فوزي بورخيص
كيف يمكن لمجتمعاتنا العربية الفتيّة، اقتناص ما يُسمّى بـ ”الفرصة الديموغرافيّة“ واستثمارها؟ وما هي الأطر الأمثل التي يمكن من خلالها القيام بذلك في ظلّ عولمة تنزع نحو توحيد أسواق العمل، في الشمال والجنوب، فتُقصي الشباب، وتدفع بهم نحو الوظائف والمهن الدنيا؟ ولماذا يبقى الشباب، على الرغم من أنهم يشكّلون الأغلبية من الناحية الديموغرافية، أقلّية داخل أجهزة القرار؟
يضمّ كوكبنا إلى حدود نهاية الألفية الثانية أكثر من مليار شاب ما بين 15 و24 سنة (بحسب الباحث بيير- جان توميريل Pierre-Jean Thumerelle في بحثه المنشور في العام 1998 تحت عنوان ”أكثر من مليار شاب Plus d’un milliard de jeunes“، في مجلة ”فضاء، سكّان، مجتمعات Espace, populations, sociétés“). وتختلف نسبة الشباب بالقياس إلى مجموع السكّان من مجتمع إلى آخر، لكن المؤكّد أن أهمّ ما يميّز مجتمعاتنا العربية أنها مجتمعات فتيّة، ترتفع فيها نسبة الشباب. وبفضل هذه الخاصيّة، يُتاح لمجتمعاتنا اليوم ما يُسمّى بـ ”الفرصة الديموغرافيّة“، التي يتعيّن عليها استثمارها بشكل أمثل.
ولعلّ تميّز مجتمعاتنا بطابعها الفتيّ، هو الذي يجعل القاعدة الديموغرافية للجمعيات المدنيّة والأحزاب السياسيّة والنقابات المهنيّة، مكوّنة في الغالب من الشباب. إلّا أن الملاحظ عموماً، وإن باستثناءات قليلة، أنّ فئة الشباب لا تلج بشكل كافٍ مراكز المسؤولية والقرار في المجتمع: فالشباب هم، وبحسب فلورانس بيرييه Florence Périer أغلبية على مستوى القاعدة الديموغرافية للمجتمع والتنظيمات، لكنّهم أقلّية داخل أجهزة القرار.
وهذا ما يؤكّد حقيقة ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوزGille Deleuze حول منطق الأغلبية والأقلّية، في دراسة بعنوان ”فلسفة وأقلّية philosophie et minorité“ منشورة في العدد 369 من مجلة ”كريتيك critique“ الصادر في العام 1978. فالأغلبية تفترض معياراً أو أنموذجاً تتحدّد بالقياس إليه. هذا المعيار هو الذكر، والأبيض، والغربي، والراشد، الذي يقطن المدينة، ويتحدّث اللغة الرسمية…إلخ. وتبعاً لهذا المعيار، تتحدّد الأقلّية باعتبارها تمثّل تلك الفئة من الناس المختلفة في الجنس والسنّ واللون واللغة والانتماء الجغرافي والثقافي.. إلخ. وتبعاً لهذا المعيار أيضاً، يمكن للأقلّية أن تكون أغلبيّة على مستوى الواقع، لكن من دون أن يجعل منها ذلك أغلبيّة على مستوى السلطة والقرار، فتبقى أقلّية على هذا الصعيد.
وهكذا فالشباب، هُم أقلّية دائماً، مهما كان عددهم، حتى ولو شكّلوا أغلبية عددية مقارنةً بالكهول والشيوخ، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات داخل فئة الشباب نفسها. فالشباب الذكور من ذوي المستوى الاجتماعي العالي، والقاطنين في المدن ويتقنون اللغات الرسمية… ينتمون إلى الأغلبية (احتكار سلطة القرار والموارد الاقتصادية والرمزية..) على الرغم من قلّة عددهم.
