والإنسانية، لذلك هي أخطر من الجاهلية، لأن الجاهلي يرتكب الجريمة عن جهل وحاجة وفطرة، لكن الجهالي يضمر على جريمته وهو يصطنعها انطلاقاً من مبدأ يعيشه ويمارسه، وهذا أساء إلى العرب وردهم مئات السنين إلى الوراء وجعلهم في ظل العولمة متخلفين حتى التراب.
المخططات قائمة لتفكيك هذا الشرق وتنفّذ، والمؤلم يتم في الخفاء والتنفيذ على السطح، نحن نعيش في زمن جنون الدول والأفراد.
ما الذي تقصده بكلامك هذا؟
اقصد أن دولة معينة في هذا الشرق واكثر من دولة، تتكلم بالديمقراطية وتطمح إلى الانتماء إلى الفضاء الأوروبي وتتحدث بالحداثة والتطور وتذويب الأزمات حتى الصفر مع العالم، وفي الوقت عينة تمارس الإرهاب وتسلحه وتمارس الثيوقراطية، ودول أخرى تتكلم حول حقوق الإنسان وتماس الثيوقراطية، هذا منتهى البشاعة أن يتلو الظاهر بألوان باهرة في حين أن الداخل قبور مكلسة، والإنسان هو الضحية، كذلك المجتمعات، والإشكالية: ما هو مصير العرب في ظل ما يحدث وفي ظل العولمة وما بعد الحداثة؟ ما مصير الفكر الحداثوي في ظل هذا التفكك والتخلف وهل يؤدي إلى تخريج رجال الدماء بدلا من رجال السلام والعقلانية؟
في الكتاب نزعة صوفية ووجع دامٍ عبرت عنهما باللغة الفرنسية أيضاً، لماذا هذه اللغة بالذات؟
بعد قراءتي للكتاب المقدس والقرآن والجاحظ والتوحيدي والمتصوفين حاولت أن اخصّب لغتي الشعرية بكل هذا التراث الجميل الحضاري، لأني علّمت كل هذه المواد، بإيقاعات هذا التراث وروحيته، وحتماً اكتشفت من خلال قراءتي تيار دو شاردان وسان جان دولاكروا وباشلار وبودلير… اكتشفت في اللاوعي أن ثمة تناغماً بيني وبين الفرنسية بعد كتابات أديب مظهر رائد الرمزية في الشعر العربي، والنزعة الصوفية في الأدب المهجري.
بعد هذه المرحلة وعندما كنت أكتب “نشيد مشرقي” حدث نوع من النزاع في نفسي وأردت أن اسمع عبر هذا الكتاب الصوت والصدى علّ الصدى يكون أبعد، خصوصاً في المدى الأوروبي، ليسمعوا صراخ أوجاعنا وأزماتنا الكيانية في هذا الشرق. حتما لكل لغة خطابها والخطاب هو الرسالة التي يحملها نص ما إلى القراء وإلى الحياة لكي يفعل فيها ويغيرها.
لا بد من أن نكتب بلغة اخرى ليصل صوت آلامنا إلى الآخرين، فأوروبا الوثنية اليوم لا مبالية، بالمعنى المطلق، بآلام المشرقيين، ولا أريد أن أذكر أيضاً العوالم الأخرى ودورها ولا أريد الدخول في متاهات السياسة.
ما الفرق بين “نشيد مشرقي” و”ألحان السكينة”؟
نشيد مشرقي هو المرحلة التالية بعد “ألحان السكينة”، في ألحان السكينة كان الصوت الذي يحاور الخالق مفرداً، صوتي ومعاناتي وبحثي عن الخلاص عبر تجار هذا الزمان وهذا المكان. في “نشيد مشرقي” لم يعد الصوت والمعاناة مفردين، أصبح الشعر تعبيراً حضارياً عن كل المعتقلين والمهجرين والمضطهدين وكل الذي سلخوا من أرضهم، واقتيدوا كالخراف إلى الذبح. تساءلت من السؤول عن اقتلاع شعب بكامله من أرضه؟ من هو الإنسان؟ هل هؤلاء بشر الذين يذبحون؟ ما زالوا في درجة مسخ ولم يرتقوا إلى درجة إنسان.
إذا شئنا أن نتعلم من تجارب سبقتنا، نعطي مثالا تجربة المعلم بطرس البستاني في “نفير سوريا”، ورؤيته بإزاء مذابح الجبل اللبناني وسورية، فنلاحظ في “الوطنية الحادية عشرة” من كتابه أمراً مهماً، وهو أنه لو قدر للسوريين أن يتفاهموا ويستعيدوا إلفتهم وسلامهم لما سمح لهم بذلك، ومن يبحث لدى السوريين عن حلول لمشكلاتهم كمن يطلب من المريض أن يطبب نفسه، وبإزاء هذا الوضع لم يجد الرجل مخرجاً سوى أن يندب حظ هذه الأمة، كما قال، وأن ينتظر معجزة من السماء.
****
(*) جريدة “الجريدة” الكويتية.
رجاء الاطلاع علي اميل موقعكم الغالي