حوار: منار علي حسن
بعد رحيل والدها الشاعر أنسي الحاج، تبدل مفهوم الزمن عند الشاعرة ندى الحاج ولم يعد ذاك الذي يحسب بالثواني، بل بما تصنع لتخلد ذكرى والدها الذي أطلّ على الشعر في بداياته بقصائد حب ورحل في سفره الأخير بقصائد حب أيضاً.
سنة ونصف على الرحيل وما زال صاحب “لن”، ” ماضي الأيام الآتية”، “ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة”، “كلمات كلمات كلمات”، “خواتم”… ينبض حضوره في كل كلمة جميلة وعبارة تصرخ في وجه المآسي التي تعصف بهذه المنطقة من العالم، وهو طالما حذر منها منذ سنوات طويلة في معظم كتاباته ورفع الصوت عالياً ليتنبه الحكام مما يخطّط له الكبار…
ولأن قصائد أنسي الحاج مدوّية ولا تحدّ بمكان ولا تقوى عليها السنون، فقد صدرت أخيراً الترجمة الفرنسية لكتاب “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع” عن دار “آكت سود ولوريان دي ليفر” في فرنسا، أنجزها د. عبد القادر الجنابي، وتزامنت مع إطلاق “مؤسسة أنسي الحاج” ألبوم “أنسي الحاج يكتب ويقرأ”.
حول ترجمة “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع”، وانتشار قصائد أنسي الحاج في لغات عدة حول العالم، و”مؤسسة أنسي الحاج” وأبرز أهدافها لا سيما تعريف الأجيال الجديدة على شعره، كان الحوار التالي مع الشاعرة ندى الحاج التي نهلت من معين والدها عشق الكلمة الصادقة والصورة الشعرية المتجاوزة حدود الـ “أنا” لتحاكي قضايا إنسانية بشفافية.
ما العلاقة التي تربط بين المترجم عبد القادر الجنابي والشاعر أنسي الحاج؟
تربط بينهما صداقة قديمة مبنية على الإعجاب المتبادل والمودّة العميقة. تعرَّف الشاعر والناقد العراقي عبد القادر الجنابي إلى والدي في باريس في نهاية السبعينات، وهو يعتبر أنسي الحاج رائد الشعر السوريالي في العالم العربي، خصوصاً وأن الجنابي من عشّاق الحركة الشعرية السوريالية الفرنسية ومؤسسها الشاعر أندريه بروتون.
كيف انبثقت فكرة ترجمة “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع” إلى الفرنسية؟
بعد رحيل والدي، أصدر عبد القادر كتاب ” أنسي الحاج مِن قصيدة النثر الى شقائق النثر، مختارات من أشعاره وخواتمه” عن دار جداول في لبنان . ثم أتبع هذا الكتاب بإصدار الترجمة الفرنسية لكتاب قصيدة “الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع” عن “دار أكت سود” في فرنسا و”لوريان دي ليفر” في لبنان. تلك الترجمة كان قد أعدّها عبد القادر منذ زمن بعيد ونشرها في إحدى المجلاّت الأدبية الفرنسية بعد مراجعة والدي لها- كما قيل لي-
أعتقد أن محبة الجنابي الكبيرة وتقديره العميق لأنسي الحاج وشعره، هما مصدر غزير لعطاءات عبد القادر في النقد والتحليل الأدبي والترجمة حول كل ما يتعلّق بكتابات والدي.
“الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع” يندرج ضمن الشعر التأملي أو التصوفي، إلى أي مدى نجحت الترجمة إلى الفرنسية في الحفاظ على هذا الجو؟
من المعروف أن في كل ترجمة خيانة ما، بالرغم من علاقة الحب التي يمكن أن تجمع بين المترجِم والعمل الذي يترجمه. وبما أن لكل لغة خاصيتها وسحرها وعالمها الفريد، فلا بدّ من أن يتغرَّب كل عمل شعري عن ذاتيته عند ترجمته وبالتالي أن يفقد شيئاً ما. بالنسبة لترجمة “الرسولة…”، استطاع الجنابي مع ماري- تيريز هويرتا أن يحافظ على جوهر القصيدة ونبضها الحيوي وإيقاعها الداخلي بأمانة وشعرية. ولكني أتحيّز للنص الأصلي بطبيعة الحال، خصوصاً أن اللغة العربية كما كتبها أنسي الحاج هي لغة الشهب واللهب الداخلي والصخب والسكون الملتصق بالذات والمخترع نفسه باستمرار. ومن المجحف أن نقارن بين اللغتين، بل علينا أن نهلِّل للترجمة التي تسمح بتقديم هذا الكتاب الشعري الفريد ونشيد الحب الصوفي باللغة الفرنسية.
