هوية الدولة… ودلالات الاسـم

 الكاتب بلال حسن التل

 قلنا في المقال السابق أن ترسيخ وجود دولة القانون في مجتمعنا من أول أولويات جماعة عمان لحوارات bilal talالمستقبل، وهذا يقودنا للتحدث عن هوية الدولة لنقول أنها ذات مضامين متعددة، أولها المضمون التاريخي، لذلك لم يأت اختيار اسم «جماعة عمان لحوارات المستقبل» هكذا عفو الخاطر، بل انطلاقًا من وعي حضاري نريد للجماعة أن تجسده في مجتمعنا من خلال تحريك الإحساس بالتاريخ في نفوس أبناء هذا المجتمع «أفرادًا وجماعةً».

 فعلاوةً على أن عمان هي عاصمة الدولة الأردنية الحديثة بكل ما تمثله العواصم من معاني السيادة والاستقلال والانصهار الوطني، الذي يجتمع في بوتقته كل ابناء الوطن، فإن عمان مدينة تختزن في ذاكرتها آلاف السنين من الفعل الحضاري الذي ساهمت في بنائه الحضارات التي تعاقبت على عمان أو «ربة عمون» أو «فيلادلفيا» وكلها أسماء تدل على أي مدينة عظيمة نابضة بالحياة كانت عمان، والتي مازالت أجزاء كبيرة من آثارها المادية بادية للعين المجردة، سواءً في مدرجها الشامخ في وسطها، أو قلعتها المشرفة على كل جبالها ووديانها تذكر أبناءها بالتاريخ الذي ينتمون إليه، ومن أي آباء يتحدرون، هذا عدا عن أضعاف أضعاف ذلك من إرث التاريخ وآثاره التي ما زالت أحشاء عمان تحتفظ بها كما تحتفظ الأم الحنون بجنينها في انتظار لحظة ولادته وخروجه إلى الحياة ليكمل مسيرة آبائه وليعلم أبناءه أي تاريخ صنعه الآباء والأجداد، وصار عليهم أن يواصلوا البناء عليه، مستذكرين بأن على أرضهم وقعت تحولات كبرى في تاريخ البشرية، بعضها قادها انبياء عِظام عاشوا على أرض الأردن، وبعضها قادها رجال وعلماء أفذاذ تحدروا من أصلاب الأردنيين، وهذا تاريخ يقع على عاتق جماعة عمان إعادة بناء الوعي به لدى أبناء مجتمعنا، ليعتزوا بتاريخهم وليبنوا عليه، بعد أن يمحصوه ليستفيدوا من دروسه، فيتجنبوا مواطن الخلل وأسباب العثرات، ويأخذوا بأسباب النجاح وسبل البناء، فيعظموها ليعودوا إلى ممارسة فعلهم الحضاري استنادًا إلى تاريخ حافل ووعي متوثب.

 وانطلاقًا من الإيمان بأن للتاريخ دورات تصنعها حركة التدافع الحضاري، التي لخصها القران الكريم بقوله تعالى (ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع ومساجد وبيع يذكر فيها اسم الله)(الحج:40) وبقوله تعالى (وتلك الأيام نداولها بين الناس)(آل عمران:140) وغيرها من الآيات التي تدل على أن للتاريخ دوراته، وأن البناء الحضاري يقوم على التعددية وحرية الإعتقاد وإعمال العقل، وقبل ذلك كله الأخذ بالأسباب، وهي شروط تتوفر في بنية عمان السُّكانية والاجتماعية والحضارية، ولذلك فإنها تجسد مضمون آخر من مضامين هوية الدولة والمجتمع الأردني، فعمان الحديثة التي نعيش فيها تمثل كل سكان الوطن الأردني، باديته وريفه وحضره، مدينته وقريته ومخيمه، عربه وشركسه وشيشانه، مسلمه ومسيحيه، قومية ويسارية وليبرالية، وكلهم يتفاعلون في بوتقة وطنية متماسكة بالرغم من كل ما يبدو على السطح أحيانًا من مظاهر الوهن والتباين، لكنهم عند الشدة يكونون صفًا واحدًا وكلمةً واحدةً وعلمًا واحدًا، أردنيين حتى النخاع، عربًا حتى الثمالة، مسلمي الثقافة حتى أصغر مسامة فيهم.

