“دعا يسوع تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطانًا”
(متى 10: 1)
1. دعوة يسوع تلاميذه الاثني عشر، المعروفين بالرسل، وأقامهم أساقفة العهد الجديد، وأوكل إليهم رسالة مثلّثة: الكرازة بالإنجيل، وتقديس النفوس بنقل نعمة الأسرار، وتدبير الجماعة في وحدة الإيمان والحقيقة والمحبة. وما زال الربّ، جيلاً بعد جيل، يختار ويدعو من الشعب المسيحي كهنة وأساقفة لخدمة رسالة الخلاص، ويشركهم بسلطانه المثلّث: النبوي بالتعليم، والكهنوتي بالتقديس، والملوكي بالتدبير، بقوّة النعمة الإلهيّة في الرسالة الكهنوتيّة والاسقفيّة. ويدعو ايضًا من الشعب المسيحي رهبانًا وراهبات يسيرون على خطاه ، ساعين إلى المحبة الكاملة، بتكريس الذات لعيش المشورات الانجيلية نذورًا قانونيّة، من أجل الأخوّة الشاملة.
إنّ المسيح الرب يُشرك بمسحة الروح القدس المؤمنين به، فيسمّون “مسيحيين“، لأن بنعمة سرَّي المعمودية والميرون يصوّرهم الروح القدس في كيانهم الباطني على صورة المسيح، وبالتالي مشاركين في الرسالة النبويّة والكهنوتيّة والملوكيّة.
2. يسعدنا أن نحتفل معكم اليوم بهذه الليتورجيّا الإلهيّة في مناسبة عيد الأب، الذي يدعو إليه وينظّمه مكتب راعوية الزواج والعائلة في الدائرة البطريركيّة. فإنّي أحيّي وأشكر القيّمين على هذا المكتب: المنسّق الأبّاتي سمعان أبو عبدو، المدبّر البطريركي لأبرشية حلب، ومعاونيه في التنسيق الزوجَين سليم وريتا الخوري. وقد خُصّص هذا الاحتفال لتكريم عائلات تميّزت بكثرة الإنجاب، وبوهب الأعضاء، ولتكريم أشخاص تميّزوا بخدمة المريض والأمراض الصعبة. واننا ننوّه من بين المكرّمين بالدكتور جميل زغيب الذي تحدى مرض “التصلّب الجانبي الضموري” وأسس جمعية تُعنى بهذا المرض. إنّنا نحيّي هذه العائلات وهؤلاء الأشخاص شاكرينهم على شهادة الإيمان والرجاء والمحبّة: إيمان بالله وعنايته؛ ورجاء ثابت بقوّة النعمة الإلهيّة؛ ومحبّة للمسيح ولكلّ إنسان يعاني من مرض أو حاجة.
3. ويطيب لي أن أحيّي جميع الحاضرين، ولاسيما سيادة السفير البابوي والرئيسة العامة لجمعية راهبات العائلة المقدّسة المارونيات، واقليم اخويات نيابة صربا مع مرشدهم، ونائب رئيس اللجنة الوطنية لوهب الأعضاء، ونحيّ السناتور Christophe André Frassa ممثل الفرنسيين في الخارج، ونحي معه الوفد المرافق، كما نحيي جمعية مار منصور ورئيستها في لبنان وسائر الجمعيات الحاضرة معنا.
4. كل هذا الجمهور ونحن التقينا لكي نهنّئ كل أب، ربّ عائلة، شاكرين الله “الآب الذي منه كلّ أبوّة في السماوات وعلى الأرض”(أف 3: 14-15)، على عطيّة الأبوّة والأمومة التي ينعم بهما على كلّ زوج وزوجة. فيعطي الازواج سلطان نقل الحياة البشرية إكمالاً لعمل الخلق الذي بدأه الآب السماويّ الخالق. ولهذا نقرأ في الكتاب المقدّس “أنَّ الأولاد هم إكليل فخر الوالدين“(راجع سي 3: 13). ويعطيهم السلطان لتربية أولادهم الملزمين بطاعة الوالدين وإكرامهم، كما يأمر الرب في الوصيّة الرابعة من وصاياه العشر: “أكرم أباك وأمّك“(خر20: 12). ويوكل إليهم تأمين مستقبل أولادهم بالسهر والعمل، وهو يعضدهم بنعمته.
اننا نحيّ اب الآباء، البابا فرنسيس، الذي يسهر بروح الابوة على جميع الناس. واننا نتوجّه الى ممثله بيننا سعادة السفير البابوي طالبين منه نقل تحياتنا لقداسته وصلاتنا من اجله كي يعضضه الرب ولكي تبقى ابوّته وبركته شاملة لكل انسان على وجه الارض ومثالا لكل اب وام.
5. وبما أنَّ الزواج دعوة من الله لنقل الحياة البشرية، وتربيتها، والسهر عليها وحمايتها، وتأمين مستقبلها، فإنَّالأبوّة والأمومة دعوة من الله تشركهما في وظائف المسيح الثلاث.
الوظيفة النبوية بمعرفة إنجيل المسيح، واستلهام مبادئه الروحية والخلقية والإنسانية، وتجسيدها في حياة كواليدين، ونقلها إلى اولادهم وتعليمها والتقيّد بها.
