كلود أبو شقرا
يشكل التسامح دعامة أساسية للديمقراطية وحقوق الإنسان، فيما التعصب محفور في تاريخ البشرية، أشعل فتيل الحروب وغذى الإضطهادات الدينية والمواجهات الإيديولوجية العنيفة، وانتهاك حقوق الإنسان ونشوب أعمال عنف و صراعات مسلحة.
هنا ترتسم علامة استفهام: كيف يمكن أن تلتزم الدول الموقعة على ميثاق الأمم المتحدة بـ “ممارسة التسامح والعيش بسلام مع بعضها البعض في جوٍ من حسن الجوار”، وبعد مرور أكثر من قرنين على المعركة الفلسفية المحتدمة التي قادها فولتير ضد التعصب الديني وضد التزمت والظلم اللذين يشرعهما التعصب؟
ضمان البقاء
بمناسبة العيد الخمسين لليونسكو في 16 تشرين الثاني 1995، اعتمدت الدول الأعضاء الـ 185 إعلان مبادئ بشأن التسامح يؤكد أن التسامح لا يعني التساهل أو عدم اكتراث، بل هو احترام وتقدير للتنوع الغني في ثقافات هذا العالم وأشكال التعبير وأنماط الحياة التي يعتمدها الإنسان. فالتسامح يعترف بحقوق الإنسان العالمية وبالحريات الأساسية للآخرين. وبما أن الناس متنوعون بطبيعتهم، وحده التسامح قادر على ضمان بقاء المجتمعات المختلطة في العالم.
كان الهدف الأهم لإعلان 1995 سنة دولية للتسامح، زيادة الوعي في أوساط صانعي السياسات ولدى الجمهور على المخاطر المرتبطة بأشكال التعصب المعاصرة. فمنذ وضعت الحرب الباردة أوزارها، شهدت الصراعات الاجتماعية والدينية والثقافية نمواً ثابتاً، وسرعان ما تحولت إلى صراعات مسلحة واسعة النطاق، وتعرضت حقوق الإنسان الأساسية إلى اعتداءات مباشرة وأزهقت أرواح كثيرة.
وسط موجات العنف التي تجتاح العالم، أوجدت اليونسكو ما يشبه “جزيرة بعيدة عن أرض الواقع”، رفعت فيها شعار “التسامح” ونشره في العالم، فأطلقت “جائزة اليونسكوـ مادانجيت سنغ لتعزيز التسامح واللاعنف”، بمناسبة الاحتفال بسنة الأمم المتحدة للتسامح عام 1995، وبذكرى 125 عاماً على ميلاد المهاتما غاندي.
لماذا “مادانجيت سنغ”؟ تقديراً للالتزام بحياة كًرست لتحقيق الوئام بين شتى الجماعات ولبناء السلام، تحمل هذه الجائزة اسم المانح مادانجيت سنغ الذي كان سفير اليونسكو للنوايا الحسنة، وفناناً وكاتباً ودبلوماسياً (من الهند). توفي سنة 2013.
استلهم إنشاء الجائزة المثل العليا الواردة في الميثاق التأسيسي لليونسكو الذي ينص على أن “من المحتم أن يقوم السلام على أساس من التضامن الفكري والمعنوي بين بني البشر”.
تبلغ قيمة الجائزة 100 ألف دولار أميركي وتمنح كل سنتين خلال احتفال رسمي بمناسبة اليوم الدولي للتسامح (16 تشرين الثاني).
ليس التسامح، في إعلان المبادئ، مجرد واجب معنوي بل مقتضى سياسي وقانوني للأفراد والمجموعات والدول، يرتبط بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان الصادرة في خمسينيات القرن العشرين، ويشدد على واجب الدول في صياغة تشريعات جديدة لضمان المساواة في المعاملة وتكافؤ الفرص لكافة المجموعات والأفراد في المجتمع.
وبالإضافة إلى التعهد بتعزيز التسامح واللاعنف من خلال سياسات وبرامج تربوية، أعلنت الدول الأعضاء أن 16 تشرين الثاني هو يوم دولي سنوي للتسامح. وقد عرض الإعلان على الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الحادية والخمسين عام 1996 ليتم اعتماده.
