علّموا منّي، أني وديع ومتواضع القلب” (متى 11: 29)
1. احتفالان يجمعاننا اليوم مع إخواني السادة المطارنة ونحن ملتئمون في رياضتنا الروحية السنوية ودورة السينودس المقدس، وهي: عيد قلب يسوع الأقدس، واستقبال شخص أمّنا مريم العذراء سيدة Fatima. فتشارك معنا عائلة قلب يسوع بكلّ فروعها في مختلف المناطق اللبنانية، وهي تحتفل باليوبيل الثلاثين لتأسيسها، مع هذا الجمع الغفير الذي توافد من كلّ مكان، لإحياء العيدَين.
2. هو الربّ يسوع يعلن، من خلال قلبه الأقدس، حبَّه اللامتناهي لجميع البشر، والذي بفيضٍ من هذا الحبّ افتدانا بموته على الصليب، وأحيانا بقيامته وعطيّة روحه القدوس، من أجل حياة جديدة إلهية فينا.
والسيدة العذراء، سيدة فاتيما، بشخصها الحاضر في وسطنا، تدعونا لتكريس ذواتنا وأوطاننا لقلبها الطاهر البريء من الدنس، الذي يجري منه كل حبّها كأم سماوية، من أجل نهاية الحروب وارتداد الملحدين والخطأة المدمنين الذين يزرعون شرًّا وفسادًا في الأرض. هذا ما قالته في ظهوراتها للرعاة الصغار لوسيا وياسنت وفرنسيسكو، في بلدة فاتيما بالبرتغال سنة 1917. وتجد الإشارة إلى أن وجهها في هذا الشخص هو الذي ظهر لهؤلاء الصغار بشهادة لوسيا التي كتبت أسرار فاتيما الثلاثة، وأصبحت راهبة وتوفيت مؤخّرًا، فيما ياسنت وفرنسيسكو ماتا بسنّ الفتوة، وأعلنهما القديس البابا يوحنا بولس الثاني طوباويّين. لقد بادرالقديس البابا يوحنا بولس الثاني إلى تلبية طلب السيدة العذراء وكرّس العالم لقلبها الطاهر في حزيران 1981. لكنّه لم يتمكّن من إجراء احتفال التكريس بذاته بسبب محاولة اغتياله في 13 أيار أي قبل شهر، وهو عيد تذكار ظهور السيدة العذراء في Fatima. وكان هذا الاغتيال من ضمن سرّ فاتيما الثالث.
وقال أنّه شعر بيدٍ توجّه الرصاصة التي أصابته في بطنه. وأرسل الرصاصة التي وُجدت في سيارة Jeep إلى معبد سيدة فاتيما. فرصّع بها مطران الأبرشية تاج العذراء الأصلي المحفوظ في المعبد.
3. تأتي المناسبتان وعالمنا المشرقي يعاني من شرور النزاعات والحروب والانقسامات والإرهاب، وكأنّ قلوب البشر جفّت من المشاعر الإنسانية والمحبة والرحمة. في لبنان الانقسام السياسي، على خلفية مذهبية مرتبطة ويا للأسف بالنزاع القائم في المنطقة، يشلّه وقد بلغ الشلل ذروته في عدم انتخاب رئيس للجمهورية منذ أربعة عشر شهرًا. الأمر الذي يعطّل عمل المجلس النيابي، ويعرقل الحكومة في ممارسة صلاحياتها، وهي مهددة الآن بتعطيلها هي أيضًا، ويشلّ التعيينات في المؤسسات العامة، ويستبيح مخالفة الدستور والميثاق والقوانين، ويفصّلها على قياس النافذين. هذا فضلًا عن تفشّي الفوضى، وتعثّر الحركة الاقتصادية، وتوتّر الأمن، وتفاقم الفقر في العائلات اللبنانية، وإهمال حقوق المواطنين، واستباحة المال العام. إن باب الحلّ لهذه الأزمات والانقسامات هو انتخاب رئيس للبلاد. فكيف يمكن أن تعيش دولة ورأسها مبتور؟ أمّا في سوريا والعراق واليمن فنار الحرب والعنف والإرهاب تكوي شعوبها ومن بينها إخواننا المسيحيون وأبناؤنا الموارنة. فضلًا عن حالة الحرب الدائرة في فلسطين وسواها من المناطق.
4. إننا في عيد قلب يسوع الأقدس وأمام أمّنا مريم العذراء سيدة فاتيما، نصلّي بحسب طلبها في ظهوراتها من أجل ارتداد كلّ الذين يتسبّبون بالشرور التي يقع ضحيّتها المواطنون والأوطان. فالخطيئةليست فقط على المستوى الروحي، علمًا أنّها مصدر كلّ شرّ، لكنّها أيضًا على المستوى السياسي عندما تعطّل الخير العام؛ وعلى المستوى الاقتصادي عندما ترمي الناس في حالة الفقر والعوز والحرمان؛ وعلى المستوى الاجتماعي عندما تنتهك العدالة والمساواة أمام القانون وفي الحقوق والواجبات؛ وعلى المستوى الأمنيعندما تعتدي على حياة المواطنين وطمأنينة حياتهم وأمنهم وتحرّكهم.
هذه كلّها خطايا جسيمة ضدّ الله ووصاياه وتصميمه الخلاصي ومحبّته لجميع الناس.
