البطريرك الراعي للشباب: لبنان بحاجة إلى صوتكم لنشر الاعتدال والتآخي ورفض التعصّب الديني والمذهبي والسياسي

لمناسبة مهرجان الشبيبة المريمية الثاني،  ترأس  غبطة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي قداساً في بازيليك سيدة لبنان – حريصا، (الأحد 14raii 1 تموز) ألقى خلاله عظة في عنوان  “روح الربّ عليّ مسحني وأرسلني” (لو4: 18)، دعا فيها الشباب أن يكونوا شبيبةَ الشَّركة والشهادة في زمن يحتاج إلى سياسيين جدد وقادة جدد… وفتح صفحة جديدة في تاريخ لبنان  تدعو الجميع إلى التفاهم وحوار الحقيقة في المحبة، وطَي صفحة التخوين والاتِّهام والتباغض…  جاء في وعظة البطريرك:

1. مسحة الروح القدس التي ملأت بشريّة يسوع رأس الكنيسة، وهي جسده، كنبيّ وكاهن وملك بامتياز، شملت جسده كلّه، فأشرك في مسحته كلَّ واحد منَّا بواسطة المعمودية والميرون. لقد أشركنا في هويّته المسيحانيّة أي مسحة الروح القدس، وأشركنا في رسالته النبويّة والكهنوتيّة والملوكيّة. نبوءة أشعيا، التي كُتبت قبل سبعماية سنة، تمّت فيه، كما أعلن في مجمع الناصرة، وتتمّ في كلّ واحد وواحدة منَّا اليوم، بحيث يستطيع أن يقول مع المسيح: “روح الربّ عليّ مسحني وأرسلني” (لو4: 18).

2. يسعدنا أن نختتم مهرجان الشبيبة المريمية الثاني بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة بين يدَي أمِّنا مريم العذراء سيِّدة لبنان، التي كرّسنا لقلبها الطاهر لبنان والشَّرق الأوسط  في الشهر الماضي، ونجِّدد اليوم هذا التكريس معكم، الشبيبة المريمية، طالبين حمايتهما والسلام فيهما وإشعاع نور إنجيل المسيح الخلاصي في هذه المنطقة التي منها أعلنه الربّ يسوع إلى العالم. ويطيب لي أن أُحيِّي بكثير من الشُّكر كلَّ المشاركين في المهرجان المريمي للشبيبة هذا، وبخاصّة منظِّميه من آباء وجمعيّات، والمحاضرين فيه من آباء وعلمانيّين، والجوقة التي أحيت اللِّقاءات الليتورجية، والمراكز والأديار في غوسطا ودرعون وحريصا التي استضافت المشاركين.

3. نودّ أن تكون هذه الليتورجيا الإلهيّة ذبيحة شكر لله، ولأمِّنا مريم العذراء سيِّدة لبنان، على النعم التي أُفيضت على المشاركين في المهرجان المريمي، طيلة اليومَين السابقَين واليوم. وقد أردتم أن يكون المهرجان عودةً إلى ينبوع الإيمان والحبِّ والمبادئِ الروحية، بمناسبة سنة الإيمان، على تلَّة حريصا، تحت نظر سيِّدة لبنان. وأردتم أن يكون أيضاً مناسبةً لتكريس ذواتنا لله، على مثال ابن الله، يسوع المسيح، الذي أتى إلى العالم مكرِّساً ذاتَه لتتميم إرادة الآب الخلاصيّة (راجع عبرا 10: 7)، وعلى مثال أمّنا مريم العذراء التي كرّست نفسها وجسدها لتكون خادمة تصميم الله الخلاصي، الملتزمة بتحقيق كلمة الله على لسان الملاك (راجع لو1: 37).

raii

4. ونصلِّي لكي يكون الاحتفال بذبيحة القدَّاس، في اختتام المهرجان المريمي، منطلقاً جديداً بنعمة الروح القدس، لعيش الشركة والشهادة، وفقاً للخطِّ المرسوم في الإرشاد الرسولي الذي وقّعه في لبنان قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في 14 ايلول الماضي، وهو بعنوان: “الكنيسة في الشَّرق الأوسط، شركة وشهادة”.

أجل، أيُّها الشباب المسيحيّون، أنتم القوى الحيّة والتجدُّدية في الكنيسة والمجتمع. فكونوا شبيبةَ الشَّركة والشهادة في زمنكم ومكانكم.فزمنُكم زمن الحاجة إليكم وإلى وجوه جديدة، وقيادات جديدة، وسياسيِّين جُدد، من أجل بناء الشَّركة في بُعدَيها: البُعد العمودي بإحياء الاتِّحاد بالله بواسطة سماع كلام الإنجيل والكتب المقدَّسة وتعليم الكنيسة وجعلهما ثقافة وحضارة حياة، وممارسة العبادة لله، وقبول نعمة أسرار الخلاص ولاسيَّما من سرَّي التوبة والقربان؛ والبُعد الأفقي بشدِّ أواصر الوحدة مع جميع الناس على أساسٍ من الحقيقة والمحبّة والعدالة والحرية، وبالدعوة إلى الحوار والتفاهم، ونبذ الاتِّهامات والأحكام المُسبقة. مكانكم هو مجتمعُنا في لبنان والشَّرق الأوسط. إنّه بحاجة إلى لغة جديدة غير التي تسمعون ونسمع. إنّنا نرفض معكم الانقسامات والدعوة إليها. ونرفض الحرب والعنف والأسباب الداعية إلى ممارستها.