تهدف “جائزة اليونسكوـ مادانجيت سنغ لتعزيز التسامح واللاعنف” إلى مكافأة أشخاص أو مؤسسات أو منظمات تميزوا بقيامهم بمبادرات جديرة بالتقدير، على مدار سنوات، ترمي إلى تعزيز التفاهم وتسوية المشكلات الدولية أو الوطنية بروح من التسامح واللاعنف.
جائزة 2014
تمنح اليونيسكو هذه الجائزة كل عامين، خلال احتفال رسمي بمقر المنظمة العالمية بباريس في 16 تشرين الثاني بمناسبة اليوم الدولي للتسامح. وقد منحت عام 2014 إلى إبراهيم أج إيدبالتانات (مالي)، وفرانسيسكو خافيير إيستيفيز فالنسيا (شيلي)، المناضلين في مجال حقوق الإنسان.
كانت اليونيسكو رشحت، رسمياً، الدكتورة وفاء إسماعيل خنكار، من السعودية، لهذه الجائزة، لنشاطها في المجال الإنساني، المتعلق بإلقاء الضوء على الآثار السلبية التي تتركها النزاعات والأزمات على النساء والأطفال، باعتبارهما أكثر عرضة لها. عملت الدكتورة وفاء خنكار خبيرة تخطيط في وزارة التربية والتعليم بالمملكة، وهي عضو في “المعهد الدولي الإنساني” – سان ريمو إيطاليا، بعد صدور كتابها “الحماية الخاصة للنساء والأطفال في النزاعات والأزمات – مضمون وتعليم 2014”.
إدراج اسم الدكتورة وفاء خنكار، رسمياً، ضمن لائحة المرشحين الدوليين للجائزة، بمثابة انتصارللمرأة المسلمة والعربية، وأمر في غاية الأهمية في الواقع الإقليمي والدولي الراهن، الذي يضج بالعنف المفرط، وتعزيز منهج التسامح واللاعنف.
يعتبر “الحماية الخاصة للنساء والأطفال في النزاعات والأزمات – مضمون وتعليم 2014″، مرجعاً في مفهوم العنف وتصنيفه الإنساني، وهو الكتاب التعليمي الأول من نوعه في هذا الشأن الإنساني في المكتبة العربية. يتطرق إلى أهمية تعليم أحكام اتفاقيات ومعاهدات دولية إنسانية، وكيفية تطبيقها في الصروح التعليمية والتربوية، على اختلاف مستوياتها، وفق معلومات دقيقة وعلمية. ويعكس الصورة المشرّفة التي وصلت إليها المرأة السعودية المسلمة، لتجاوز مرحلة التهميش والمشاركة الفاعلة للمرأة في خدمة المجتمع في المجالات المختلفة، وتوضيح الصورة الإنسانية لمعاناة المرأة والطفل في ظروف النزاعات.
يشير الكتاب إلى أن عدم تعليم تطبيق أحكام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المتعلقة بشأن وضع المرأة والطفل في مستويات التعليم المناسبة، يعتبر من الناحية الإنسانية والقانونية، ثغرة دولية، تعرّض المجتمع الدولي برمته إلى النقد، ويعرض اتفاقيات ومعاهدات، بما فيها تلك التي صادقت عليها الدول العربية كافة بما فيها السعودية.
خنكار التي منحتها الحملة الإعلامية العربية لدعم المرأة، “درع المرأة النموذج”، برعاية جامعة الدول العربية، إحدى الباحثات المهتمات بمسائل مواجهة العنف وتعزيز مفهوم التسامح من خلال التعليم.
