تحقيق: ماريا يمين
ليس غريباً على الرهبنة الانطونية المارونية أن تبني أوّل حرم جامعي في مجدليا-زغرتا، وهي الرهبنة التي ساهمت في النهضة الثقافيّة في الشمال، منذ عام 1739 يوم تسلّمت دير مار سركيس وباخوس- رأس النهر في إهدن ، ثمّ أسست دير مار سركيس وباخوس – الضهر على كتف المرداشية عام1854، فمدرسة مجّانية عام 1908 استمرّت حتّى عام 1915، ومدرسة في زغرتا من 1949 إلى 1957، مع إصدار مجلّة الميدان من 1953 إلى 1956.
شيّدت الرهبنة الأنطونيّة المارونيّة حرمها الجامعي على أرض تابعة لها في محلّة مار الياس في مجدليا-زغرتا وتمّ افتتاحه عام 2008 . وذلك بناء على مرسوم رقم 383 تاريخ 11/6/2007: ينصّ على الترخيص للجامعة الأنطونية بإنشاء فرع في منطقة زغرتا، يتضمّن كليّة هندسة المعلوماتية والاتصالات كما يتضمّن كليّة إدارة الأعمال بكافة فروعها في الليسانس والماستير وبرنامج MBA، والمدرسة الموسيقيّة والمعهد العالي للموسيقى الذي تزامن افتتاحه في أيلول 2014 مع تسلّم الأب فرنشيسكو الخوري إدارة فرع الجامعة بعد سبع سنوات على انطلاقتها الأكاديميّة والمعرفيّة.
لدى وصولنا الى حرم الجامعة للقاء الاب فرنشيسكو لفتت نظرنا ورشة العمل، فقمنا بجولة سريعة على المكاتب المستحدثة للأساتذة والتي تمّ تجهيزها لمرافقة الطلاب أكاديمياً، وعلى القاعات الخاصّة بالطلاب للدرس والمشاركة.
الأب فرنشيسكو الخوري:”الحياة الجامعية الروحية والرياضية تتكامل مع تلقي العلم”.
الأب فرنشيسكو، مواليد الأشرفيّة 1980، عاش مثل أبناء جيله التجربة اللبنانيّة بكلّ مصاعبها حتّى السفر. من بيروت الى فرنسا ثمّ بلجيكا تسع سنوات من التحصيل العلمي وحاز على الدكتوراه في اللاهوت ليعود الى لبنان ويتولّى مهمّة الإدارة والتعليم ، فهو يدرّس مادة”الثالوث الأقدس” في كليّة اللاهوت في الجامعة الأنطونية في بعبدا، ومادة “مدخل الى اللاهوت العقائدي” في اكليريكيّة كرم سدّة التي هي بمثابة الفرع الثاني لكليّة اللاهوت وتمنح إجازة عن الجامعة الانطونيّة.
في خلال حديثنا ثمّن الأب الخوري أهمّية خلق مؤسسات في المناطق، وخرق المركزية التي يعاني منها المواطن اللبناني، ووجود جامعة في زغرتا هو دافع لبقاء الشباب في أرضهم وتجنّبهم مشقّة النزوح الى العاصمة.
يشير إلى وجود 330 طالباً حالياً في الجامعة، وأنّ اقبال الطلاب سيزداد عند فتح اختصاصات جديدة، وأنّه يعمل جاهداً على استحداث كلية اخرى تعمل على تخريج طلاب تتلاءم اختصاصاتهم مع احتياجات سوق العمل وعمله، بالتنسيق مع المدير الاداري للفرع الدكتور مارون جنيد.
ويرى الأب فرنشيسكو انّ الحياة الجامعية الروحية والرياضية للطلاب تتكامل مع تلقّي العلم والمعرفة، ويولي اهتماماً لهذا الجانب عبر دعم الأنشطة الرياضية التي تجري في قاعات الجامعة، وأسّس نادياً رياضياً ويسعى إلى سقف ملعب الجامعة ليتمكن الطلاب من الإفادة منه في كلّ الأوقات، ويعمل على خلق فسحات وأماكن خضراء وبناء نافورة ماء…. في هذا السياق يثمّن الدور الفاعل للمرشد الروحي في الجامعة الأب جوزف فرح والفريق الراعوي في مجال بثّ روح المساعدة والتعاضد الإنساني بين الطلاب.