5. وزمنكم ومكانكم بحاجة إليكم، وإلى وجوه وقيادة جديدة تكون جماعة الشهادة للمحبة. لا يُمكن أن تُبنى أيّ جماعة بشريّة، كبيرة كانت أم صغيرة، من دون المحبة. “الله محبة” (1يو4: 8)، والإنسان المخلوق على صورته، مدعوٌّ ليكون وجه المحبة، لكي يعيش ملءَ إنسانيّته. كيف يمكن أن نرضى بما يشوِّه صورة الله فينا وإنسانيَّتنا مثل الأنانيّة والحقد والبغض والرشق بسهام الاتِّهام، والتعدِّي على كرامة الأشخاص، والكذب والإهانة، وبيع الذات لافتعال هذه الأمور المشينة، لقاء حفنة من المال وإرضاءً للأسياد؟

عندما تكون شبيبتنا شبيبة الشَّركة والشهادة، نستطيع القول أنّ الشبَّان والشابَّات هم الأمل لغد أفضل ومشرق، ولعالم أكثر إنسانيّة. المهرجان المريمي يهدف إلى إعطاء مزيد من الدَّفع في هذا الخطّ.

6. “روح الربّ عليَّ مسحني وأرسلني” (لو4: 18). أنتم أيُّها الشباب، بوصفكم شبيبةً مريميّة، مدعوّون لكي تتعرّفوا إلى وجه يسوع بالعمق الذي تكشفه لكم أمُّه وأمّنا مريم العذراء. وحدها تعرف وجه ابنها يسوع على حقيقته. من خلال مسبحتها الورديّة تعرّفكم وتعرّفنا على هذا الوجه، ليكون المرآة لوجه كلِّ واحد منّا، ولنكون نحن انعكاساً لوجهه في مجتمعنا.

مسحة الروح القدس، التي قبلناها بالمعمودية والميرون، رسمت في داخلنا وجه المسيح وأعطتنا هوّية، فدُعينا مسيحيين. الكنيسة تساعدكم على اكتشاف وجه المسيح، الفادي والمخلّص، المعلّم والمرشد والصديق، وعلى بناء علاقة شخصيّة معه، فتعمّقون هويتكم.

هذه المسحة – الهويّة التي قبلناها واحداً واحداً، جعلتنا كنيسة المسيح، نحن الذين “صرنا أبناء الله، أبناءً لم نولد من دمٍ ولا من رغبة جسد، ولا من إرادة رجل بل من الله” (يو1: 12). وأعطتنا، بنتيجة هذا الانتماء العضوي إلى الكنيسة، الرسالة التي أشرك فيها المسيح كنيسته، أعني خدمته النبويّة والكهنوتية والملوكيّة.

7. إنّكم، أيّها الشبَّان والشابات، تشاركون في خدمة المسيح النبويّة بقبول كلمة الإنجيل، والعيش بمقتضاها، وإعلانها بالكلمة والأعمال شاهدين لأولويّة الله في حياتكم، وللحقيقة وكرامة الإنسان، ولقدسيّة الحياة البشرية. وبهذه الصفة تعملون على بناء ملكوت الله، بحيث تُبنى مدينة الأرض بقيم السماء، وتندِّدون بالشّر بجرأة، أيّاً يكن نوع هذا الشّر. إنّكم تجسّدون جدّة الإنجيل وتدخلون في حوار الحقيقة والمحبة مع الآخر المختلف في الرأي والدين والمذهب والانتماء وتصمدون برجاء وطيد بوجه المشقّات والمحن والمعاكسات. من الضرورة، من أجل القيام بهذه الرسالة النبوية، أن تتابعوا تثقيفكم اللاهوتي والكتابي والكنسي والروحي في معاهد التثقيف الديني.

raii2

  raii3

   8. وتشاركون، ايّها الشبّان والشابّات المسيحيّون، في خدمة المسيح الكهنوتيّة، بكونه الوسيط بين الله والناس، وكاهن ذبيحته التي افتدى بها الجنس البشري، وجعلها طعاماً روحيّاً للنفوس ولحياة العالم. مشاركتكم تعني أنّكم تواصلون مع أساقفتكم وكهنتكم تقدمة الربّ يسوع هذه، من خلال الاحتفال بسرّ الإفخارستيا، الذي يُقام لتأدية فعل عبادة تمجيداً لله، ولالتماس خلاص البشريَّة جمعاء.

