ساعة مع جان عبيد

رؤوف قبيسي

في العام 1968 عدت من البرازيل مهجري الأول، وتعرفت في بيروت إلى الصحافي فريد الخطيب. raouf kbeisiكان فريد يعمل محرراً في مجلة “الصياد”، التي كانت من أشهر المجلات، وأوسعها انتشاراّ في لبنان والبلاد العربية، إذ كان يكتب فيها الشاعر سعيد عقل، وناشرها الظريف سعيد فريحة، صاحب “الجعبة” المعروفة باسمه.  كانت منشورات “دار الصياد” تعج يومها بكثير من الأسماء اللامعة كباسم الجسر، ومنح الصلح، والياس ربابي وروبير غانم، وغسان كنفاني، وجان عبيد، الذي كان رئيساً لتحرير “الصياد”، وغيرهم من أصحاب القلم الرفيع في لبنان ودنيا العرب.

ما زلت أذكر اليوم الذي اصطحبني فيه فريد، بسيارته الصغيرة الجديدة الزرقاء، إلى “دار الصياد” الواقعة على تخوم العاصمة، وعرفني إلى الأستاذ جان عبيد، بعدما أنس مني رغبة في تعلم مهنة الصحافة. ومثل كثيرين من الراغبين في مهنة المتاعب، كان لا بد من أن أسير في مراحل التدرب، وكانت أولاها غرفة المصححين، أوغرفة “البروفات”، التي ترسل إليها المقالات بعد خروجها من عمليات تنضيد الحروف. لم تكن التكنولوجيا، أو التقانة بلغة الشيخ عبد الله العلايلي، قد دخلت عالم الطباعة بعد، وكان التنضيد يتم بنظام “المونوتيب”، القائم على صب الأحرف منفردة، أو “اللينوتيب” القائم على سبك الأسطر، وكانت العمليتان تستتخدمان الرصاص الذائب لتحويل الكلام المكتوب باليد إلى حروف منضدة جاهزة للطباعة.

قدمني الأستاذ جان إلى الياس ابراهيم الخوري ( شقيق الراحل جورج ابراهيم الخوري، الذي كان رئيساً لتحرير مجلة “الشبكة”). كان الياس في الستين من عمره، أو دونها بقليل، وكان مسؤولاً عن غرفة “التصحيح”. كانت مهمتي المقارنة بين المقالة المكتوبة يدوياً، ونظيرتها “المصفوفة” وأصحح أخطاء التنضيد، في حين كانت مهمة الأستاذ الياس أدق وأشمل، إذ كان يرصد أخطاء التنضيد، ويصحح ألأخطاء اللغوية، وأذكر أنه كان يقف متهيباً أمام مقالات لثلاثة: السعيدان، عقل وفريحة، ورئيس التحرير جان عبيد!

أمضيت مع الاستاذ الياس أربعة اشهرعلى ما أذكر، كانت من أجمل فترات الصبا، فقد رعاني رعاية الأب لابنه. كان رجلاً دمث الخلق خدوماً، وكان يعرف أنني صبي يتدرب، ولا يتقاضى شيئاً من الدار، فكان يطعمني من طعامه، ويحرص أشد الحرص على تعليمي تصحيح “البروفات”. لم أر إلياس ابراهيم الخوري منذ ذلك التاريخ، لكنني حزنت عندما بلغني نبأ موته وأنا في لندن، حزني على شفيق جدايل، معلمي في المدرسة المقاصدية، وعلى معلمي الآخر، الشيخ ابراهيم الهنداوي.

منذ تلك السنة أيضاً لم أر جان عبيد إلا في وسائل الأعلام، وبعد أن أصبح وزيراً وسياسياً معروفاً يتداول الناس اسمه في قائمة المرشحين لرئاسة الجمهورية، إلى أن اتصل بي الصديق عقل العويط، المسؤول في ملحق “النهار” الأدبي، وقال إن الوزير عبيد يريد التكلم معي،  وسأله عن رقم هاتفي. قلت للصديق الدكتور: خير؛ ما عساه يريد الوزير عبيد مني وهو لا يعرفني؟ قلت ذلك وأنا متأكد من أن جان عبيد قد نسي ذلك الفتى الذي رآه قبل 47 عاماً!

