د. جــودت هوشيار
ثمة بين أهل الفكر والثقافة أسماء مشهورة مدوية، غزيرة الإنتاج، تتفنن في تسويق نفسها بشتى الطرق. يتحدث عنها الناس ووسائل الأعلام. ولكن عندما تلتقي ببعض هؤلاء – ولا أقول كلهم – وجهاً لوجه وتتبادل معه حواراً، سواء في مجال تخصصه، أو أي موضوع فكري أو ثقافي، يتغير الانطباع -الذي تركته لديك قراءة مؤلفاته، وترى أن نتاجاته أقوى تأثيراً من شخصيته بكثير، فهو لا يمتلك أي سحر شخصي جذّاب، ولا يؤثر فيك، ولا يترك لديك ما يذكرك به.
وعلى النقيض من ذلك، هناك مبدعون آخرون، يعملون بصمت بعيداً عن الأضواء تتحدث عنهم انجازاتهم الإبداعية، وان لم تكن غزيرةً، ويتمتعون، بسحر شخصي، وحضور قوي، تود أن تصغي اليهم بشغف وهم يتحدثون عما يشغل بالهم أو ما يتطلعون اليه، ويسعون لتحقيقه. وتترك كلماتهم المتوهجة والبليغة انطباعاً قوياً في نفسك، لا يمحى عبر السنين.
الأكاديمي والمربي الكبير الراحل الدكتور أحسان فؤاد ( 1935– 2008 )، كان من الصنف الثاني، شخصية جذابة، وحضور قوي، ولكنه كان مقلاً في إنتاجه. ولكن اجيالاً من الشباب المتعلم قد تخرج على يديه، كأستاذ للأدب الكردي وعميداً لكلية الآداب، ومساعداً لرئيس جامعة السليمانية في فترة معينة من حياتي، سعدت بمعرفته وصداقته، شاعراً رقيقاً ووطنياً يلتهب حماساً للقضية الكوردية.
وقد احتفظت في ذاكرتي بصورته كشاعر موهوب وحالم، وإنسان رائع، ظل طوال حياته يدافع عن القيم الإنسانية والروحية والثقافية، التي كان يؤمن بها بصدق وإخلاص نادرين . هذا الشاعر الرقيق كان يتحول إلى مناضل شجاع عند الضرورة ويخوض غمار الحياة بأرادته القوية.
يقال إن الأديب، الذي يحيا في عالم الفكر والأدب والفن، ويتأمل الحياة الإنسانية ومعناها، يصبح أكثر إنسانية من الآخرين، وهذا ينطبق تماماً على الراحل الكبير ولكن، عندما تتعرض تلك القيم التي يؤمن بها الى أي انتهاك ، فإنه يدافع عنها بكل ما أوتي من قوة وشجاعة. وهذا المزج بين الرقة حيناً والصلابة حيناً آخر، سمة بارزة لكل كاتب وشاعر وفنان حقيقي.
البداية:
كان ثمة عدد لا بأس به من الطلبة الكورد بين طلبة البعثات التي وصلت الى الاتحاد السوفييتي منذ أواخر عام 1959، وفي بداية عام 1961 جاءت مجموعة من طلبة الدكتوراه الكورد ( احسان فؤاد، كاوس قفطان، كمال مظهر، عزالدين مصطفى رسول ، أحمد عثمان، نسرين فخري ) ولم تمض على وصولهم سوى أيام معدودة حتى تم عقد اجتماع للطلبة الكورد، من أجل تأسيس فرع في الاتحاد السوفييتي لجمعية الطلبة الكورد في أوروبا. كان المد اليساري طاغياً بين الطلبة العراقيين في موسكو وكان (اتحاد الطلبة العام) هو الذي ينوب عن الطلبة العراقيين في الاتصال بالسلطات السوفيتية ذات العلاقة في الجامعة وفي وزارة التعليم العالي والسفارة العراقية.