د.هيّاف ياسين مديرالمعهد العالي للموسيقى:”جينيّاً عندنا ميل للتفاهم مع الموسيقى التراثية”
خلال السنوات الأخيرة، اتّخذ المعهد العالي للموسيقى في الجامعة الأنطونيّة – وهو كناية عن كلّيّة موسيقى وعلم موسيقى وعلوم التربية الموسيقيّة – موقعًا رياديًّا، على الصعيد الدوليّ، في حقل الأبحاث في علم الموسيقى الشامل للتقاليد. تعمل في هذا المركز الأكاديميّ نخبة من الموسيقيّين المختصّين، وذلك في إطار تعاون مؤسّساتيّ وثيق مع جامعة باريس-السوربون الرابعة. ومن ثمرة هذا التعاون إصدار مجلّة “التقاليد الموسيقيّة في العالمَين العربيّ والمتوسّطيّ” (RTMMAM)، العلميّة السنويّة والمحكّمة دوليًّا، وتبادل الأساتذة والطلاّب والخبرات الأكاديميّة بين الجامعتين.
افتتح المعهد العالي للموسيقى فرع مجدليا زغرتا ًوشكّل الصرح الجامعي الوحيد في الشمال الذي يُعنى بالموسيقى، وشرع في تدريس الإجازة الجامعية في الموسيقى وعلم الموسيقى – اختصاص التربية الموسيقية تبعاً للمنهاج الأكاديمي المعتمد، والمقرّر من قبل مديريّة التعليم العالي في وزارة التربية.
المدير الأكاديمي للمعهد العالي للموسيقى فرع مجدليا زغرتا الدكتور هيّاف ياسين عاشق آلة “السنطور”، كيف لا؟ وهو مساهم في تطويرها من حيث عدد أوتارها ومواضعها و تقنيّة العزف والصوت والرنّة، وبفضل إبداعه وطبعه الخلّاق وُجد “السنطور اللبناني” وسُجّل باسمه في وزارة الاقتصاد، ويخبرنا الدكتور هيّاف “طبعاً كنت العازف الوحيد لكن هناك اليوم مئات الطلاب في مدرسة “بيت الموسيقى” وفي “المعهد الموسيقي الأنطوني”يدرسون آلة السنطور، تخرّج السنة الماضية الطالب بلال بيطار بتفوّق – فلم أعد أنا، العازف الوحيد، وإن شاء الله سيكون هناك المزيد والمزيد من العازفين”.
له ألبوما “غزل” و”عشق” ويلفتنا ألبوم و كتاب “بدنا نغنّي” وهو تجربة فريدة من نوعها، هذا العمل عبارة عن 25 أغنية للأطفال من الذوق المشرقي العربي من تأليفه و ألحانه وأداء جوقة الإطفال وإنتاج الجامعة الأنطونيّة.
ويرى في هذه التجربة أنّها ” الأولى من ناحية تقديم أغانٍ للأطفال ذات لغة موسيقية لبنانية عربية”. كذلك حضنت الجامعة ألبوم “يلّا نسمع” الذي يروي تسع قصص تحكي عن تسع آلات تحاكي مخيّلة الأطفال بالصوت والصورة موجّه في الحلقة الأولى منه الى صفوف الأوّل والثاني والثالث ابتدائي والعمل جار لاصدار الحلقة الثانية.
الموسيقى في الجامعة الانطونية مشروع كامل يتكلّل بالعودة إلى التراث كثقافة هائلة متوارثة من آلاف السنين وملايين البشر، والإفادة من التقليد ولكن ليس من بابه الحرفي-الصنمي إنّما التجددي، التطويري والتأويلي. ويلاحظ الدكتور هيّاف من خلال تعاطيه هذا النوع من الموسيقى مع الجمهور ومع المغنّين ومع الموسيقيين أنّه “جينيّاً عندنا ميل للتفاهم مع الموسيقى التراثيّة”.
وتباعاً شكّلت الجامعة الانطونية منهجيّة تدريس متكاملة تسهّل مسار كيفيّة تعليم الموسيقى ذات الطابع المشرقي في المدارس اللبنانيّة لا بل العربيّةً عبر تخريج أساتذة مجازين في تعليم الموسيقى المشرقية المدرسية، ونشر منهجية حديثة، وإطلاق مؤتمر دولي” أيّ تربية موسيقية للبنان ٢”، كما أطلقت المنهج الكامل لتعليم الموسيقى “دليل المعلّم” الذي وضعه الدكتور هيّاف بمشاركة زميلته بشرى مشعلاني، وهو دليل ورقي مرفق بقرص مدمجّ يتّبع أحدث وسائل التعليم.
وفي السياق ذاته صدر “انا والميجانا” وهو عبارة عن ١٥ لحنًا من التراث الشعبي اللبناني مع نصوص جديدة، و”يلّا نسمع”.
