فن الرواية بين الإبداع والصنعة

د. جــودت هوشـيار

قال أحد الروائيين الكورد – وهو يقدم لي نسخة من روايته الجديدة – إنه أخرج خلال السنوات القليلة jawdat hoshiar 1الماضية أكثر من عشرين رواية، بينها عدة روايات مترجمة من اللغة العربية. وكانت مناسبة للتعرف على عالمه القصصي وتجربته الروائية (الخصبة). ووجدتني أقول:

 – كيف تكتب روايتك ، وهل تشكل تجربتك الذاتية وهمومك الروحية والإنسانية مادة أولية لها، وما دور الخيال في العملية الروائية وخاصة في خلق الشخصيات؟

 – لا علاقة لتجاربي الذاتية وعالمي الروحي  بما أكتبه من روايات، فأنا أجمع لكل رواية المعلومات المطلوبة، خلال ثلاثة أشهر، من المصادر المختلفة وبضمنها إجراء مقابلات مع الناس الذين يمكن أن يقدموا لي معلومات جديدة عن موضوع الرواية. وأكتب روايتي الجديدة خلال الأشهر الثلاثة التالية، أي أنني أخرج رواية جديدة كل ستة أشهر.

 وفكرت للحظات، أن هذه الخصوبة نادرة بين كتّاب الرواية في العالم، ويبدو أنه يسير على خطى  الروائي جورج سيمنون، الأغزر إنتاجا  في تأريخ الرواية، والذي كتب 450 رواية، ولست على يقين إن كان الروائي الكوردي قد قرأ شيئاً لسيمنون”. مع فرق جوهري أن سيمنون لم يكن يجمع المعلومات من هنا وهناك، بل تأخذ العملية الإبداعية لديه شكل الإلهام. وبذلت جهداً حتى لا يشعر صاحبي بما يدور في ذهني ولكي يستمر الحوار بيننا، قلت:

 – هل تتبلور عناصر الرواية بشخوصها وأحداثها في ذهنك قبل المباشرة بكتابتها؟

 -لا أفكر في  الرواية قبل كتابتها، بل إن كل جهدي ينصب على تنظيم المعلومات التي جمعتها من مصادر عديدة، وإعادة ترتيبها وتنظيمها وابتكار مواقف وحوارات  لشخصيات تنطق بهذه المعلومات.

 لم أقل له، إذن ما الفرق بين المقال والتحقيق الصحفي وبين الرواية إذا كان الجهد الأساسي للكاتب ينحصر في جمع المعلومات وتنظيمها؟. إن أغلب الروائيين الكبار في الأدب العالمي يؤكدون عند الحديث عن تجاربهم الروائية، أن ولادة الشخصيات الحية، هي أهم وأصعب ما صادفهم في العملية الروائية، لأن الشخصيات الروائية، ليست دمى يحركها ويستنطقها الكاتب كما يشاء.

 قلت: لمن قرأت من الروائيين الكلاسيكيين، مثل فلوبير وستندال وتولستوي ودوستويفسكي وغيرهم؟

 –  لم أقرأ ولن أقرأ أي رواية كلاسيكية، فهؤلاء الذين ذكرتهم يصيبونني بالضجر والكآبة، ولا أطيقهم . فالبيئة التي كتبوا فيها وشخوص رواياتهم لا تهمني في شيء!

 نظرت اليه في دهشة واستغراب، لأنني أعتقد، إن من يرغب في كتابة الرواية لا بد له  أن يكون بالدرجة الأولى، قارئاً نهماً. ويقول الروائي الأميركي ستيفن كينغ: “إن لم يكن لديك وقت للقراءة، يعني أنك لا تملك الوقت أو أدوات الكتابة”.