وكان الاتحاد يعارض تأسيس كيان طلابي خاص بالطلبة الكورد ويهدد بفصل أي طالب ينتمي إلى جمعية الطلبة الكورد في أوروبا. ورغم ذلك فقد نجح الاجتماع المذكور في حشد الطلبة الكورد وراء جمعيتهم وتأسيس فرع الجمعية في موسكو، وكان للراحل إحسان فؤاد الفضل الأكبر في نجاح الاجتماع والبدء في الاجراءات العملية لإنشاء فرع الجمعية، الذي أخذ يمارس نشاطه، وعن طريقه كانت تصل إلينا النشرة الصادرة عن المقر الرئيس للجمعية في المانيا بعدة لغات أوروبية وفيها آخر أخبار كردستان والقضية الكوردية ومقالات عن النضال التحرري الكوردي.. وقد تفرق طلبة الدكتوراه الكورد – بعد اجتيازهم السنة التحضيرية – في كل من موسكو ولينينغراد وباكو . ولم أعد التقي بالراحل الكبير -لأنني كنت في موسكو وهو في لينينغراد – إلا في المؤتمرات السنوية لجمعية الطلبة الكورد في أوروبا والتي كانت تعقد في ألمانيا في أغلب الأحيان .
لقاءات في بغداد:
بعد استكمال دراساتنا في روسيا وعودتنا الى العراق – حيث عمل الفقيد مدرساً للغة الكردية في كلية الآداب بجامعة بغداد وبعده رئيساً للقسم – شاءت المصادفة المحض أن نسكن في شقتين متجاورتين في الطابق نفسه في عمارة حديثة على شارع السعون، قريبة من أبو نواس. وكنا نلتقي بشكل شبه يومي، وكانت أحاديثنا تدور حول الأدب والفن، والوضع السياسي في العراق وآخر أخبار الثورة الكوردية.
تعد هذه الفترة من أخصب فترات حياة الراحل الكبير. فقد صدر له أول ديوان شعر تحت عنوان ( الزهرة البرية ) ( كولي كيوي )، كما قام بتحقيق رواية الشاعر أحمد مختار جاف (مسألة ضمير)، التي كتبها بين عامي (1927 – 1928) . ويرى بعض النقّاد أنها أول قصة كوردية طويلة (نوفيلا ) وكلا النتاجين طبعهما على نفقته الخاصة.
اتذكر جيدا أنه كان معجبا للغاية بالدراسة التي كتبها ليف تولستوي ( ما الفن) وكتب عنها، فيما بعد عدة مقالات شائقة، تنم عن ذهن متوقد وإدراك عميق للمعنى الحقيقي للفن وأهميته في حياة الناس. وكلمة الفن هنا بمعناها الشامل، أي الآداب والفنون جميعاً. كما أنه كان يتحدث كل أسبوع من القسم الكوردي في إذاعة بغداد، حول موضوع أدبي أو فكري كوردي وقبيل بيان الحادي عشر من آذار 1970 لعب دوراً محورياً في تأسيس اتحاد الأدباء الكورد، الذي بدأ أعماله في 10/2/1970 وعقد مؤتمره الأول في 23 و24 حزيران 1970 في بغداد، وأقام مهرجانات شعرية وملتقيات للقصة الكوردية وندوات أدبية في مدن كوردستان.
في عام 1973 تولى الراحل منصب المدير العام للثقافة الكردية، وبذل جهداً عظيماً في استقطاب خيرة المثقفين الكورد في بغداد للعمل في المديرية وأصدر صحيفة (روشنبيري نوي – المثقف الجديد) الأسبوعية، الناطقة باسم المديرية، التي سرعان ما أصبحت قبلة للكتاب والشعراء الكورد في بغداد وفي أرجاء كوردستان، وكانت معظم صفحاتها باللغة الكوردية مع أربع صفحات داخلية باللغة العربية.
طلب مني الراحل الإسهام في تحريرها، وكانت صحيفة رصينة وشيقة. وقد نشرت الجريدة لي 23 موضوعاً خلال السنة الأولى من عمر الجريدة، وكان من ضمن تلك الموضوعات ترجمة عدد من روائع القصص الأجنبية، منها على سبيل المثال لا الحصر، قصة ( ضربة شمس ) لأيفان بونين، وكانت أول قصة لهذا الكاتب العظيم تترجم من اللغة الروسية مباشرة وقصة، (ذكريات قرد) لفرانز كافكا، التي تتحدث عن قساوة البشر ومقالات عن الأدب الكوردي في جمهوريات ما وراء القفقاس وغيرها.
