محمود الأحمدية
نحن أمام واقع بيئيّ متردّي بالبعد الوطنيّ… وإذا كانت البيئة بثالوثها: الماء والهواء والتّربة… فهي ملوّثة بأبعادها الثّلاثة… نظرة بسيطة إلى واقعنا البيئيّ المتردّي بالأرقام وأعيدها عن قصد في كلّ مناسبة بيئيّة حتّى يترسّخ خطر الموضوع في وجداننا وتفكيرنا وضمائرنا بعيداً عن المزايدة.
1 – عام 2008 فقدنا أحد عشر مليون شجرة في الحرائق وإجتاح هولاكو الرّماد خضار تلالنا وودياننا وجبالنا.
2 – في ملف المياه المعبأة من أصل 1300 شركة هناك حوالي الخمسين شركة المرخص لها.
3- 930 ألف م3 تصب بشكل دائم في شاطىء البحر الأبيض المتوسّط ولبنان من أوائل الدّول التي وقّعت على إتّفاقيّة برشلونة لحماية هذا البحر الأبيض المتوسّط.
4- من أصل 1283 كسّارة ومرملة الأكثريّة السّاحقة مرخّص لها ولكنّه وحسب ما جاء في كتاب المهندس محمّد فوّاز مدير عام التّنظيم المدنيّ لمدّة 18 عاماً ليس هناك كسّارة واحدة أو مرملة واحدة طبقت القوانين بعد الإنتهاء من الإستثمار وأثناءه.
5 – الرّدميّات وبطريقة هستيريّة هناك إجتياح حقيقي للوديان والتّلال وضفاف الطّرق ويكفي مثل واحد في الوادي الفاصل بين حَرَمَيْ بشامون وعرمون إختفى الأخضر وأصبح إرتفاع الرّدميّات حوالي الأربعين متراً وتشرعنت القضيّة بقبض ثمن النّقلات الّتي تردم الوادي وتردم الضّمائر.
6 – في ملف النّفايات يكفي أنّه أخطر القضايا البيئيّة بإختصار شديد يستقبل 60% من نفايات البلد وزِد عليها حوالي 1200 طنّ من زيادة الأخوة السّوريين في ديارنا والمطمر قلتها وأردّدها قنبلة موقوتة إذا لم يقفل ويعالج وهنا إسمحوا لي أن أحيي الموقف الثّابت والصّارم والواضح للأستاذ وليد جنبلاط.
7 – ملف الطّاقة المتجدّدة بكلّ أسف أصبحنا في أسفل السّلّم وسبقتنا أغلبيّة دول المنطقة بإعتماد وسائل أخرى غير الطّريقة التّقليديّة.
8- ملف الصّيد وعدد الصّيّادين 17% من عدد سكّان لبنان
وغيرها عشرات الملّفّات كلّها تلفّنا بخطورتها وصولاً إلى القول: ماذا نأكل؟ وماذا نشرب؟
وهنا إسمحوا لي أن أحيي الثّورة الصحّيّة الّتي يقوم بها الوزير الصّديق وائل أبو فاعور مدعوماً من وليد جنبلاط والحزب التّقدّمي الأشتراكيّ.
إنّ أوّل مؤتمر بيئيّ دوليّ طرح الصّوت عالياً ونبّه العنصر البشريّ من الزّوال كان مؤتمر ستوكهولم عام 1972… وكان كتاب (الرّبيع الصّامت) للأديبة الأميركيّة راشيل كارسون قد أحدث ضجّة في أميركا والعالم الغربي كلّه والذي أظهر الخطر على الطّبيعة والإنسان من خلال إستخدام الأدوية السّامّة المبيدة للحشرات…
انطلاقاً من ذلك وإيماناً بقضيّة البيئة إرتفع الصّوت البيئيّ الأوّل على الصّعيد العربيّ، صوت كمال جنبلاط ينبّه ويناقش ويرتقي بقضيّة البيئة من خلال كتاب أدب الحياة إلى مصاف المسؤوليّة الكونيّة بادئاً بالمثل الإنكليزي الرّائع: “إنّك لا تستطيع أن تحرّك زهرة دون أن تهتزّ إحدى النّجوم” للشاعر طومسون، وتحت عنوان “أدب الإنسان بالنّسبة للطّبيعة الخارجيّة” يعرض المعلّم رؤيته لموضوع البيئة بالنّص التّالي حرفيّاً: “ترتفع الضّرورة الملحّة في عصرنا لتحقيق مثل هذا الأدب في معاطاتنا مع الطّبيعة الخارجيّة، لأنّ الإنسان خرج عن المألوف والمعقول والطّبيعي في عدد كبير من الأشياء وأخذ يستصنع بيئته دون أن ينظر بدّقّة إلى حقيقة تكوين هذه البيئة، وكيف أنّها تلتزم هي أيضاً بتفاعل دائب لأزواج متعدّدة من الأضواء وكيف أنّها أوجدت لذاتها أنظمة خاصّة، لتحويل جميع الإفرازات والنّفايات إلى عناصر جديدة ومواد خام أوليّة تدخل في صنع وتغذية النّبات والحيوان، اللّذان يمتصّانها في حركة دائبة وحلقة متّصلة لا تتوقّف في فعلها”.
