البروفسور خالد عمر تدمري
(إعداد تصوير وأرشيف)
لصوَر الرمضانية، عاداتٍ وفرائضَ، أثارها المتفاوتة على الفرد أو المجتمع، إلاّ فريضة الصيام فهي عبادة يتفاعل معها أفراد المجتمع بما يمكن أن نسمّيه “انقلاباً سلمياً محبّــباً” يترقبّــه المؤمنون بلهفة ورغبة. وميزة لبنان أنه أحد أبرز بلدان عربية وإسلامية تعيش رمضان في نقلة نوعية، تتجدّد معالمها عاماً بعد عام مع الحفاظ على الموروثات الإجتماعية والتمسُّـك بمقوّماتها الدينية.
مشهد الإستعداد لاستقبال رمضان المبارك
يستشعر المسلمون في لبنان نسائم رمضان ولطائف حاجاته قبل نحو شهر من حلوله، بخاصة مع أجواء الإحتفالات بليلة “الإسراء والمعراج” التي تسبق بأيّــام حلول شهر شعبان إذ يبدأ الخطباء يُشيرون إلى الضيف العزيز الذي سيحلّ بعد شهر شعبان. يعقب ذلك تحضير لوازم رمضان، تتولّى إعدادَها وتجهيزَها سيّدات البيوت بأواني المطبخ ومستلزمات السفرة، وبالمونة ومواد الغذاء، وتزدحم الأسواق بقاصديها لشراء الحاجات والمؤن على اختلافها.
بين أكثر ما يحرص عليه اللبنانيّون قبيل حلول شهر رمضان المبارك: “سيران رمضان”، أي القيام بنزهات في الهواء الطلق، وقضاء يوم كامل في البساتين أو الجبال أو على ضفاف الأنهار، أو يقصدون المطاعم والمنتزهات. وتأتي برمجة وجبات الطعام والزيارات اليومية خلال الشهر الفضيل لتشير إلى حرص العائلات على الاجتماع العائلي للتداول في ترتيب جداول يومية لسفرة الإفطار ومواعيد زيارات الأهل والأقرباء والأصدقاء بعد الإفطار وصلاة التراويح، وهي تبدأ في اليوم الأوّل بتجمّع أفراد العائلة الواحدة في منزل الجدّ أو الأب لتبادل التهنئة بحلول الشهر الكريم.
حلول الشهر الفضيل
أوّل إعلان عن حلول شهر رمضان المبارك يستشرفه اللبنانيّون من الإمساكيّـــات (تقويم يحدّد مواعيد الإفطار والإمساك والصلوات الخمس)، يتمّ توزيعها مجاناً، ويتفنّن أصحابها بتزيــيناتها وألوانها ورونقها. وعشيّــة حلول الشهر الكريم يتمّ تحرّي هلال رمضان الذي عند ثبوته تضرب المدافع إيذاناً ببدئه، وهو تقليد إبتكره المماليك وسار عليه العثمانيون وظلّ متداوَلاً حتى الأمس القريب في طرابلس وبيروت وصيدا. وكانت هذه المدافع تعمل على البارود، يشعلها “الطوبجي” (بالتركية: “القائم على المدفع”) بعدما يتلقّى عند أذان المغرب إشارة من العلم المرفوع على مئذنة أكبر جامع في المدينة. ولاحقاً تنوّعت مدافع رمضان وتبّدلت وفْق توسّع المدن، لكنه تقليد لا يزال مُــتَّــبَــعاً: تُطلَقُ نحو ٢٠٠ طلقة خلال شهر رمضان وقت الإفطار ووقت الإمساك ومع صلوات أيام العيد، ويأنس لسماعها الصائمون. الفطور والسحور وما بينهما مائدة الإفطار اللبنانيّــة تعجّ بمأكولات المطبخ اللبناني العريق ومقّبلاته الشهيّــة، يتصدّرها التمر والحساء (الشوربة) وصحن “الفتّة”، وتزدان بمشروبات رمضانية خاصّة (شراب الجلاّب والتوت والسوس والخرنوب والتمر هندي) وحلويات شرقيّة تشتهر بها المدن اللبنانية (بالأخص طرابلس وصيدا) ومنها الكلاّج وورد الشام والكربوج والبصمة وزنود الستّ وحلاوة الجبن. وبعد صلاة التراويح في المساجد والبيوت، يكون تبادل الزيارات الدورية فتلتقي العائلات ويجتمع الأصحاب، وقد يستمرّ اللقاء حتى وقت السحور فيتسحرّون معاً في البيوت أو المقاهي والأفران التقليدية، أو في خِيَم رمضانية تتنافس في تقديم أشهى المأكولات الخفيفة الملائمة لتحمّل الصوم كالمناقيش والكعكة بجبنة وأطباق الأرزّ والبرغل والحساء، مع العصائر الطبيعية وأكواب الشاي والزهورات.