في إحدى جلساتنا على شاطئ دجلة، سمعته يتحدث بانبهار عن رواية (الساعة الخامسة والعشرون ) للكاتب الروماني فيرجيل جيورجيو، وبطل الرواية يمثل أنموذجاً حقيقياً للإنسان المعاصر، الذي يحيا بين فكي الآلة وتسارع الوقت والأحداث. في رواية جيورجيو صور لملايين الناس وهم يقتلون بوحشية في الحروب ، التي كانوا وقوداً لها ولا يعلمون كيف ولماذا ومن أشعلها.؟ وهي أحدى أهم الروايات التي تدين الحروب وما ينجم عنها. إنها إدانة للظالمين والفاسدين، وعطف على المضطهدين والمقهورين. هي لوحة من واقع تخللته ألوان الطبائع المختلفة .
كان الراحل شاعراً حالماً رقيقاً، يهز الشعر الجميل روحه وكيانه، ويردد على مسامعي قصائد لعبدالله كوران وشعراء كورد آخرين. وكان غالبا ما يتحدث عن الشاعر حاجي قاري كويي – وهو موضوع أطروحته لنيل الدكتوراه – ويقول إن حاجي قادري كويي أحد ابرز الشعراء القوميين، وكنت أقول له إن احمدي خاني قد سبق كويي في هذا المجال، فيرد عليّ، أن ذلك صحيح ولكن الحس القومي يطبع معظم شعر كويي أكثر من أي شاعر كوردي آخر.
هل الكورد أقلية في العراق؟
ذات يوم رأيته منفعلاً يقول لي في صوت متهدج: هل تدري ماذا يقول هؤلاء الشوفينيون في وزارة الثقافة؟. قلت، إهدأ اولاً، ثم حدثني بالتفصيل عما جرى اليوم ، وأخذ يسرد محتوى الجدل الساخن الذي جرى بينه وبين أحد المدراء العامين في الوزارة.
كان هذا المدير الجاهل، يقول إن الكورد أقلية في العراق! فرد عليه الراحل أن شعب كوردستان يعيش على أرضه التأريخية وأي شعب على أرضه لا يمكن أن يكون أقلية، مهما كان عدد نفوسه قليلاً أو كثيراً، ولو ضم – ضد رغبته – إلى بلد آخر أكثر سكاناً.
قلت له يا صديقي: “ محاولتك لن تجدي نفعاً مع هؤلاء ، لأنهم مصابون بالجمود العقائدي، وشعارات الحزب القائد وأقوال زعمائه ، هي كل رصيدهم من الثقافة، وان كانوا مدراء عامين في وزارة الثقافة. هناك يساريون يعطفون على القضية الكوردية، بل أن بعضهم يقر شفاهاً، ان من حق الشعب الكوردي تقرير مصيره بنفسه، ولكن ما ان تصل الأمور الى منح الكورد بعض حقوقهم، حتى يرفعون في وجه الكورد الشعارات الديماغوجية عن الوحدة الوطنية والعراق الموحد والنضال ضد الأمبريالية. واذا كان هذا ديدن اليسار ، فما بالك بالقوى القومية الشوفينية واليمينية الرجعية. الحرية يا صديقي تنتزع ولا تمنح. في الدولة المتعددة القوميات يتغني الحكام وهم في العادة – من القومية الأكبر في البلاد – بالوحدة الوطنية لغمط حقوق القوميات الأخرى”.