التسامح وبقاء المجتمعات
استعداداً للاحتفال بيوم التسامح (16 تشرين الثاني) قالت إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لليونسكو: “يمثل التسامح مبدأً أساسياً للعيش في المجتمع، وهو ينشأ طبيعياً من احترام حقوق الإنسان وحفظ كرامته. يلقى هذا المبدأ جدواه اليوم أكثر من أي وقت مضى، لكنّه معرّض لخطر محدق، إذ يشكل التنوع الثقافي هدفاً للمتطرفين الذين يسعون إلى فرض رؤيتهم الطائفية على العالم، فتُضطهد أقليات وتقع ضحايا محاولات “التطهير الثقافي”. وتشكل الأزمات الاقتصادية أو الاجتماعية التي تصيب المجتمعات، أحياناً، ذريعة للبحث عن كبش فداء، وإثارة مشاعر نبذ الآخر. وفي مواجهة هذه التحديات كلّها، علينا أن نؤكد مجدداً وبحزم ضرورة التسامح، مذكرين بأن كل ثقافة تستحق الاحترام، أي معتقد لا يبرر كراهية الآخر أو احتقاره”.
أضافت أن هذه الرسالة في صلب عمل منظمة اليونسكو التي ارتكز إنشاؤها تحديداً على أن السلام المستدام يبنى في عقول الرجال والنساء من خلال غرس مبادئ التسامح والاحترام المتبادل فيها، وذلك عن طريق التربية وحوار الثقافات والتعاون الفكري. وفي عالم تسوده العولمة، لا يكفي العيش جنباً إلى جنب في جوّ من اللامبالاة السلبية: ذلك أن التسامح هو تيقظ فاعل ينبغي تجديده يومياً لمواجهة كراهية الأجانب والتمييز والحقد.
التسامح، بالنسبة إلى إيرينا بوكوفا، يعلمنا أن نوفق بين الحقوق العالمية التي تجمعنا والتنوع الذي يغنينا، ويبين لنا أننا نحتاج غالباً إلى الآخرين، مهما تنوعوا، لنكمّل وجودنا.
العقد الدولي للتقارب بين الثقافات (2013-2022) الذي تتولى اليونسكو ريادته في منظومة الأمم المتحدة، يحدد التسامح بأنه سلوك يُكتسب على مقاعد الدارسة، ويتجسد في الانفتاح على تنوع الثقافات والمعتقدات، وفي احترام حرية التعبير والرأي، المتجذرين في التمسك بحقوق الإنسان. هذا بالتحديد هدف جائزة اليونسكو – مادانجيت سنغ لتعزيز التسامح واللاعنف.
تلتزم اليونسكو تعزيز التسامح من خلال برامجها التربوية والثقافية، وتحالف المدن برعاية اليونسكو لمناهضة العنصرية، وذلك عن طريق تعبئة الشباب وتعليم المواطنة العالمية. وبمناسبة هذا اليوم الدولي، دعت بوكوفا الدول الأعضاء وشركاء اليونسكو إلى التأكيد مجدداً على القدرة التحويلية الكامنة في التسامح بوصفه قوة حواراً وسلاماً.
يتمثل التسامح في التسليم بالحقوق العالمية للإنسان وبالحريات الأساسية للغير. وتتميز الشعوب، طبعاً، بتنوعها؛ وحده التسامح يضمن بقاء المجتمعات المتنوعة في كل منطقة من مناطق العالم.
يعتبر التمييز والتهميش، إلى جانب الظلم والعنف الصارخَين، أحد الأشكال الشائعة للتعصب. لذلك، يجب أن تهدف التربية من أجل التسامح، برأي بوكوفا، إلى درء التأثيرات التي تولد الشعور بالخوف من الآخرين واستبعادهم، ومساعدة الشباب على تطوير قدراتهم لإصدار الأحكام المستقلة وتحفيز التأمّل الناقد والتفكير الأخلاقي. ولا يجدر بتنوع الديانات واللغات والثقافات والإثنيات في عالمنا أن يشكّل حجة لنشوب الصراعات، بل هو، بالأحرى، كنز تغتني منه البشرية جمعاء.