الرسولة بشعرها الطويل تختصر المرأة الحبيبة والأرض، هل استطاعت الترجمة أن تبين شمولية رؤية الشاعر للمرأة التي هي كونية عنده لا تنتمي إلى مكان ما وزمان ما؟
نعم أعتقد ذلك، لاسيما وأن الجنابي يعرف فكر انسي الحاج بعمق ويشاطره الرؤية ذاتها للمرأة.
كيف تمّ اختيار القصائد الـ 18 لأنسي الحاج لترجمتها؟
عبد القادر هو الذي اختار القصائد حسب ذوقه ومزاجه الشعري والنقدي.
سبق أن ترجمت قصائد لأنسي الحاج إلى أكثر من لغة، من بينها “خواتم”، إلى أي مدى ساهمت هذه الترجمة في تعريف فكره إلى العالم خصوصاً أنه كان رؤيوياً في نظرته إلى أمور كثيرة تواجه العالم العربي اليوم؟
بالفعل إن أنسي الحاج كاتب وشاعر رؤيوي بامتياز، وكلما تسنّى للأجيال الجديدة الاطلاع على فكره وأدبه، كلما اتسعتْ أمامها الآفاق ولمستْ إنسانيتها بأبعادها الغنية. ما كتبه وعاشه وعايشه هو مخزون غني بالكنوز الفكرية والثقافية والإبداعية والوطنية، بمعناها الشاسع البعيد عن الحسابات والمحسوبيات والمحدوديات.
في رسالة وجهها المستشرق الفرنسي جاك بيرك إلى أنسي الحاج لدى صدور الديوان 1975 قال: انه لحريّ ببلدك، وبالغرب عموماً، أن يصغوا الى صوت الشاعر الذي يدعوهم الى إعادة توحيد ما جُزّئ، والى الاستعانة بالوحدة ضد الانقسام، إلى أي مدى هذا الصوت مسموع اليوم؟
كتب والدي مقالات كثيرة قبل اندلاع الحرب في لبنان في منتصف السبعينات، اعتقد من خلالها أنه بوعيه الرائي كان يمكنه أن يُجنِّب وطنه الصغير الإنفجار الكبير! وعند اندلاع الحرب سكت قلمه ودخل في صمت مرير. وها أن التاريخ يصطبغ اليوم بالظلمة وعالمنا العربي يهرول نحو الهاوية. كم كتب أنسي الحاج في سنواته الأربع الأخيرة ضد العنف الدامي، مدافعاً عن التطور الحتمي والحوار الراقي وكم كانت تؤلمه الأحوال الرهيبة التي عصفت بالبشر والحجر، حتى اني أفكر أحياناً أن أبي رحل في الوقت المناسب قبل أن يرى بأمّ العين استفحال الرعب الوحشي الذي تخجل منه الكلمة وينكسر بوجهه الصوت.
أخبرينا عن ألبوم أنسي الحاج “يكتب ويقرأ.“
“يكتب ويقرأ” هو عنوان ألبوم شعري أطلقته “مؤسسة أنسي الحاج” مع موزار شاهين الذي أنتج الألبوم منذ حوالى عشرين سنة، لكنه لم يرَ النور، للأسف، إلا بعد رحيل والدي الذي اشترك بصوته في إلقاء قصائده الإحدى والعشرين. وقد أعدّ الألبوم وأشرف على تنفيذه المخرج والممثل جوزف بو نصار، كما شارك في الإلقاء الممثلون أنطوان كرباج، رفعت طربيه وجوليا قصّار. وقد تمّ تسجيل الألبوم في استوديو الياس الرحباني. وهي تحية جميلة ومؤثّرة لأنسي الحاج الذي يبقى حياً بشعره وصوته…
مؤسسة أنسي الحاج” التي تترأسينها ما الاستراتيجية التي تتبعها للحفاظ على فكر أنسي الحاج؟
أنشأتُ تلك المؤسسة لأحافظ على إرث أنسي الحاج الغزير بعطاءاته. هو الذي أغنى الأجيال المتعاقبة منذ الستينات حتى اليوم بثقافته الواسعة ومواقفه الحرّة وكتاباته الخصبة وفكره النيِّر بنثره وشعره. ما أطمح إليه هو تحقيق حلمه بالحياة التي تستمر من خلال إنجازات المؤسسة التي لم تكمل سنتها الأولى بعد وهي تخطو خطواتها البكر.