  أيعقل أن يتجاهل كاتب روائي قراءة روائع الأدب العالمي ؟

 وخلال  لحظات الصمت التي سادت بيننا، حاولت أن أجد له عذراً ، وقلت في سري لعله على صواب، فالكاتب الروائي ينبغي أن ينسى كل ما قرأه، ليكتب روايته. ولكن ماذا عن التقنية الروائية! وكيف يمكن لأي روائي أن يتجاهل تجارب من سبقوه من اساتذة هذا الفن الصعب؟

 صحيح أن  ثمة مئات الطرق للبناء الروائي والسرد القصصي ، ولكن من لم يطلع على التجارب السابقة في الفن الروائي، كمن يبدأ من الصفر، او كأنه يكتب أول رواية في تأريخ الأدب.

 وسألته أخيراً: اذن لمن تقرأ من الروائيين المعاصرين ؟ ومن هو الروائي المفضل لديك ؟

– أنا أقرأ الروايات العربية الحديثة، وخاصة روايات الكاتب العراقي … وقد ترجمت بعض رواياته الى اللغة الكوردية.

  لم أكن قد قرأت شيئاً لهذا الروائي الذي ذكره صاحبي . قلت له:

 – لا استطيع أن أحكم على القيمة الفنية  لروايات لم أقرأها .

 وفي معرض الكتاب الأخير في أربيل. اقتنيت كل ما وقع عليه نظري من روايات هذا الكاتب العراقي، وقرأتها بإمعان، وكلها من ذلك النوع الخفيف، الذي يستهوي الجمهور العام – وليس الكتّاب أو المثقفين –  لما فيه من أحداث ومواقف مثيرة، غير أنها ليست ذات قيمة فنية،  روايات خفيفة لا تستحق الوقت الذي يهدر في قراءتها. وأشبه بالوجبات السريعة (الفاست فوود)، (يبتلعها) القارئ بسرعة وينساها بسرعة أكبر، ولا تصلح سوى لقضاء الوقت في المنتجعات وعلى شواطيء البحر ، وعربات القطار أو المترو . فقد عثرت ذات مرة على العديد من الروايات التي تركها أصحابها بعد الفراغ من قراءتها على مقاعد القطار المتوجه من بلدة (بيتربرو) إلى لندن.  كما أن القراء الأميركيين، يفعلون الشيء ذاته، ولا يحتفظون بمثل هذه الروايات بعد الفراغ من قراءتها.

 ولكن ما كتبه هذا الكاتب العراقي على الأغلفة الأخيرة لرواياته لاجتذاب القراء، كان شيئا لا يصدق، ولا علاقة له بمضامينها، فهو يقول إنها روايات فلسفية واستكشاف للواقع العراقي بأسلوب متفرد وحديث.

ودفعني حب الاستطلاع إلى قراءة سيرته الأدبية في موقع (ويكيبيديا، الموسوعة الحرة)، وهي سيرة مطولة من عدة صفحات طافحة بالادعاءات. ومن يقرأ ما كتبه عن نفسه، يعتقد أن عبقرية جديدة قد ظهرت في العراق ، لا يقل شأناً عن عمالقة الأدب العالمي. والأغرب من ذلك هو تأكيده في كل مرة، أن رواياته قد ترجمت إلى اللغات الأجنبية، وحازت على جوائز أدبية رفيعة. وقد حاولت عن طريق البحث في (غوغل) أن اعثر على رواية له مترجمة إلى إحدى اللغتين الإنكليزية أوالروسية ( وهما اللغتان اللتان أقرأ من خلالهما الإصدارات الجديدة في الخارج) غير أني لم أعثر على ترجمة أجنبية لأي رواية لهذا الكاتب،  في حين أن عددأ من رواياته قد ترجم فعلاً إلى اللغة الكوردية.

 ويقول في سيرته الذاتية إن رواياته، تنتمي الى ما يعرف بروايات ( ما بعد الحداثة )  وتنطوي على افكار فلسفية، وأنه أول من استخدم الأسلوب البرقي في الكتابة الروائية!