إنّها رؤية مستقبليّة تستشرف الأيّام والسّنين القادمة بطريقة إستقرائيّة متقدّمة لم يسبقه إليها أحد في الشّرق.
منذ أربعين عاماً من الزّمن وصولاً إلى يومنا هذا نرى الواقع البيئيّ المرعب يتفاقم يوماً بعد يوم وكأنّه تحقيق لنبوءة كمال جنبلاط… وتوقّعاته البيئيّة… وهو ما نبّه إليه كمال جنبلاط بطريقة حسّيّة مدروسة وواضحة عندما إستشهد بالدّكتور البيرشوايترز في قوله المأثور “إن الإنسان فقد موهبة التّحسّب ومجانبة الضّرر وسينتهي شأنه بتهديم هذه الأرض” أدب الحياة ص102.
ويستشهد المعلّم برئيس المجمّع العلميّ في فرنسا روجيه هايم: “إنّ إنتصار الإنسان، إذا كان سيحصل، يجب أن لا يكون في النّهاية ناجماً عن فشل أو نجاح مخترعاته أو فوزه على كلّ ما كان سبباً لمجيئه إلى هذه الأرض”.
ويكتب المعلّم بطريقة مبسّطة: كنّا نأكل التّفّاح واللّيمون والعنب والمشمش بدون رشّها بالمبيدات الحشريّة السّامّة,بعد أن يسقط في نصيب الطّيور والحيوان والحشرات 5% أو 10% من مجموع الثّمار لا أكثر، أي ما يوازي ربع أو عشر ما نتكبّده ماليّاً لرشّها اليوم.
في الآونة الأخيرة، كثرت وفي مختلف وسائل الإعلام على الصّعيدين المحلّي والعالمي التّحليلات والشّروحات العلميّة عن مسألة الإحتباس الحراريّ وأقيمت المؤتمرات العالميّة إبتداءً من مؤتمر جوهانسبرغ إلى أوسلو إلى الريو إلى كانكون، وتكثّفت المناقشات العميقة بمدى تأثير الغازات المسبّبة للإحتباس الحراريّ إذا ما زاد معدّل إنتاجها من قِبَل الإنسان وتدخّله السّافر في مسألة لها علاقة مباشرةً بالحياة على الأرض وبمفاعيل إرتفاع الحرارة على المحيطات والمناخ وتأثيرها على كلّ القوى الحيّة والتّوازن على سطح هذا الكوكب وهل هناك خطر للعودة إلى عصور جليديّة جديدة أو الوصول بالحياة عبر عدّة عقود أن تصبح مستحيلة في كوكبنا الأرضي وما هي المعدّلات الّتي يجب أن تلتزم بها كلّ دولة للحدّ من إنبعاث الغازات المسبّبة للإحتباس الحراريّ وخاصّةًco2 ثاني أوكسيد الكربون وغاز الميتان وغازات أخرى مسبّبة للإحتباس الحراري.
ومن خلال هذا الواقع نرى تقاطعاً غريباً وإعجازيّاً مع تنبؤ كمال جنبلاط منذ نصف قرن عندما يقول في صفحة 150 من كتاب أدب الحياة “إن الجنس البشريّ قد يكون في حالة إضطراب وخطر أكثر مما نستطيع أن نتصوّر ذلك، ويمكن أن لا يدرك الإنسان هذا الخطر إلا بعد أن يكون قد تجاوز به نقطة اللارجوع، أي حيث لا يعود يفيد أي تدبير ويرتكز على ما قاله العالم الدّكتور كول: “نحن في الحقيقة نلعب بأنفسنا وبالبشريّة لعبة الرّوليت الرّوسيّة فإنّنا نستمر بوضع كيماويّات جديدة في البيئة المحيطة دون أن نختبر النّتيجة التي يمكن أن تسفر عنها، فإذا إحدى هذه المواد الكيميائيّة أحدثت تسمّماً شاملاً للجراثيم الصّانعة للنتروجين، فإن الإنسان لا يعود يستطيع أن يتنشّق الهواء في شهيقه وزفيره أي بكلمة تعود الأرض إلى الظّروف التي كانت عليها قبل ولادة هذا اللّون من الحيوان ذي الرّئة والألبان الذي يتوج سلالته الإنسان!!”