ما أبرز خطواتها المستقبلية؟
إيجاد مركز يحمل اسم أنسي الحاج ليحتضن مكتبة والدي المهمة ونشاطات ثقافية وأدبية، نشْر كتب جديدة لم يتسنَ له أن يصدرها وإعادة نشر كتبه القديمة. إمكانية إطلاق جائزة باسمه تُمنح لإصدارات شعرية. وهي كلها خطوات تتطلّب وقتاً وجهوداً وظروفاً إيجابية لترى النور، لكن لنبدأ بالحلم أولاً حتى نتمكّن من تجسيده شيئاً فشيئاً.
أين هو أنسي الحاج من الأجيال اليوم؟
أعتقد أن أنسي الحاج مادة دسمة وشائقة بنظر الأجيال الجديدة المتعطّشة الى صوت يعلو فوق الانحطاط الذي وصل إليه العالم الراهن. صوت لا يشبه سواه آتٍ من صميم الروح، مخترقاً الحواجز النفسية ، متحرّراً من الأفكار المسبقة، محطِّماً الأغلال البشرية، رؤيوياً، صادماً، صافياً وحكيماً. فهو كتب بلغتهم وظلَّ حتى النهاية يفتش عن كل جديد، مستنبطاً جواهره حتى من أوحال الحياة…
لأنسي الحاج حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي تنشر فكره الشامل المحلق فوق السياسات الضيقة، ما ردود الفعل حولها خصوصاً أن عالم الإنترنت مفتوح على العالم بأسره؟
تتناقل مواقع التواصل الاجتماعي شذرات من كتابات والدي النثرية والشعرية التي يتلقّفها القرّاء بلهفة. وتلك ميزة إيجابية لنشر فكره المحلِّق وانتشاره بسرعة الضوء، لعلّ عقول الأجيال الجديدة تستنير وتنفتح البصائر بلا حدود قافزةَ فوق الأسياج القاتلة.
ما علاقة ندى الحاج الشاعرة مع أنسي الحاج الشاعر؟
كعلاقة كل ابنة بوالدها، مع تلك الإضافة الجوهرية التي هي الشعر وهنا بيت القصيد. لو لم أكن شاعرة ولو لم يكن والدي شاعراً بالحجم الكبير الذي هو فيه، أجزم أن علاقتنا كانت ستختلف. منذ وعيي الأول كما في لاوعي الطفلة، تعاملتُ مع أبي كما هو بتميّزه واختلافه وغرابته وحنوّه وهشاشته وبكل ما يجعله مهماً في نظر الآخرين. لم يكن اباً كسائر الآباء وبالتالي علاقتي معه كانت متميّزة مع قدر كبير من الاستيعاب والإعجاب بفكره وثقافته وكتاباته.
ما مفهومك للشعر وما دور والدك في توجهك إلى التعبير بلغة الشعر؟
الشعر بالنسبة لي هو روحي وكياني. أذكر أني حين كتبتُ أول قصيدة كنت في السابعة من عمري وكانت والدتي قارئتي الأولى. لم يوجّهني أبي الى التعبير بلغة الشعر، حتى أنه عارض فكرة نشر نصوص كتبتها في بداية عمر المراهقة اعتقاداً منه بأني كنت لا أزال صغيرة. لكنه رافقني في قراءته لكل ما كتبته حتى كتابي الأخير وذلك دون أن يؤثّر على شخصيتي الشعرية أو يتدخّل في أسلوبي، احتراماً منه لفرادتي وحريتي. كما كان يحبّ الصفاء الشعري الذي أكتب من خلاله.
منذ أثواب العشق (2010) لم تصدري ديواناً جديداً، هل انتهى زمن الحب الذي يكلل معظم قصائدك، في ظل ما نشهد اليوم من مآسٍ؟
منذ صدور كتابي السابع “أثواب العشق” في نهاية 2010 وأنا أكتب، لكني لم أشعر برغبتي في النشر ربما لتزامن النزف في العالم العربي مع مرض والدي وقلقي المزدوج. ينبع الحب من داخل النفس ويستمدّ قوته من الآخرين ويقوى في العطاء. سيحين الوقت الذي أنشر فيه كتابي المقبل وأهديه الى روح أبي الحبيب…
****
(*) جريدة “الجريدة” الكويتية.