قال لي الصديق عقل: الوزيرعبيد قرأ رسالتك التي وجهتها إلى الشاعر أدونيس في ملحق “النهار” وأعجبته، ويريد أن يتكلم معك بشأنها. أجبت: الوزير عبيد “بمون”، ويمكنه أن يتصل بي متى شاء. مرت ساعة أو بعض ساعة، وإذا الأستاذ جان على الهاتف. كان في منتهى اللطف، ودعاني إلى فنجان قهوة في مكتبه. ذكرّته على الهاتف بالفترة التي أمضيتها في “الصياد” يوم كان رئيساً للتحرير، وقد فوجئت بأنه تذكرني، كما فوجىء هو أيضاً عندما قلت له إنني ما زلت أحفظ من مقالاته جملة من هنا، وجملة من هناك، ومنها استشهاده مرة بقول للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو: “إذا كتبت ثلاث كلمات محوت منها اثنتين حتى تصبح أكثر دقة وصواباً”. كلمات كتبها جان عبيد في مقالة أظن أن عنوانها كان “العميد”، وكانت في الراحل ريمون إده، الذي كان من المناهضين للتيار الشهابي في لبنان، والذي كان جان عبيد يأخذ عليه كثرة الكلام، وقوله، أي قول عبيد، إنه لو طُبقنا قول الفيلسوف الفرنسي على “العميد” فلن يبقى من كلامه شيء!

*****

حين وصلت إلى المبنى حيث مكتب جان عبيد، بمنطقة “حرج تابت”، قدرت أنني سوف أدخل مكاناً في غاية الفخامة، فإذا هو عادي، “ديسنت”، كما يقال في الإنكليزية، يذكّر الداخل إليه بمكاتب الأحزاب الشيوعية زمن الإتحاد السوفياتي القديم، ومكاتب أعضاء حزب العمال البريطاني أيام السياسيين “العماليين” العتاق، هارولد ويلسون وجيمس كالهان! في الطريق بين “راس بيروت” و”حرج تابت”، فهمت من إعتدال صادق، التي كانت ترافقني، أن جان عبيد كان صديقاً لزوجها الراحل أحمد شومان، وأن شومان تأثر يوم علم بموت والدة جان عبيد، ورثاها بكلمة مؤثرة. قالت لي أيضاً إن بعض “مونة” بيتها كانت تأتيها أحياناً من خيرات أرض يملكها جان عبيد بمنطقة علما شمال لبنان. تذكر “أبو سليمان” “أديل” وزوجها الكاتب الراحل، وإذا به بعد أن جلسنا بعض الوقت في مكتبه، يرفع سماعة الهاتف ويطلب إلى سونيا، مديرة المكتب، أن ترسل جرتي زيت وزيتون إلى بيت أديل بمنطقة راس بيروت. قد تستغرب أيها القارىء الكريم إتياني هنا على ذكر الزيت والزيتون وقد ترى الأمر هامشياً أو ثانونياً، أما أنا فقد قدرت هذه الهدية الخيرّة تأتي من خيرات أرض معطاء، يرعاها سياسي لا تزال حضارة القرية في طبعه وفي سلوكه، ويتمسك بالتقاليد اللبنانية الأصيلة.

