الباحث خالد غزال
تتوقف البرامج السياسية في التلفزيونات اللبنانية خلال شهر رمضان. لعل هذا القرار أفضل ما تتخذه إدارة التلفزيونات، لكونه يوفر على المواطنين التوتر العصبي والابتذال الذي يصدر عن المتحاورين، ناهيك بتعميم ثقافة الكراهية والاحتقان الطائفي والمذهبي.
يمكن تصنيف البرامج السياسية التلفزيونية اللبنانية بثلاثة أنواع. يتمثل النوع الأول، وهو الغالب، باستضافة المحطة لمتحاورين في السياسة، في شؤون لبنانية وعربية ودولية. هذه الاستضافة عامة لدى كل المحطات، وهي شبه يومية يصطدم بها المواطن صباحاً وظهراً ومساء. تستحضر المحطة متحاورين متخاصمين ضمن منطق استقبال الرأي والرأي الآخر المخالف له. لا ضير في المبدأ. لكن المتابع لهذه البرامج تصعقه ضحالة المحاور والمتحاورين، سواء لجهة طبيعة الأسئلة التي تطرح او الأجوبة التي تصدر عن المتساجلين. بالنسبة الى مقدمي البرامج، ندر ان تصرف أحدهم على قاعدة ان دوره يقوم على إدارة النقاش، فإذا بأسئلته عبارة عن مداخلات مطولة تصادر دور المتناقشين، من دون ان يدرك تجاوز حدوده. لكن الطامة الكبرى تتمظهر في كلام المتحاورين الذين يبتدعون في إظهار ما تختزنه عصبياتهم الطائفية والمذهبية من تحريض واتهامات لا توفر شيئاً بين بعضهم البعض، من الاتهام بالخيانة والعمالة للأجنبي، والهرطقة والتكفير… وغيرها من عيون الاتهامات.
ليس الأمر غريباً في بلد كلبنان، تبدو فيه الاصطفافات على نحو يضع الشعوب اللبنانية في قفص الاتهامات المتبادلة. يزيد الطين بلة ان المستدعين الى الحوار او النقاش يتمتعون بثقافة سياسية ضحلة تعكس مواقعهم المذهبية والطائفية فلا يستطيع أحدهم تجاوز هذا الموقع، فتأتي التعبيرات انعكاساً لهذا التقوقع المذهبي، فتندمج الضحالة السياسية والفكرية للمتحاور مع تعصبه البغيض لتنتج كلاماً من سقط المتاع، لا علاقة له بقول رأي مفيد او إظهار موقف سياسي موضوعي. وبما ان المتحاورين يأتون وهم في حالة التوتر كل من الآخر، فان النقاش سرعان ما يتحول الى شتائم من العيار الثقيل والكلمات النابية واللغة السوقية التي يندى لها الجبين، مقرونة بآراء من أدنى مستوى، لينتهي الحوار بقلب الطاولة ورمي القناني وتكسير بعض مقتنيات الاستوديو. هذه المشاهد تكاد تتكرر يومياً على الشاشات التي يتسمّر أمامها المواطنون خصوصاً في المساء.
النوع الثاني من البرامج السياسية هو ما درجت المحطات على استضافة أناس يقدمون أنفسهم كمحللين عسكريين او استراتيجيين. لأن الضيف يكون عادة منفرداً على المحطة، فإن الصراخ والشتائم تكون بعيدة. لكن الملاحظة هنا ان هؤلاء المحللين الاستراتيجيين يفتقدون، في معظمهم، الى التحليل العسكري والاستراتيجي، فيشطح كل واحد منهم بآراء غريبة تغلب عليها الأسطرة أكثر منها التحليل وإعطاء المعلومات المفيدة. ولأن هؤلاء المحللين غير محايدين في غالب الأحيان، ويعكسون مواقعهم الطائفية او المذهبية او الحزبية، فإن تحليلاتهم تأتي متوافقة مع ما يرغب الطرف السياسي او الطائفي إبرازه من مواقف. لا يبدو ان استحضار هؤلاء الاستراتيجيين يفيد المواطنين في تقديم قراءات موضوعية للأحداث، بمقدار ما يساهمون في التضليل وبالتالي المزيد من خلق حالات توتر، المواطن بغنى عنها.
اما النوع الثالث من البرامج السياسية فهي التي تسحضر فيها المحطات المبصرين والقارئين بالغيب والمتوقعين للأحداث. تتنافس المحطات على استحضار هؤلاء “المتنبئين والمتنبئات” ليتحفنا كل واحد بتحليلات سياسية واستراتيجية وتوقعات لما سيصيب البلاد والعباد والمسؤولين. من أحداث جسيمة خلال الأشهر المقبلة. لا يرف لأحدهم جفن وهو يقرأ الغيب ويؤكد توقعاته المتفائلة او المتشائمة. لا شك في ان هذه البرامج التنبؤية تحظى بمشاهدين على مستوى كبير، فالمواطن اللبناني المحبط واليائس يبدو كمن يتعلق بخيط هواء، فيرى في هذه البرامج نوعاً من التنفس. يعرف هؤلاء المتنبؤون انهم يمارسون الدجل والادعاءات في توقعاتهم، لكنهم يراهنون على ان المجتمع اللبناني اليائس يتقبل ما يرجمون به من غيب.
مما لا شك فيه ان التلفزيون يشكل اليوم أحد أهم المكونات الذهنية والثقافية للمواطن. فالساعات التي يقضيها الفرد، طفلاً أكان ام شاباً ام كهلاً، هي ساعات طويلة يشكل فيها التلفزيون وسيلة التسلية الأساسية، مما يجعله أسير ما تقدمه المحطات من برامج على مختلف أنواعها، فينهل من ثقافتها ويتفاعل مع محتوياتها. من هنا تبدو البرامج المقدمة مهمة في الثقافة التي تنقلها الى المواطن. من دون ظلم هذه المحطات، فإن معظم ما تقدمه برامجها لا يساعد في تقديم ثقافة تحديثية منفتحة على الآخر وداعية الى التقدم. بل إن معظم هذه البرامج تقدم ثقافة من الكراهية والعنف وسقط المتاع ونشر الخرافات، خصوصاً اذا ما أدركنا ان هذه المحطات مملوكة من الطوائف والمذاهب وبعض الزعامات السياسية، التي تفتقد جميعها الى ثقافة الحوار والتفاهم وقبول الرأي والرأي الآخر. فلا أسف على توقف هذه البرامج خلال شهر رمضان، وليتها تتوقف الى الأبد.