وللدّلالة على الأهميّة القصوى لكلام كمال جنبلاط قبل نصف قرن، إذا إستعرضنا حاليّاً واقعاً خطيراً مدعّماً بالأرقام، نتلمّس ما نحن قادمون عليه:عام 1900 كانت انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون 1960 مليون طن إرتفعت عام 1975 إلى 19602 مليون طن وأصبحت عام 1999 (23172 مليون طن) وتعتبر الدّول المتقدّمة مسؤولة عن 60% من إجمالي إنبعاث ثاني أوكسيد الكربون أميركا 24% الصين 13% أوروبا 8% روسيا 7% اليابان 5% والعالم العربي كلّه 2,4% وهذه الزّيادة هي من صنع الإنسان من خلال إحتراف الفحم والبترول والغاز الطّبيعي وإزالة الغابات وخاصّة الإستوائيّة، ومن باب التّوضيح للحضور الكريم أقول:
“إن الهواء يحتوي على بعض الغازات بنسب خفيفة ومنها ثاني أوكسيد الكربون وأوكسيد النيتروجين والكلوروفلورو كاربون والميتان وبخار الماء ومن مزايا هذه الغازات أنّها تشكّل غطاء يحمي حرارة الأرض الضّروريّة لحياة الإنسان فإذا ما تحوّلت نشاطات الإنسان إلى زيادتها بنسب كبيرة فأولى نتائجها زيادة الحرارة وتغيّر المناخ والعالم كلّه يتخوّف من هذا الإنقلاب غير الطّبيعي ومؤتمر كيوتو بالذات الذي إنعقد لوضع حدّ لإنبعاث هذه الغازات لا يزال متعثّراً بسبب عدم توقيع الولايات المتّحدة الأميركيّة”.
في لحظة تجلِّ رائعة يقول الحكيم الهندي (يوهي) في سرّ تكوين الحياة والتّوازن البيئي: تأثير الأرض يرتفع، وتأثير السّماء ينزل، الأرض والسّماء تتجاوب الواحدة مع الأخرى، فبفعل هذه المقابلة وبفعل إرتجاج الرّعد والصّاعقة، وبفعل تحريك وتهييج الرّيح والمطر، وبفعل حركة الفصول الأربعة، وبفعل حرارة الشّمس والأرض، تولد الكائنات وتتكاثر وتزدهر، هذا هو الإنسجام بين السماوات والأرض، وهي الموسيقى الشّاملة للتّكوين…
وجاء في كتاب”أدب الحياة” للمعلّم، تعليقاً على ما جاء في هذه الحكمة أعلاه: “قارن بين بعض الإختبارات التي أجراها الأميركيون والسوفيات “أيّام الإتّحاد السوفياتي”حول توليد بعض الخلايا الزّلاليّة الضّروريّة لإنبثاق الحياة، وذلك بإستخدام الشّرارة الكهربائيّة المماثلة للصّاعقة أو الأشعّة التي هي فيما تتعدّى البنفسجي ultra violet، يدركنا العجب من توافق هذا الحدس العجيب للحكمة القديمة مع إختبارات العلم المتقدّمة، هي الحكمة الإستشرافيّة للحكيم الهندي والحسّ الإبداعي البيئي عند كمال جنبلاط يتقاطعان وينسجمان بشكل إعجازي.