وهناك موقف شجاع آخر لهذ الشاعر الذي كان يحلم بالدولة الكوردية المستقلة، فقد بذل جهداً عظيماً لإقامة المهرجان الثقافي الكوردي الأول في بغداد في عام 1974، وكان مهرجاناً ثقافياً رائعاً قدمت فيه عشرات المسرحيات وأبدعت الفرق الموسيقية والغنائية الكوردية في إمتاع الجمهور البغدادي بأعذب الألحان الكوردية الأصيلة، إضافة الى معارض الفن التشكيلي للفنانين الكورد وغيرها من الفعاليات الثقافية والفنية. وهذا المهرجان كان الأول والأخير من حيث أصالتها وتأثيرها الأيجابي، وتوقيتها الصحيح وإقامتها في قلب بغداد. صحيح أن وزارة الثقافة في الأقليم أقامت عدة مهرجانات ثقافية خلال السنوات العشر الماضية، الا أنها كانت متواضعة جداً قياساً الى المهرجان الثقافي الكوردي الأول.
عقد المهرجان في وقت عصيب، حينما كانت الأمور في شباط عام 1974 تتجه الى التأزم بين القيادة الكوردية وبين حزب البعث الفاشي. فقد ألقى الراحل الكلمة الافتتاحية للمهرجان بحضور كبار قادة الحزب والدولة. وكانت كلمة رصينة ورائعة، تتحدث عن أمجاد الكورد وتراثهم الثقافي والفني باعتداد بالنفس وإيمان راسخ بالهوية الكوردية المتميزة واستجلاء للتراث الثقافي الكوردي من عاشق لهذا التراث الثري.
والحق أنني كنت قلقاً عليه أشد القلق: من كان يتجاسر في ذلك الوقت العصيب البالغ التوتر حيث الأعصاب مشدودة ومتوترة، والشعب الكوردي يترقب ما تؤول إليه الأمور بانتهاء السنوات الأربع، ومن ثم التطبيق المفترض للحكم الذاتي لكوردستان في الحادي عشر من آذار 1974. ونحن نعرف جيداً، ماذا حدث في يوم انتهاء المدة المقررة، حيث أصرت القيادة البعثية الفاشية على إعلان الحكم الذاتي الكارتوني لمنطقة كوردستان.
وصدق حدسي، فقد احيل الراحل الكبير على التقاعد بعد فترة وجيزة من انتهاء المهرجان. وحمدت الله لأن الأمر اقتصر على الإحالة على التقاعد وليس ما هو أسوأ منه بكثير!
ألقد اعتدنا نسيان خيرة مبدعينا وعلمائنا بعد رحيلهم وغمط حقوقهم ونسيان ما قدموه لشعبهم من خدمات جليلة.
هل فكرت جامعة السليمانية مثلا بإطلاق اسم الراحل الكبير على إحدى قاعاتها أو تسمية إحدى دفعات التخرج من الجامعة بأسمه، وهل تقوم بلدية السليمانية بإطلاق اسمه على أحد شوارع المدينة. إنه جدير بكل هذا وأكثر من هذا.
في الغرب ترى اسماء المبدعين والعلماء تنقش على لوحات من المرمر أو الرخام أو البرونز، وتعلق على الجدران قرب أبواب المنازل والشقق التي كانوا يسكنون فيها، وترى انصابا لهم في الميادين وشوارع بأسمائهم. وكما يقول الروس: “ان الكتاب والشعراء هم معلمو الشعب”، ونحن نناشد – من هذا المنبر الرصين – الجهات المختصة أن تلتفت إلى هذه المسألة، ففي نهاية المطاف الشعب، يعرف بمبدعيه في كافة مجالات النشاط الإنساني.
أيها الراحل الكبير: هذا غيض من فيض، مما امتلأ به قلبي وروحي من مشاعر عن تلك الفترة الخصبة، التي كنا فيها نعيش في عالم الأدب والفن ونحلم بالغد الأفضل، وكنت بجهودك تقرّب ذلك اليوم العظيم، يوم الحرية والكرامة الإنسانية، عندما يتولى الشعب الكوردي زمام أموره بنفسه ويعيش على أرضه التأريخية حراً مستقلاً. في ذلك اليوم العظيم سأردد اسمك بين اسماء كثيرة ناضلت وضحت من أجل اليوم الأغر المنشود.
ملاحظة : هذه السطور جاءت عفو الخاطر، في الذكرى السابعة لرحيل هذا الإنسان الرائع المصادف الثاني من حزيران 2015.