لنترك الفلسفة جانباً، لأنه لا علاقة لرواياته  بها، لا من قريب، ولا من بعيد، ولكنني أتساءل إن كان قد قرأ روايات هيمنجواي واهرنبورغ وعشرات الروائيين الغربيين، الذين استخدموا الأسلوب البرقي في الكتابة الروائية، قبل أن يولد هو بعشرات السنين. كما أن مضامين رواياته وبنائها الفني وأسلوبها السردي، لا تنتمي بأي شكل من الأشكال إلى رواية ( ما بعد الحداثة ) ولا الى الرواية الحديثة بأشكالها المتنوعة. والأسوأ من ذلك أن رواياته أشبه بتقارير وتحقيقات صحفية مطولة، لا نرى فيها شخصيات نابضة بالحياة ولا القدرة على الدخول في أعماق النفس البشرية، ورسم  ما تجيش به من لواعج وأهواء، ومن طموحات وصراعات مستترة في العادة وراء مظاهر الحياة الخارجية .

 ان الكتابة الإبداعية إن لم تكن نابعة من ذات الكاتب وتجربته ورؤاه، واذا لم ينفعل بها فإنها تكون مملّة، لأن مثل هذا المؤلف لا يعرف أبطاله ولا يفهمهم. ليس بوسع أي كاتب أن يكتب عن أي شيء وعن أي انسان، فهو لا يمتلك سوى حرية محدودة في اختيار  موضوعاته وأبطاله، لأن لكل كاتب، مهما كان موهوباً، حدوداً لا يستطيع تجاوزها. إن ابداع الروائي يتحدد بالمجتمع الذي يعيش فيه، وبتجربته الماضية وخبرته الحياتية وشخصيته .

 سأل احدهم الروائي  الروسي  ليف تولستوي ( 1828 – 1910 )  ذات مرة : كيف يستطيع الإنسان أن يكتب بشكل جيد. فقدم له نصيحتين ثمينتين:

 أولا-  يتعين على الكاتب أن لا يكتب مطلقاً عن موضوع غيرشائق بالنسبة اليه شخصياَ. ً

 ثانيا – اذا اراد الكاتب ان يكتب عملا إبداعياً ما ولكن كان بوسعه أن لا يكتبه،  فمن الأفضل أن يتخلى عن فكرته.

وفي مناسبة أخرى قال تولستوي: “على المرء أن يكتب فقط حينما يترك قطعة من لحمه في المحبرة في كل مرة يغطس قلمه فيها”، أي حينما يشعر بعمق شعوراً حقيقياً.

    الرواية عمل إبداعي ولكل كاتب رؤيته الخاصة المتفردة، فهو يكتب الرواية، لأنه يشعر بضرورة ملحة في البوح للناس، بما لم يكتبه أحد من قبل، ولأنه مصاب بمرض الكتابة ولكونه قد التقى أناساً وتملكته أحاسيس ليس بوسعه أن لا يعبر عنها.

 هكذا تظهر للوجود الروايات الممتعة التي تستحوذ على مشاعر القراء.

إذا تجاهل أي روائي نصائح تولستوي وكتب رواية دون أن يحس أنها ضرورة روحية له وأنه  كان بوسعه أن لا يكتبها، فإن نتاجه سيكون فاشلا ولن يستحوذ على مشاعر القراء، وسنجد بين أيدينا رواية يتوافر فيها شكلياً كل عناصر الرواية ولكنها تفتقر إلى الحرارة الوجدانية ولا تحمل أي قيمة للقارئ.

 يتميز الكاتب عن الآخرين بحساسيته المرهفة وحبه للناس واهتمامه بهم ولكن من السذاجة الاعتقاد أنه قادر على فهم أي إنسان، فالناس دونما استثناء- وبضمنهم الكتّاب- يحسون بمعاناة الآخرين انطلاقاً من تجاربهم الذاتية.

