الكاتب بلال حسن التل
استعرضنا في المقال السابق بعض مظاهر الخلل في السلوك الناجمة عن التراجع في منظومة القيم في مجتمعنا، كنتيجة من نتائج تراجع الاهتمام بالمؤسسات التي تعنى ببناء الانسان فكراً ووجداناً وسلوكاً، فلا يحتاج المرء الى كبير عناء ليكتشف حجم التراجع في الميزانية العامة المخصصة في بلادنا للتعليم بكل انواعه، وهو تراجع تظهر حقيقته قياسا الى النمو السكاني، الذي لم يرافقه نمو في المخصصات المالية للتعليم.
وقد زاد من خطورة التراجع في حجم الأموال المخصصة للتعليم انه ترافق مع تراجع في مضامين المناهج والكتب التعليمية في جانبها القيمي والتربوي، وبناء المهارات لدى الطلاب في كل مراحل التعليم في بلدنا، خاصة في مراحل التعليم الاولى التي يكتسب فيها الانسان معظم معلوماته ومهاراته، فاذا لم يؤسس الطالب نفسيا وتربويا ومسلكيا ومعرفيا في سنوات عمره الاولى، فان مراحل التعليم العليا لن تكون ذات فائدة كبيرة له.
لقد لحق بنظامنا التعليمي الكثير من الخلل تحت مسمى التحديث والتطوير، فآفة التحديث والتطوير في بلادنا انه يأخذ من الاخرين، ليس ما وصل اليه العلم التطبيقي عندهم ان كان يأخذه، بل يأخذ قبله الفلسفة التي تقف وراء هذا العلم.. خاصة في مجال العلوم الانسانية دون مراعاة للتجربة التاريخية والحضارية، وللمنظومة القيمية للمجتمعات وحجم التباين بين هذه المجتمعات في تجربتها وقيمها.
وهو ما تميزت به امم اخرى عنا كالصين واليابان، اللتين اخذتا من الغرب علومه التطبيقية دون ان تأخذ منه فلسفة هذه العلوم، خاصة العلوم الاجتماعية، فحافظت على شخصيتها الحضارية، وبنت صروحها العلمية والاقتصادية، بينما نحن الذين سبقنا اليابان بالاستقلال السياسي، وفي إقامة الجامعات لم نحرز شيئا مما احرزته اليابان والصين في مجال العلوم، ذلك ان اليابانيين ومثلهم الصينيون حافظوا اولاً على معتقداتهم وإرثهم الحضاري خاصة في الجانب القيمي والعقدي والسلوك الاجتماعي ثم علموا في جامعاتهم بلغاتهم الأم فوطنوا العلوم والمعارف، أما نحن فقد تعالت في بلادنا الاصوات الداعية للانخلاع من عقيدتنا وإرثنا الحضاري ومنظومتنا القيمية دون اخضاع ذلك كله للفحص لنميز الغث من السمين في هذا الإرث فنبني على الايجابي منه، ثم اخذنا نعلم في جامعاتنا منذ اكثر من مائة عام بغير لغتنا الأم متناسين ان اللغة نظام اجتماعي متكامل، وان لكل لغة اخلاقها…
فظل العلم غريبا عنا، وظلت النهضة بعيدة عنا ايضا، وهذا خلل يجب على جماعة عمان ان تسعى للمساهمة في معالجته من خلال التمسك بشخصيتنا الحضارية ومنظومتنا القيمية، وبالتحديد بالجانب الايجابي منها، ومن ثم الاهتمام باللغة العربية لاعادتها لغة للعلوم والمعارف، وهذا لن يتم الا اذا كتب علماؤنا وباحثونا علومهم وبحوثهم بلغتهم الأم، أسوة بكل العلماء والباحثين الذين يحترمون ذواتهم واممهم.
وبموازاة كتابة البحوث وخلاصة العلوم وما يتوصل اليه العلماء العرب بلغتهم لابد من إنعاش عملية ترجمة العلوم التطبيقية على وجه الخصوص الى اللغة العربية، لإثرائها ولتوطين العلوم والمعارف في بلادنا كأساس لعملية نهوضها الشامل.
ومثل تراجع الاهتمام بالتعليم الذي هو رافعة اساسية لبناء الانسان، فقد وقع تراجع اكبر بالاهتمام بالثقافة ومؤسساتها، فمن عجيب امر مجتمعنا رسميا واهليا انه اذا اراد التقشف واختصار النفقات بدأ بالكتب وسائر وسائل الثقافة فجفف مخصصاتها، ويزيد من خطورة الامر ان الهوية الثقافية لمجتمعنا صارت مشوهة ضائعة، يعكسها هذا الخليط العجيب من الانشطة الثقافية التي نشهدها في مجتمعنا، فلا نستطيع ان نحدد لها لونا ولا هوية، وهو امر ينعكس سلبا على بناء الانسان وهويته الثقافية ومن ثم سلوكه، فالثقافة من اهم وسائل بناء المفاهيم والقيم التي تنعكس سلوكا للافراد والمجتمعات، وهي وسيلة صارت في ذيل اهتمامات مجتمعنا، الذي صارت السطحية والضحالة صفة من صفات شرائح متنامية من ابنائه خاصة الشباب منهم.
وبالتوازي والتزامن مع تراجع الاهتمام بالمؤسسة التعليمية والمؤسسة الثقافية، وقع التراجع بالاهتمام بمؤسسة خطيرة اخرى تلعب دورا مركزيا في بناء الانسان في مجتمعنا، اعني بها المؤسسة الدينية التي صارت الشكوى من مستوى ما تقدمه عامة، خاصة في مجال الوعظ المقدم في مساجدنا، مما يعني اننا صرنا بحاجة ماسة الى اعادة النظر في منظومتنا وخطابنا الديني ومستوى العاملين فيه، لانه الجانب الأخطر في التأثير على توجهات شرائح متزايدة من شبابنا في هذه الفترة من تاريخنا التي يزدهر فيها التطرف والتكفير.
اما التراجع الاكبر في مؤسسات بناء الانسان في مجتمعنا والذي اصبح محل إجماع وطني، فهو التراجع الذي اصاب مؤسساتنا الاعلامية والمضامين المشوهة، والتي تلعب دورا كبيرا في هدم المنظومة القيمية، خاصة بعد ان صار المال وجمعه هو المتحكم في جلّ إن لم يكن في كل المؤسسات الاعلامية بعد ان تراجعت الرسالة لحساب المال في هذه المؤسسات.
خلاصة القول: إن كل المؤسسات التي يقع على عاتقها بناء الانسان باعتباره محور التنمية وهدفها، وباعتباره ايضا صانع التحولات الحضارية والنهوض الحضاري قد اصابها في مجتمعنا خراب كبير، وهو الامر الذي تدركه جماعة عمان لحوارات المستقبل جيدا ليكون على اول سلم اولوياتها، من خلال عمل جاد ومتواصل تتعاون فيه مع كل المؤسسات المعنية في القطاعين (العام والاهلي) بغية الوصول الى صيغة تمكننا من جعل بناء الانسان المتوازن نفسيا ووجدانيا، الممتلك للمهارات التي تجعل منه انسانا منتجا وملتزمًا سلوكيا اولويتنا الوطنية الاولى.
*****
(*) رئيس “مركز البيرق للدراسات والمعلومات” ومؤسس “جماعة عمات لحوارات المستقبل” وصاحب وناشر جريدة “اللواء” الأردنية.