ولفهم وضعية الأقلّية التي تكاد تقترن بالشباب دائماً، على الرغم من أنّهم يمثّلون أغلبية عددية داخل المجتمع، لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن لفظ ”شباب“- كما أكّد عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو Bourdieu Pierre في مقال شهير له في كتابه ”أسئلة في السوسيولوجيا (Questions de sociologie(1984 “ – ليس مجرّد كلمة تشير إلى معطى بيولوجي (السنّ) وإنما هو مفهوم مبنيّ اجتماعياً، في إطار الصراع بين الفئات العمرية داخل كلّ مجتمع، والذي هو في الواقع صراع حول نقل السلطة والامتيازات بين الأجيال. بحيث تتمخّض عن هذا الصراع تصنيفات سائدة حول السنّ، تفرض حدوداً وتنتج نظاماً، يتعيّن على كلّ فرد احترامهما، والالتزام بهما، بل واستدماجهما ليشكّلا جزءاً من شخصيّته.
وعلى العموم، فإن كلّ تمييز أو إقصاء تجاه الشباب، باعتبارهم فئة اجتماعية ”تملك“ مستقبلاً، هو نتاج للطبقات أو الأفراد الذين هُم في وضعية أفول اجتماعي، والذين هُم في صدد فقدان السلطة الاجتماعية، و”المستقبل“.
الملاحظة نفسها يؤكّدها الباحث إمانويل طود في كتابه ”الوهم الاقتصادي“ (l’illusion économique (1999 بخصوص المجتمعات الغربية، اعتماداً على معطيات مستمدَّة من حقل الاقتصاد. فيبيّن طود أن اقتصاد السوق يؤدّي إلى تدهور المستوى المعيشي للشباب ممّن هُم أقلّ من 35 سنة، على الرغم من تراجع أعداد الشباب في المجتمعات الغربية. ويُظهر الباحث أن قوانين الاقتصاد لا تسري في هذا المجال، إذ لا يشفع للشباب أنهم في طور ”التندير“ (أضحوا عملة نادرة)، بفعل التحوّل الديموغرافي الذي يؤثّر أكثر فأكثر على سوق العمل، كما على باقي المجالات الأخرى. فالمؤكّد أن سيرورة العولمة التي تنزع نحو توحيد أسواق العمل، على المستوى الدولي، بما في ذلك مجتمعات الجنوب، ومن ضمنها مجتمعاتنا العربية طبعاً، تُقصي الشباب، وتدفع بهم نحو الوظائف والمهن الدنيا، بينما يمسك الكهول والشيوخ بالمهنة العليا والسامية، وبالتالي بالرأسمال والسلطة.
الالتزام المدني وحماية المجتمعات
من دون الخوض في الأبعاد الأخرى لأزمة الشباب اليوم في مجتمعنا، نشير إلى أن الجمعيات وتنظيمات المجتمع المدني عموماً، باعتبارها فضاءات لممارسة الحرية والالتزام والمشاركة المواطنة، ولخلق المبادرات الجماعية وتجسيد التضامن، تشكّل بالنسبة إلى الشباب أحد البدائل الإيجابية الممكنة لمآل التغيّر الاجتماعي في مجتمعاتنا، في ظلّ استشراء واقع الإقصاء والتمييز من جهة، والهشاشة والفقر والأمّية من جهة أخرى. وفي غياب هذا البديل الإيجابي، سيكون الشباب في مواجهة اختيارات أو ملاجئ أخيرة، لها نتائج سلبية، ليس على الفرد الشاب فقط، وإنما على المجتمع في كلّيته، لعلّ من أبرزها الهجرة السرّية، والتطرّف الديني، وممارسة التهريب، وتعاطي المخدرات والمتاجرة بها، والعنف الحضري… إلخ.