دام اللقاء مع جان عبيد ساعة وأكثر. يلفتك في الرجل، أكثر ما يلفتك، قدرته على التذّكر. يعود بك إلى أمورعمرها سنوات. كان هادىء الطبع، لماحاً ومثقفاً كما تصورت. فهمت منه أن البلد لا يزال على “كف عفريت”. لم أستغرب القول، لأني لا أذكر يوماً لم يكن البلد فيه “على كف عفريت”، ولا أستثني من عمر لبنان الذي عرفته إلا فترة الستينات التي كانت “هنية” علينا وعلى الوطن الصغير! أصغيت إلى جان عبيد أكثر مما تحدثت إليه، وكان ذلك شيئاً مفيداً. أبدى رأيه في الرؤساء فؤاد شهاب وكميل شمعون، شارل حلو ورفيق الحريري، وعرفت منه أشياء لم أكن أعرفها عن هؤلاء الراحلين، أشياء من الأمانة ألا أفصح عنها. لم يكن هناك تجريح في أي من الرؤساء، وليس هناك سر (وهل في لبنان سر؟!) بل هي من أمانات المجالس، التي آثر مضيفي أن أحرص عليها.

*****

لا أحب خلط الدين بالسياسية، لكن جان عبيد يحدثك في الدين كرجل مؤمن. يصلي صلاته اليومية الخاصة. صلاة لا نجدها في “الكتب المقدسة”، تعلمها من والدته الراحلة التي كانت تتضرع إلى “ربها” وتناجيه بالقول إن أولادها أمانة منه بين يديها،” فإن كانوا صالحين أبقهم يا ربي، وإن لم يكونوا صالحين فخذهم، وتلك هي مشيئتك”. إيمان الرجل يجعله يجل القرآن. يحدثك عما في الكتاب من إعجاز. يعتبر أن “الله” كرم اللغة العربية بالقرآن، ويقول:” ألا يعرف الله أن الصينيين كانوا أكثر عدداً من العرب، وأن عدد الأميركيين سيصبح يوماً أكثر من عدد العرب، فلماًذا لم ينزّل الكتاب باللغة الصينية أو باللغة الإنكليزية، وقال إنا أنزلناه قرأنا صينيا أو إنكليزياً هدى للمتقين؟”. يضيف” ألا يعني هذا تكريم من الله للعرب واللغة العربية، وأمانة على العرب أن يقدروها ويحفظوها”.

بعد القرآن، لا كتاب في نظر جان عبيد أعظم من “نهج البلاغة”. أما شاعره الأثير فهو المتبني، وعنه يقول: “شعر أبي الطيب من الجمال بحيث تصعب ترجمته إلى أي لغة في العالم”. في اللحن والطرب هو “كلثومي” الهوى كما يقول.  أساله ما إذا كان يعجبه مطربون آخرون ومطربات آخريات؟ يجيب: “الباقون فروع وجداول، برك سباحة وفي أحسن الأحوال أنهار، لكن كوكب الشرق هي البحر من دون منازع، والسيدة التي ستبقى متربعة على عرش الغناء العربي”.

 ****

عندما كان جان عبيد رئساً لتحرير “الصياد” أوآخر الستينات وأوائل السبعينات، كان الراحل رفيق الحريري موظفاً في “دار الصياد”، وكان جان عبيد رئيساً لرفيق الحريري. وعندما دار دولاب الزمن وأصبح الحريري رئيساً لحكومة لبنان، عهد إلى جان عبيد وزارة الخارجية، وأصبح رئيساً له. في حال مواطن عادي مثلي، سيبقى دولاب زمنه ثابتاً، لأن “بطاقة هويتي” ومؤهلاتي، لن تسمح لي بأن أكون رئيساً للوزراء، ولا رئيساً للجمهورية، لهذا لن يأتي يوم أكون فيه رئيساً على جان عبيد. لقد تنقل الرجل في مناصب رفيعة وكان نائباً غير مرة، وشغل منصب وزير غير مرة، لكنه سيبقى في ذاكرتي رئيساً كما كان في “دار الصياد”، لذلك لن أخاطبه بلقب معالي الوزير، بل بلقب آخر قريب إلى القلب، فيه شيء من زمن أخضر جميل، ومن رائحة الورق والحبر العتيق…إنه الأستاذ جان عبيد!

*****

(*) عن مجلة “الصياد”

(*) بالاشتراك مع aleph- lam

www.georgetraboulsi.wordpress.com

 

اترك رد