5. إنّنا بفرح بنوي كبير نستقبل أمّنا مريم العذراء سيدة فاتيما، هاتفين: “هلمّي إلى لبنان”، وازرعي فيه سلام المسيح، وفي قلوب أبنائه المحبة الجارية من قلب يسوع الأقدس، لكي يعيشوا سعادة السلام والمحبة في وطن أنتِ تلقّبين فيه “بسيدة لبنان“. وأنتِ في الواقع تحرسيه ببسط يديك الطاهرتين.
ونهتف إليكِ، بكلام إلهي من سفر نشيد الأناشيد: “هلمّي من لبنان” (نشيد 4: 8) إلى بلدان هذا المشرق التي تتآكلها الحروب، قتلًا وتدميرًا وتهجيرًا وإثارةً للأحقاد. افتقديها بحنانك، نجيّها من ويلاتها، ألهمي المسؤولين فيها وفي خارجها لكي يحلّوا السلام والعدالة والحقيقة والرجاء.
ونودّ الإعراب عن شكرنا للّجنة البطريركية لمتابعة تكريس لبنان لقلب مريم الطاهر، برئاسة أخينا المطران شكرالله نبيل الحاج، والحركة الكهنوتية المريمية، التي يرئسها سيادة المطران انطوان ربولا بيلوني، ومعبد سيدة لبنان – حريصا، ولكلّ الذين سهّلوا نقل شخص سيدة فاتيما، وضحّوا في سبيل إعداد زيارتها للبنان وهذا الاحتفال وسواه في الأيام المقبلة.
6. إنّنا في عيد قلب يسوع الأقدس نحيّي جميع فروع “عائلة قلب يسوع” ومرشديها، وبخاصّة رئيستها السّيدة سلوى أسطفان والمرشد المحلّي والدّولي المونسنيور روكز برّاك. إنّها فيما تنشر عبادة قلب يسوع الأقدس، تستمدّ روحانيّتها من التّأمّل في سرّ كلمة الله الذي صارَ إنساناً وأحبّ العالم بقلبٍ بشريّ. لقد اتّخذ الله قلبًا بشريًّا بشخص يسوع المسيح ليُعبّر عن حبّه اللامتناهي، وبدون حدود، لكلّ إنسان مولود لامرأة. فماتَ على الصّليب فداءً عن الجميع. وأعطانا القدوة بقوله: “ما من حبٍّ أعظم من هذا وهو أن يبذلَ الإنسان نفسه عن أحبّائه” (يو15: 13). واقتداءً بمحبة المسيح، راحت عائلة قلب يسوع، تجسّد محبته في مركزها الاجتماعي الخيري في مطرانية انطلياس، وتعتني حاليًّا بثلاثماية وخمسين عائلة معوزة.
7. من حبّ قلب يسوع الفادي، المائت على الصّليب، وُلِدَتْ الكنيسة، حوّاء الجديدة، عندما طُعِنَ قلبه بحربة، فجرى منه دمٌ وماء (راجع يو19: 35). ورأت الكنيسة ذاتها في هذَين العنصرَين: فالماء يرمز إلى المعموديّة،والدمّ إلى القربان، اللّذَين منهما تولد الكنيسة وتتكوّن. وهكذا، عبادة قلب يسوع تتجذّر في سرّ المحبّة، سرّ ذبيحة الفداء، ووليمة جسد الرّبّ ودمه في القدّاس الإلهي. وتدعونا للتشبّه بمحبّته وتواضعه ووداعته، لكي نعيشَ في طمأنينة وسلام: “تعالَوا إليّ يا جميع التّعبين والمثقلين بالأحمال، وأنا أريحكم. تعلّموا منّي: إنّي وديعٌ ومتواضع القلب فتجدوا راحةً لنفوسكم” (متى 11: 29).
8. لقد بدأت عبادة قلب يسوع في القرن الثالث عشر في ألمانيا بوقفات تأمليّة أمام “قلبه المطعون بالحربة” (يو19: 34)، مع القديستين ماتيلد (+ 1298) وجرترود (+1301). فكانت ظاهرة روحية نمت وانتشرت بوجه عالم يناهض الله ويتراجع بالتالي في إنسانيّته ومشاعر المحبة والرحمة، وحيث القلوب تتبدّل لتصير وكأنّها من حجر.
ثمّ انتشرت في العالم أجمع على يد الراهبة القديسة مارغريت ماري ألاكوك، من راهبات الزيارة في دير باراي – لو-مونيال، حيث أظهر لها يسوع قلبه، علامة حبّه اللامتناهي، مرّتين في شهر كانون الأوّل 1673 وحزيران 1675، فأدخلت عبارة “القلب الأقدس”.
في سنة 1691، أثبتَ البابا إينوشنسيوس الثاني عشر (1691- 1700) عبادة قلب يسوع. وفي السنة عينهادخلت هذه العبادة كنيستنا المارونيّة في كاتدرائيّة مار الياس في حلب. وأُنشئت في لبنان كنائس ومدارس وأخويّات على اسم قلب يسوع الأقدس. وحدّدت الكنيسة موعد العيد في يوم الجمعة من الأسبوع الذي يلي عيد خميس القربان.
9. إننا نرفع صلاتنا إلى المسيح الفادي الإلهي، بشفاعة أمنا مريم العذراء شريكة الفداء، كي يغسل بدمه الإلهي خطايا البشر، فيعمّ الاستقرار والسلام أرضنا المشرقية التي سقاها وطهّرها بدمه من على صليب الجلجلة، ونرفع منها، منقّاة ومطهّرة من الحديد والنار، نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
****
(*) عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي عيد قلب يسوع – استقبال تمثال سيدة فاتيما – بكركي، الجمعة 12 يونيو 2015.