ويتفاوت تعاطي المدارس اللبنانية مع نشر هذا الكمّ من المناهج والأغاني بين مرحّب وبين من ارتضى ادخال الموسيقى الشرقية، ولكن تحت خانة الموسيقى الغريبة أو الجديدة، وهنا يشدّد الدكتور ياسين على العمل الجاد من أجل إعادة وصل وإصلاح الهوّة أو الانقطاع الثقافي الحاصل، كي نتصالح مع الجيل الشاب، ولن يكون إلّا عبر تشرّب الأطفال للموسيقى لأنّ الموسيقى لا يمكن أن نفرضها عبر التعليم.
وتأكيداً لاستمرارية النهج الموسيقي التقليدي التجددي ينظّم المعهد العالي للموسيقى وبالتعاون مع المدرسة الموسيقية سلسلة من الأنشطة العلنية والأداء الموسيقي بشقيه الشرقي والغربي: أمسية ميلادية مشرقية، وقد لاقت كل الرضى من المشاركين كونهم يصلّون ويرتلون بلغتهم الأم ، خمسينيّة سامي الشوّا أمير الكمان ورائد النهضة العربية في الموسيقى العزفية المشرقية، ومباراة في التقسيم العزفي على مستوى العالم العربي، “هنا العازف ليس مؤدياً بل هو مبدع وملحن ومبتكر يقسّم ويتكلم كما يرى هذه الموسيقى” يقول الدكتور هيّاف، وهذه الأمسيات النوعية تتفرّد بها الجامعة الانطونية.
ماري دحدح منسّقة المدرسة الموسيقيّة الأنطونيّة: “نتماشى مع طموحات الأجيال الصاعدة في التنويع والتحديث”
المدرسة الموسيقيّة الأنطونيّة تؤهل الطلاّب على الصعيدين التطبيقي والنظري في التقليد الموسيقيّ الغربي، وتستعد لتعليم الموسيقى العربيّة المشرقيّة في العام المقبل، وسوف تتّبع الطريقة الحديثة في التعليم، بحيث تكون الصفوف جماعية وليست فردية في التعلّم على الآلة ومنذ السنة الأولى.
منسّقة المدرسة في فرع مجدليا زغرتا الآنسة ماري دحدح ذات خبرة واسعة في التعليم على آلة البيانو، تتطلّع إلى الدخول على عقل الأجيال الطالعة عبر الموسيقى، ولمسات التجديد تظهر في كلّ إطلالة لطلاب المدرسة، ولفتتنا المشهديّة التي أُدخلت في احدى الأمسيات الموسيقية، كعرض فيلم صامت للصور المتحركة على شاشة خلف طالبين يعزفان معاً على بيانو واحد ما يضفي جوّاً حيوياً رغم بساطته.
وتورد الآنسة دحدح أهميّة التعاون مع معاهد أوروبية (ايطالية، فرنسية…)، وتطوير منهجية التعليم الموسيقي، وتحوّل بعض المواد كي تصبح أوسع، ويستمتع الطالب بتلقّي معلوماتها أكثر فأكثر كمادة formation musicale التي تشمل مواد عدّة.
وترى الآنسة دحدح “أنّ المدرسة الموسيقيّة في الجامعة الانطونية تحترم أصول التعليم الأكاديمي، كما تتماشى مع طموحات الأجيال الصاعدة في التحديث والتنويع، وتواكب العصر بكل تحدّياته ،هي البيئة الحاضنة لطلابها تخرّج اجيالاً صاعدة مع روحية المثابرة والطموح والإنتماء، إذ انّ سياسة الجامعة تؤمّن لكل خرّيج من المدرسة فرصة عمل فيها”.
كما يلاحظ المجتمع الأهلي المحلي دعم المدرسة الموسيقية له عبر المشاركة الموسيقية الفعالة في الأنشطة والفعاليات.
المدرسة تفتح أبوابها لطلاب الموسيقى هذه السنة بعد ظهر كل خميس وجمعة وسبت، واعتباراً من السنة المقبلة طيلة أيام الأسبوع .
وسنةً بعد سنة يكبر المعهد ويتزايد إقبال أهل المنطقة على ارتياد هذا الصرح الموسيقي .
رئيس الجامعة الأنطونية الاب جرمانوس جرمانوس الحاضر في كل موعد وفعاليّة في فرع الشمال يثني على جهد القيّمين على الفرع وعلى رأسهم الأب فرنشيسكو الخوري في دعم الطلاب ثقافياً وتربوياً، ويرى انّ الجامعة الأنطونية مع أخواتها المؤسسات الأنطونية في الشمال”جعلت منّا اسماً تربوياً أكاديمياً لا يمكن التغاضي عنه ولا تجاهله متى أراد أحدٌ التكلّم عن الثقافة أو عن التربية أو عن التعليم العالي في هذا الشمال الغالي”.