منذ نصف قرن وعبر كتاب “أدب الحياة” وبعض الكتب الأخرى إختصر كمال جنبلاط مشاكل البيئة وتأثير تعدّي الإنسان المدمّر للطّبيعة.. كان هاجسه الحقيقي الحياة على سطح هذا الكوكب وإمكانيّة إستمرارها مع جموح الإنسان إلى عدم إحترام صيرورة الكون والتّوازن البيئي ومما يقوله:” إن هذه الإبادة المنظمة للحيوانات والحشرات، هذه الإبادة المنظّمة الخطيرة جداً على إستمرار عيش الإنسان وعلى مصير الحياة ذاتها، تجري بإسم التقدّم والعلم التّطبيقي السّطحي الذي تسلّمَتْه وأخذت تتحكّم فيه وتستثمر على غير هُدى التّجارة والتّعلّم في معناه المحدود…”
كمال جنبلاط البيئي أعلنها قبل نصف قرن: “الأرض لم يعد أمامها سوى 50 سنة من الوجود…وتمنّياتي ألاّ يتفاجأ أحد بهذه الفرضيّة التي طرحها المعلّم، لأنّه وبعد تخطّي كلّ المحرّمات وبعد التّعدّيات الّتي لا حدود لها والّتي يقوم بها الإنسان بحق الطّبيعة وبحق التّوازن البيئي بات حكماً علينا أن نضع أمام ناظرينا الأسئلة التّالية ببعدها البيئي ونجتهد حتّى نصل إلى الأجوبة المقنعة الّتي تشكّل القاعدة الصّلبة لخلق وعي بيئي يشكّل درعاً واقياً أمام التّعدّيات المستقبليّة حفاظاً على هذا الكوكب.
وهذه الأسئلة على سبيل المثال لا الحصر:
هل نعرف خصائص الهواء الذي نَتَنَفَّسُهُ؟ ما هو تلوّثُ الهواء وما هي مصادره؟ ما هي الآثار الصحّيّة لملوّثات الهواء؟ما هي الأمطار الحمضيّة وآثارها وكيف تتكوّن؟ ماذا يمكن أن يحدث إذا تآكلت طبقة الأوزون؟ ما هو الإحتباس الحراري؟ ما هي الغازات التي تسبّب الإحتباس الحراري؟ ماذا سيحدث إذا إرتفعت درجة الحرارة على سطح هذا الكوكب؟؟ ماذا يعني التّلوّث الإشعاعي؟ وما هي آثاره؟؟ ماذا يعني تلوّث المياه؟؟ما هي الآثار الصحّيّة لتلوّث المياه؟؟ ماذا يعني التّلوّث البحري؟؟ كيف يحدث تلوّث البيئة البحريّة بالنّفط؟ ماذا يعني التصحّر؟ما هي فائدة الغابات؟ ما هي الآثار البيئيّة والإقتصاديّة المترتّبة على إزالة الغابات ماذا يعني التّنوّع البيولوجي؟ ماذا تعني المحميّات الطّبيعيّة؟ماذا تعني النّفايات الصّلبة؟؟ ماذا يعني تدوير النّفايات الصّلبة؟ ماذا تعني سياسة تخفيف النّفايات الصّلبة ماذا يعني فرزها من المصدر؟ ماذا يعني تسبيخ النّفايات العضويّة؟ما هو الحل ّالأفضل لمعالجة النّفايات الصّلبة:الحرق أو المطامر أو الفرز من المصدر؟ ولماذا الإصرار على الحلّ الأمثل الفرز من المصدر؟؟ ماذا تعني النّفايات الطبيّة؟ والنّفايات السّامّة؟ والنّفايات الخطرة؟؟ ماذا تعني المبيدات الكيميائيّة؟؟ما هي آثارها البيئيّة؟ ما هو الدّور الأساسي للمؤسّسات الرّسميّة في حماية البيئة؟ ما هو دور القطاع المدني البيئي؟؟ وما هي التّشريعات لحماية البيئة؟؟ ربّما متعجّب من تعداد هذا الكمّ الكبير من الأسئلة؟؟
نعم أردتها عن سابق عمد وإصرار حتّى أُثير حشريّة الحاضرين الكرام ولأن إرادة ورؤيا وتوجيه كمال جنبلاط كانت ترتكزعلى فتح الأبواب على المساحات الواسعة وإثارة إنتباهنا وحدسنا إنطلاقاً من مبدأ تكثيف الوعي عند النّاس خوفاً على ديمومة الحياة وخوفاً من إختفاء هذا الكوكب؟؟ وهذا الخوف يزول عندما نعرف واجباتنا نحو الطّبيعة ونحو الكائنات الأخرى ونحو بعضنا البعض؟؟ وقد نبّه المعلّم بطريقة إعجازيّة وبأسئلة تلتقي مع جميع ما طرحناه وصولاً إلى طرح الملاحظة التي شكّلت العنوان والمبدأ: وفي الصّفحة 152: يجمع فريق من العلماء الذين اجتمعوا في الولايات المتّحدة الأميركيّة أنّه إذا إستمرّ هذا التّصاعد في تلويث الأجواء والأنهار والبحيرات والبحار فإنّ الأرض، كحاملة للطاقة الحيّة وكذلك الإنسان لم يَعُدْ أمامها سوى ثلاثين سنة من الوجود، وإن كوكبنا بأسره مهدّدٌ على الأقل إلى فترة طويلة، بأن يتحوّل إلى كوكب ميّت!!” ألا يتقاطع هذا التخوّف الذي أبداه المعلّم قبل عدّة عقود مع ما جرى في الكون كلّه من خوف على هذا الكوكب وأن يجتمع ماية وتسعون دولة ولأول مرّة في التّاريخ لمعالجة الإحتباس الحراري وطرق المعالجة حفاظاً على كوكبنا وذلك من خلال مؤتمر كوبنهاغن في الدنمارك؟؟
ماذا نأكل؟ ماذا نشرب؟
في غمار هذه الضّجّة التي نعيشها ومن خلال هذين السؤالين وبعد الفضائح المتتالية التي نزلت على رؤوس اللّبنانيين بتلوّث الخضار والفواكه وبتراكم المبيدات الكيميائيّة الخطرة في جسم الإنسان…لا بد من عودة لفكرالمعلّم التّبسيطي عندما قال.”ألف سلام وذكرى طيّبة على تلك الأيّام التي لم تكن فيها المغروسات والمزروعات ترش بهذه المواد السّامة القاتلة لكل شيء تقريباً سوى جراثيم الأوبئة والأمراض التي تحتجب ثمّ تظهر أقوى فأقوى، وتابع المعلّم بحدس عجيب:” في الواقع وفي الحقيقة، لم تكن الخضار والبطاطا والبصل تصاب إلاّ قليلاً بأي مرض… وكانت حشرة المالوش هي الهمّ الملاحق لصغار الشّتل، ولكن حلقات القصب المجوّف كانت الردّ الطّبيعي المألوف والنّاجح أيضاً…وكان لبنان جنّة الطّيور والحيوان من جميع الأصناف التي تقطن هذه المنطقة وتأتيها هجرة وكان كل نوع فيها يأخذ نصيبه من العيش ومن الخضار والثّمار وهذا حقّه وحصّته”…
ويستطرد المعلّم قائلاً:” كانت الدّنيا بهيّة، فيها البهجة والسّرور والفرح والبحبوحة والنّظافة من هذا الإتّساخ السّام الذي إبتدعته صناعة الكيميائيّات الحديثة بدون أي دراسة تحليليّة سليمة ودقيقة لنتائجه على دورة الحياة الحيوانيّة والنّباتيّة على الإنسان,وكانت النّسور والعقبان والشوح وطيور الباز وأبوصوي الحيتان والشواهين والترغل والحمام البرّي وألوان العصافير والفراشات وألوان البوم والطّيور اللّيليّة الأخرى في اللّيالي المقمرة، تكوّن أروع تناغم التّآليف في الطّبيعة وكانت أصواتها تبعث تفتح الجمال والمحبّة والإنس في قلوب السّامعين، في فجر كل صباح وطوال ساعات النّهار حتّى يأذن المساء فتؤوب إلى جحورها وأوكارها وسط التّناغم البديع من الأصوات” ويفضح المعلّم مسألة السماد الكيماوي متّهماً اليد الراسماليّة المنتجة للأدوية الزّراعيّة فجاءت الدعايات الواسعة لإستخدام المبيدات الحشريّة وردّت إلينا المبيدات السّامّة جدّاً بعد الحرب العالميّة الأخيرة، وكان قد إخترعها العلماء لإستخدامها في الحرب ولغاية قتل الإنسان فلمّا وقع السلّم تحوّلت المصانع في التّرويج إلى إستخدامها ضدّ الحشرات والآفات الضّارّة.
يقول ميخائيل نعيمة: “يوم تبصر في أصغر أقحوانة وساماً، وفي أصغر حشرة معلّماً,يوم ذاك تتسابق الدّراري لتجلس أوسمة على صدرك، وتشتهي الأرض لو تكون منبراً لك”… وكأنّ ميخائيل نعيمة وقبل نصف قرن وبهذه الحكمة البيئيّة الرّائعة كان يتوجّه مباشرةً إلى كمال جنبلاط…
****
(*) موقع الأنباء – الحزب التقدمي الاشتراكي