السنوات الدولية
تشكل السنوات الدولية فرصاً استثنائية لتعزيز التفكير والنقاش والوعي. وغالباً ما تركز على فئة مستهدفة معينة أو على مجال للعمل أو على مسألة محددة. وللمرة الأولى، سلطت السنة الدولية للتسامح الضوء على فضيلة شخصية تحوّلت شيئاً فشيئاً إلى ضرورة سياسية وقانونية لتحقيق العيش المشترك السلمي.
لطالما اعتبر التسامح فضيلة معنوية لأنّه يعكس تقدير التنوع والعيش والسماح للآخرين بالعيش والتمسك بالقناعات الشخصية، مع قبول تمسك الآخرين بقناعاتهم والقدرة على التمتع بالحقوق والحريات الشخصية، من دون التعدي على حقوق الآخرين وحرياتهم.
أتاحت السنة الدولية للتسامح إطلاق أفكار جديدة وقديمة واختبارها وسمحت بزيادة الوعي العام، وتراوحت المشاريع الفردية بين استخدام منهجيات التعليم التقليدية والمحلية، على غرار عروض الدمى المتحركة المخصصة للأطفال، وتنظيم معارض وحفلات موسيقية وعروض أفلام للاطلاع على سائر الثقافات والديانات وأساليب الحياة.
بذلت منظمة اليونسكو جهوداً حثيثة لبناء التسامح في مناطق الصراع في العالم، فأنشأت محطة تلفزيونية متعددة الإثنيات 99NTV في مدينة سراييفو، بفضل تبرعات جمعتها من بلدان أوروبية، وفي المجتمعات الخارجة من الصراع، وأسهمت مشاريع المصالحة وإعادة الإعمار في بناء جسور بين الأعداء القدامى في بوروندي وموزمبيك والسلفادور، ليركزوا اهتمامهم على حاجاتهم الجماعية ومستقبلهم المشترك.
ركزت السنة الدولية للتسامح أنشطتها على المدراس، إذ أعدت اليونسكو دليلاً تعليمياً بعنوان “التسامح: عتبة السلام”، ووزعته على آلاف المدارس المنتشرة عبر العالم، وطلبت من الأساتذة تقديم تقييماتهم ومقترحاتهم في هذا الشأن. كذلك نطمت المدارس عبر العالم نقاشات في الصفوف ومباريات في الإنشاء والرسم وأسابيع إعلامية ومهرجانات وبرامج تبادل الطلاب، ضمن موضوع التسامح.
أيضاً أنشات اليونسكو جائزة لأدب الأطفال الداعي إلى التسامح. وسلطت السنة الدولية للتسامح الضوء على مبادرات مميزة أطلقها بعض الأفراد الراغبين في التعبير عن التزامهم الشخصي بالتسامح والإسهام في حملة التوعية العامة، فصمم ستة من أكبر فناني العالم، من بينهم بيار كاردان، ستة ملصقات لتكون رموزاً للتسامح على الملايين من الناس.
ورد التسامح والتعدد الثقافي والتنوّع العالمي والحوار الديني والثقافي على جدول أعمال أكثر من خمسين اجتماعاً وطنياً وإقليمياً ودولياً نظمت على مدار السنة. وبينما شكّلت هذه الاجتماعات مناسبات لتبادل الآراء والمعرفة بشكل رئيس، عملت أيضاً على تحديد التسامح ومتطلباته، وناقشت خطوط العمل لتعزيز التسامح ومواجهة نمو التعصب في السنوات المقبلة.
جمعت النقاشات التي دارت في العام 1995 بين الحكومات وعلماء الاجتماع والمحامين والخبراء في مجال حقوق الإنسان والفنانين وسائر الجهات الفاعلة، وتم اقتراح حلول والتوصل إلى توافق مهم في الآراء، إلاّ أن الطريق ما زال طويلاً، لكنّ الأهم وجود اقتراح رسمي بعقد قمة عالمية لتخفيف الكراهية.
كلام الصور
1- ملصق الجائزة
2- الفائزان بالجائزة 2014
3- الفائزان يتسلمان الجائزة.
4- إيرينا بوكوفا
5- المهاتما غاندي
6- دكتورة وفاء خنكار.
7- مادانجيت سنغ.