والوظيفة الكهنوتية بممارسة الأسرار المقدّسة ولاسيّما ذبيحة القداس وسرّ التوبة والمصالحة مع أفراد العائلة، وتسبيح الله بأعمال الخير والخدمة التي تقتضيها الحياة العائليّة. هذه الأعمال تشكّل، مع آلامهم وأفراحهم، قرابينهم الشخصية التي يضمّونها إلى قربان المسيح.
والوظيفة الملوكية بانخراط الوالدين في حياة الكنيسة القائمة على الشركة والمحبة، وفي رسالتها والعمل على بناء ملكوت المسيح على أسس الحقيقة والحرية والمحبة والعدالة، والنضال الدائم لإحلال السلام، ومقاومة الظلم والشّر والاستبداد. وذلك بالالتزام مع أولادهم في حياة الرعيّة والأبرشية، وتشجيعهم على الانخراط في المنظمات الرسولية.
6. وفيما نكرّم الأب في يوم عيده، والأم بالمعيّة، لا بدّ من التذكير بقدسية الحياة البشرية وكرامتها. فقدسيتها نابعة من الله خالقها وغايتها. هذه القدسية تقتضي احترام الحياة منذ تكوينها في حشا الأم حتى نهايتها الطبيعيّة. فالله وحده سيّد الحياة، وهو بدايتها ونهايتها، مصدرها وغايتها.
لذا تُدين الكنيسة قتل الحياة بكل أشكاله: القتل المقصود، والإجهاض والموت الرحيم والانتحار[1]. عملاً بالوصيّة الإلهيّة الواضحة والصريحة والتي لا تقبل التأويل: “لا تقتل“(خر20: 12). لكنّ الرب يسوع أضاف عليها ثورات الغضب(راجع متى 5: 22)، والكنيسة أضافت النميمة وقتل الصيت. وتدعو إلى احترام الحياة البشرية، وتعزيزها وإنمائها، وإعطائها حقوقها الأساسيّة لكي يعيش الإنسان، كل إنسان، بكرامة وسعادة وتحقيق الذات، ويكفي ذاته، ويتمكّن من تأسيس عائلة مكتفية وامتلاك مسكن لائق. وهذا واجب السلطة السياسيّة. فتجويع الشعب وإذلاله وحرمانه من حقوقه الأساسيّة وقهره بالعيش من دون مستقبل، وحجب مقدّرات الدولة عنه بسرقة المال العام وهدره والفساد والرشوة، هذه كلّها عملية قتل اجتماعي واقتصادي.
7. ولهذا السبب، نحن حريصون، مع المخلصين للبنان، على المؤسسات الدستورية وحسن سيرها وممارسة صلاحياتها، وأولها رئاسة الجمهورية. فالرئيس هو “رأس الدولة ورمز وحدة الوطن، والساهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه. والرئيس الأعلى للدفاع، والقائد الأعلى للقوات المسلّحة”(راجع المادة 49 من الدستور).
أوليس عدم انتخاب الرئيس عملية قتل للبلاد ببتر رأسها؟ أجل، لا نحن ولا الشعب اللبناني المخلص لوطنه نقبل، تحت أية ذريعة أو أي اعتبار، التمادي بعدم انتخاب الرئيس.
فبسبب عدم وجود رئيس للجمهورية، تفقد السلطة التشريعيّة، أي مجلس النواب، صلاحية التشريع.والسلطة الإجرائيّة، أي الحكومة، تتعثّر في قراراتها وتعييناتها، واليوم هي مُهدّدة بالتعطيل. عندئذ تنشل الدولة برمّتها. أليس هذا الواقع المتسبّب بعدم وجود رئيس للجمهوريّة عملية قتل للوطن؟ اننا حريصون ايضاً كل الحرص على حماية المؤسسات العامة والقضاء والجيش وسائر القوى العسكرية والأمنية، لأنها تحمي المواطنين من عمليات قتلٍ أخرى مثل الظلم والفلتان الأمني والاعتداء على المواطنين في أرواحهم واجسادهم وممتلكاتهم، والاستبداد واستباحة مخالفة القوانين، وشيوع شريعة الغاب، حيث القوي يأكل الضعيف.
8. هذه كلّها تندرج في عيد الأب الذي يتعدّى الأبوّة الدموية، ليشمل الأبوّة الروحيّة والسياسيّة والإدراية والقضائية. كل هذه “الأبوّات” تندرج في الدعوة التي تكلّم عنها المسيح الرب في إنجيل اليوم، وهي شفاء كلّ إنسان من معاناته الحسيّة والروحيّة والمعنويّة، وبناء ملكوت الله، ملكوت الحقيقة والمحبة والحرية والعدالة والسلام.
وفيما نبارك لكل اب في يوم عيده، نصلّي من أجل حماية كلّ أبوّة وتعزيزها، لخير العائلة والانسان والمجتمع والوطن، ولمجد الله الآب والابن والروح القدس إلى الأبد، آمين.
* * *
[1] تعليم الكنيسة الكاثوليكية، 2268-2283
(*)عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي في عيد الأب – بكركي