 ولعل واقعة استشهاد الطيار معاذ الكساسبة خير مثالٍ على ما نقول، وهو مثال على جماعة عمان أن تسعى إلى جعله حالةً دائمةً في الانصهار الوطني للأردنيين، مع احتفاظهم بتنوعهم وتعددهم، لأن هذا التنوع والتعدد من أسباب القوة والنجاح القائم على الحرية التي هي شرط الإبداع الذي يؤدي إلى الفعل الحضاري، الذي يجعل من بلدنا شريكا فاعلاً في البناء الحضاري على المستوى الإنساني.
ومثل الانصهار الوطني الذي تجسده عمان، فإنها تُجسد حالة مميزة من حالة الإنصهار القومي، كمضمون آخر من مضامين هوية الدولة والمجتمع الأردني هو المضمون القومي والوحدوي، ففي عمان يجمع الفلسطيني بين فلسطينيته وأردنيته وعروبته دون تناقض بينها على قاعدة «كلنا أردنيون من أجل الأردن، وكلنا فلسطينيون من أجل فلسطين» وكذلك هو حال السوري والعراقي واليمني والليبي..

  فكل العرب قادرون على أن يمارسوا عروبتهم في عمان دون التفريط بوطنيتهم، فهي العاصمة التي قامت في عصرها الحديث على إرث الثورة العربية الكبرى، التي سعت الى إقامة دولة العرب الواحدة، وتجديد الدور العربي في التاريخ الإنساني، لذلك لم يشعر الأردنيون بأي غضاضة عندما كان مجلس وزرائهم يضم وزراء من بلاد عربية متعددة، ما دام الهدف واحدًا هو إحياء دور العرب الحضاري، وهذه واحدةٌ أخرى تقع على عاتق جماعة عمان لحوارات المستقبل تتمثل في المحافظة على العمق العربي للوطن الأردني، ومن ثم تجسير العلاقات العربية، فما تفرقه السياسة تجمعه الثقافة والاقتصاد والروابط الاجتماعية.

 ومما يسهل مهمة جماعة عمان في تجسير العلاقات العربية وفي ترسيخها طبيعة الجغرافيا السياسية لعمان، فعمان التي آوى إليها الفلسطيني والسوري واللبناني والعراقي والليبي واللبناني، هي نقطة تلاقي الجغرافيا العربية، فهي همزة الوصل بين جزيرة العرب ويمنها، وبين الشام وبلاد الرافدين، أما مصر وما وراء مصر من أفريقيا العربية، فهي على مرمى حجر من ثغر الأردن على البحر الاحمر. وهذه الجغرافيا السياسية المتميزة للأردن تجعل من عمان بوتقة للإنصهار العربي، وقلبًا نابضًا بالأماني العربية، التي على جماعة عمان السعي لتحقيقها بوعي لا يفرق بين دوائر الإنتماء.. وأولها الإخلاص للأردن الوطن الذي لن يقوى إلا بعمقه العربي، ولن يستطيع القيام بدوره الحضاري الذي عبرت عنه «رسالة عمان» إلا بانتمائه الإنساني الذي يفرضه عليها الإسلام الوسطي المعتدل الذي يُسم الأردنيين بوسمه، أهل وسطية واعتدال، يرفضون العنف والتطرف والإرهاب، يؤمنون بالإسلام الذي شكلت رسالة عمان صرخةً مدويةً دفاعًا عن صورته في فضاءات العالم. من هنا كان ترسيخ مبدأ الحوار وبناء مفاهيم الإعتدال وقبول الآخر، سببًا آخر من أسباب قيام جماعة عمان لحوارات المستقبل، التي نأمل أن تكون قناةً من قنوات الفعل الحضاري الجاد في بلدنا والذي يجسد المضمون الإنساني لهوية الدولة والمجتمع الأردني.

خلاصة القول في هذه القضية: أن من أولويات جماعة عمان لحوارات المستقبل تذكير الأردنيين بمكونات هوية دولتهم ومجتمعهم، وبمضامين هذه الهوية التاريخية الحضارية، وتنوعها في إطار الوحدة، وبمضمونها القومي بأبعاده الإنسانية.

*****

(*)  رئيس “مركز البيرق للدراسات والمعلومات” ومؤسس “جماعة عمات لحوارات المستقبل” وصاحب وناشر جريدة “اللواء” الأردنية.

 (*) يمنع  الاقتباس  او اعادة  النشر الا بأذن  خطي مسبق  من المؤسسة الصحفية  الاردنية – الرأي .

 

اترك رد