  إن الأحاسيس الغريبة على الكاتب، تلك التي لا تربطها وشيجة بطبيعة نفسيته  لا تستوقفه، واذا اراد الكاتب برغم ذلك ان يصفها، فإن مثل هذه النتاجات ستكون ضعيفة من حيث التعبير الفني، تشيع فيها البرودة.

 ان عملية الشروع في كتابة الفصل الاول من الرواية تسبقها  ليس شهور الاعداد لها فحسب، ولكن أيضاً آلام الكاتب وأفراحه وحياته المفعمة بنجاحاته وإخفاقاته وعلاقاته بالناس.

  وهذا لا يعني ان الكاتب لا يصور في روايته سوى تلك الحوادث التي مرت به، بل على العكس من ذلك، فالمؤلف يغير في العادة ليس معاناته الشخصية وتجربته الذاتية فحسب، ولكن أيضا مشاهداته، بيد انه يصف دائما الناس الذين يستطيع إدراك أفكارهم وأحاسيسهم, ولكي يكون بمقدروه إدراك معاناة شخصيات الرواية يتعين عليه أن يكون هو شخصياً قد عانى من تجربة تمهد له الطريق لإدراك هموم إنسان آخر.

 يرى كولن ويلسن أن “الفن، والرواية خصوصاً، مرآة يرى فيها المرء وجهه بالذات. ذلك أن الكاتب عندما يجلس أمام حزمة من الأوراق وقلمه بيده، فإن السؤال الذي يواجهه ليس ببساطة ماذا أكتب؟ بل من أنا ؟ وماذا أريد أن أكون؟ وهدفه من الكتابة مرتبط بإحساسه بالذات. …

 كان غوستاف  فلوبير (1821 – 1880)  في بداية حياته الأدبية يؤمن بأن الراوي العليم بكل شيء، يجب أن يكون موضوعياً في السرد القصصي، وأن لا ينحاز إلى أي شخصية من شخصيات روايته أو قصته.

 وكتب يقول: “بوسعك أن تصور الخمر، والحب، والنساء، شريطة – يا عزيزي – أن لا تكون سكراناً، أو رجلاً، أو جندياً. إذا تدخلت في الحياة، فأنك لن تراها جيداً، أو تعاني بسببها جداً أو تستمتع بها كثيرا”. هذه الكلمات كتبها فلوبير في عام 1850.

 ولكن  عندما شرع بكتابة روايته العظيمة “مدام بوفاري”، التي تمتاز بواقعيتها وروعة أسلوبها،  أدرك أن الكاتب لا يمكن أن يكون موضوعياً وبارداً، فهو لا يكتب تقريرأ، بل قصة نابضة بالحياة، فيها كل ما قال تولستوي إنه ضروري للكاتب الحقيقي.

 وبصدد شخصية بطلة الرواية (إيما بوفاري ) كتب  فلوبير إلى أحد اصدقائه يقول: ” إن ايما هي- أنا”. وقد يبدو هذا الزعم سخيفاً لأول وهلة. ما الذي يجمع بين عازب كهل، متشائم، دائم التأفف، أشيب الشعر، يمتلك ثقافة جمالية واسعة، وبين امرأة قروية طائشة، متهورة، وسيئة السمعة؟. والحق ان فلوبير قد أضفى على شخصية ايما الكثير من العناصر الذاتية، التي كان يمتاز بها هو شخصياً، وتدل على ذلك الرسائل المتبادلة بينه وبين أصدقائه، والمنشورة بعد وفاته.

إن المبدأ الذي سمح للرواية بأن تكتسب الطابع الإنساني هو النظر إلى الأشياء نظرة ذاتية وجعل الأشياء مثيرة للاهتمام. فهذا المبدأ ، هو الذي يجعلنا نقرأ الرواية مبهوري الأنفاس عن شيء، هو في حد ذاته قليل الأهمية.

اترك رد