وقد كشف علماء الاجتماع عن الترابط الوثيق بين الرأسمال الثقافي والالتزام المدني، إذ بيّنت الأبحاث أن ممارسة العمل التطوعّي (الالتزام والمشاركة) تزداد، وتقوى، وتستمرّ مع ازدياد المستوى الدراسي للشخص، لأنها تعبير عن وعي وثقافة على حدّ تعبير الباحثة الاجتماعية Simonet Maud. فارتفاع مستوى التعليم وما ينجم عنه من ارتفاعٍ للرأسمال الثقافي للشباب، يفضي إلى تقوية مستوى الطموح لديهم، فضلاً عن مستوى الالتزام، وخصوصاً أن الالتزام – بالمعنى السارتري على الأقلّ – هو موقف الفرد الذي يعي مسؤوليته التامّة تجاه وضعية تاريخية واجتماعية ما، ويقرّر الفعل والتحرّك من أجل تغييرها أو فضحها والتنديد بها.
والملاحظ أننا نشهد اليوم تحوّلاً في أشكال الالتزام المدني، فالأفراد ينزعون أكثر فأكثر نحو التحرّر من الأطر الاجتماعية، والمرجعيات التي تحكّمت طويلاً بالالتزام النضالي engagement militant ، والتي حدّدت لزمن طويل الدخول إلى الفضاء العام. ولعلّ من المميّزات الأساسية للالتزام الجديد أنه ينشأ في إطار عمل جماعي يروم بلوغ أهداف مشتركة خارج سياق إيمان قبلي، يتميّز بطابعه اللحظي وغير المهيكل، تحلّ في إطاره عموماً الروابط الشخصية محلّ الانتماء إلى التكتلات الاجتماعية الكبرى. ولعلّ من مميّزات الالتزام الجديد هذا أنه براغماتيّ، يرتبط أكثر بما هو محلّي، ما يعني أنه التزام أكثر مهنيّة، وأقلّ نضاليّة، يتكيّف بشكل أفضل مع الواقع. بحيث لم تعد التنظيمات المدنية تسعى إلى البحث عن إرادات خيّرة فحسب، أو عن أكبر عدد ممكن من هذه الإرادات الخيّرة، وإنما هي باتت تسعى أيضاً إلى استقطاب كفاءات وخبرات، بغضّ النظر عن محدودية عدد الأفراد الذين يتمتّعون بتلك الكفاءات والخبرات. هذا في حين لم يعد المتطوّع الملتزم نفسه مستعدّاً للتضحية ”بلا حدود“، وإنما بات مستعدّاً مبدئياً للتضحية في وقتٍ ومكانٍ محدّدين، وفي شروط وحدود معيّنة لا يمكن تجاوزها. وبذلك لم يعد الالتزام يعني التضحية فقط، بل الفعالية والنتائج كذلك، مثلما لم تعد التنظيمات المدنية تهتم بـ”تعبئة“ أكبر عدد ممكن من الأشخاص، وإنما بالتوظيف العقلاني والفعّال لعدد محدود من الأشخاص وكفاءاتهم. ولأن هناك الكثير من المتطوّعين، والكثير من المطالب في بعض القطاعات المجتمعيّة ”الصعبة“، فإن الأمر بات يستلزم اعتماد الكثير من الصرامة في الانتقاء والكثير من المهنية في العمل التطوّعي. والنتيجة هي تعدّد وظائف المتطوّعين الملتزمين، الذين لم يعودوا هواة، وإنما أيضاً أصحاب مهنة des gens de métier، بحسب عنوان كتاب دان فيرّان- بيشمان Dan Ferrand-Bechmann ”التطوّع كمهنة“ (le Métier de bénévole (2000، مع ما يعني ذلك من مسار مهني carrière ، ووضع مهني، وقواعد داخلية وغيرها من الأطر المقوننة.
*****
كلام الصور
1- جيل دولوز
2- بيير بورديو
(*) أستاذ علم الاجتماع – جامعة القاضي عياض- المغرب
(*) نشرة افق