المسحَّــراتيّ و”نوبة الوداع”
يتولى المسحِّر إيقاظ النائمين لتناول طعام السحور. و”المسحّراتي” رمز تقليدي ثانٍ محبّــب للصائمين بعد مدفع رمضان. في الماضي كان يتولى المهمّةَ أحدُ عقلاء الحيّ ممن لهم معرفة وطيدة بسكان المنطقة التي يطوف فيها بطبلته مترنّماً بما تيسّر من أناشيد تعتمد قصائد أحمد شوقي أو المدائح النبوية الشهيرة وتذكر فضائل شهر الصوم، ويتوقف لحظات لينادي أصحاب الدور بأسمائهم مردفاً عبارة “قُم يا نايَم وَحِّد الدّايم”. ولا يتقاضى المسحّر أجراً، لكن فِرَق المسحراتية، كل في منطقتها، تقوم مجتمعة بجولات توديع الصائمين وجمع الصدقات منهم، بدءاً من العشر الأخير لشهر رمضان فتنطلق مواكب “النوبات الصوفيّـة” من مقرّ شيخ المسحرين بعد طعام الإفطار لتزور المنازل، يتقدّمها منشدون يردّدون قصائد وموشّحات ومدائح تشير إلى قرب أفول الشهر الكريم.
المآدب الرمضانية وتقليد “السكبة”
مع بداية كل شهر رمضان تزدهر في لبنان مآدب إفطار جامعة تدعو إليها جمعيات ومؤسّسات خيرية ودينية وإنسانية وصحية وتربوية، عارضة أعمالها الخيرية وخططها المستقبلية فيحرص المتبرعون على دعمها كي تستمر في إعانة المحتاجين والأيتام والعجزة والمساكين.ولسكّــان الأحياء الشعبية في المدن والقرى مآدبهم المتواضعة المتوارثة، أبرزها عادة “السكبة” (اشتهرت بها مدينة طرابلس) وهي توزيع جزء من الطعام على الفقراء خصوصاً، وعلى الجيران والأقارب، فيحمل فتيان الحيّ قبيل المغرب صحاف الطعام ويطوفون بها على أهالي الحيّ تمتيناً للأواصر بينهم، أو إكراماً لروح عزيز فقدوه، ولا يعود الصحن فارغاً في اليوم التالي بل على مدار الشهر يستمرّ تبادل الطعام بين الأهالي وتوزيعها على الفقراء.
خشوعٌ في المساجد وحركة في الأسواق
خلال الشهر الفضيل يحرص المؤمنون على حضور مجالس التفسير والوعظ، وتلاوة وختم القرآن الكريم، وختم صحيح البخاري، يومياً في الجوامع والمساجد عقب صلاة العصر، وتكون صلاة التراويح جماعة عقب العشاء، ويكون إحياء ليلة القدر حتى بزوغ الفجر.
وتضجّ بالحركة الأسواق الشعبية في المدن التاريخية (طرابلس وصيدا وصور وبعلبك) خصوصاً بعد العصر حين تتجلّى متعة الصائمين باستعادة أجواء رمضانية عاشها الآباء والأجداد في هذه الأحياء والأسواق القديمة، فتختلط أصوات الباعة بــروائح البهارات وألوان الخبز الرمضاني المزيّن بحبة البركة السوداء.
العيد بأسواقه و”معموله” ويوم الجائزة
غصّة الصائمين بوداع رمضان تختلط بفرح اقتراب عيد الفطر، فيبدأ الأطفال منذ منتصف شهر الصوم يلحّون على الأهل لشراء ملابس العيد، وتشهد أسواق الملابس والأحذية في المدن اللبنانية الكبرى ازدحاماً شديداً خلال الأيام العشرة الأخيرة من الشهر الكريم. وفي البيوت ومحال الحلويات يبدأ صنع أقراص “معمول العيد” الذي تفوح رائحته بماء ورده وهو من أكثر أنواع الحلويات الشعبية المتوارثة، يحتاج صنعها إلى دقّة في مقادير الحشو بالتمر والجوز والفستق، وإن كانت أصول المعمول هي بالجوز.
ويطلّ يوم الجائزة: أوّل أيّــام عيد الفطر السعيد فيلبس المؤمنون حلّـة جديدة مُفعمة ببهجة العيد بعد أداء الصلاة صباحاً باكراً، على وقْع طلقات المدافع وصدْح المآذن، ويتبادلون التهنئة بصيام مقبول عمَّت بَرَكَاته وخيراته الوطن والعالم الإسلامي أجمع.
ولعلّ أكثر عبارة تتردّد خلال الشهر الفضيل: رمضان كريم!
*****
(*) مجلة أجنحة الأرز