   وبصفتكم أعضاء في جسد المسيح، تقتضي هذه المشاركة منكم أنّ تتَّحدوا بذبيحة المسيح الخلاصيّة عندما تتعبون وتبذلون الجهود من أجل القيام بواجب حالتكم في العائلة والكنيسة، وفي المجتمع والدولة؛ وعندما تتألَّمون من المرض أو الفقر أو الفشل أو أي صعوبة. وقد اعتدنا أن نقول في هذه الحالة، وبهذه النية: “مع آلامك يا يسوع”. وهكذا تعطون لآلامكم قيمة خلاصيّة لكم وللكنيسة وللوطن.

   ضمّوا إلى قربان يسوع المسيح قرابين أعمالكم الصالحة ومبادراتكم الخيّرة، وآلامكم الجسديّة والنفسية، والجهود التي تبذلونها في سبيل الحقيقة والخير والعدل والسلام والتفاهم بين الناس. إنّ قرابينكم الروحية هذه ترفعونها إلى الله الآب مع قربان ابنه الوحيد، بكلّ تقوى، وبها تتقدَّسون، وتقدِّسون مجتمعكم.

   9. وتشاركون، أيّها الشبّان والشّابّات، في خدمة المسيح الملوكيّة، بانتصاركم على الضعف والانحراف والاستعباد. إنّكم، بقوّة هذه الخدمة، تعيشون الصراع الروحي من أجل تدمير سلطان الخطيئة والشَّر. وتكرِّسون حياتكم من أجل خدمة المحبة وإحلال العدالة ونشر السلام. وتعملون جاهدين من أجل الوحدة في العائلة والكنيسة والمجتمع، ومن أجل المصالحة بين المتخاصمين. وتعتنون عناية خاصّة بالفقراء والضعفاء والمُعوزين، مادّياً وروحيّاً ومعنويّاً.

   10. إنّ الكنيسة بجانبكم في هذه الخدمة المثلّثة، وتعلّق آمالاً كباراً عليكم، من أجل أن تعطوا لبنان والمجتمع وجهاً جديداً من الكرامة الإنسانية، والقيم الروحية والأخلاقية؛ وجهاً جديداً من الإخلاص للوطن ورسالته، والتفاني في سبيل الخير العام، وحماية مؤسَّساته الدستورية. هذا الوجه الجديد تستمدّونه من سنة الإيمان، وقد أردتم ن يندرج هذا المهرجان المريمي للشبيبة في إطار سنة الإيمان. ومن هنا من وهج نور سيدة لبنان، جئتم تبحثون عن نور الإيمان، على مدى ثلاثة أيَّام، لكي تستضيئوا به في دروب الحياة. جئتم تلتمسون الإيمان نوراً يولِّد فيكم رؤية منيرة للوجود ولقراءة الأحداث، وتمييز الأمور خيرَها من شرّها، وجميلها من قبيحها، فتنطلقون في ورشة النهوض بلبنان روحيّاً وإنمائيّاً واجتماعيّاً، بالتعاون مع الكنيسة وذوي الإرادة الطيبة. ولذلك أقول لكم ومن خلالكم لكلّ شبيبة لبنان:

   11. لبنان بحاجة إلى صوتكم لفتح صفحة جديدة في تاريخه تدعو الجميع إلى التفاهم وحوار الحقيقة في المحبة، وطَي صفحة التخوين والاتِّهام والتباغض. أُدعوا الأفرقاء السياسيّين المتنازعين، الذين بنزاعاتهم المتمادية والمتنامية، إنّما يمعنون في تهديم لبنان، أُدعوهم إلى حوار المصارحة والمصالحة، وإلى إبرام عقد اجتماعي جديد انطلاقاً من الميثاق الوطني الذي أرسى به اللبنانيون وطنهم على أساس العيش معاً، وتحييد لبنان من كلّ تبعيّة لأي دولة من الشَّرق ومن الغرب، والتزامه قضايا الأسرتَين العربية والدولية، في كلِّ ما يختصّ بالسلام والعدالة وحوار الأديان والثقافات والحضارات وترقِّي الشخص البشري والمجتمع، بعيداً وخارجاً عن الانخراط أيّ محور أو تحالف تصادمي وعسكري إقليميّاً ودوليّاً.

raii 4

   لبنان بحاجة إلى صوتكم، المجرّد من كلّ مصلحة خاصّة أو فئويّة، للتنديد بكلّ محاولة ترمي إلى تفكيك الدولة ومؤسَّساتها، أو إلى إفراغها من مواقع السلطة بمنع تداولها وفقاً للأصول الدستورية. فطالبوا بتأليف حكومة، اليوم قبل الغد، لكي تلبِّي الحاجات الوطنية وتواجه التحدِّيات الاقتصادية والأمنيّة والمؤسَّساتية. طالبوا بإقرار قانون جديد للانتخابات، في القريب العاجل، يكون على قياس الوطن لا المصالح الشخصية والفئوية، وبإجراء الانتخابات النيابية بموجبه.

   لبنان بحاجة إلى صوتكم لنشر الاعتدال والتآخي ورفض التعصّب الديني والمذهبي والسياسي، ولدعم “القوّات المسلّحة” المنصوص عليها في المادة 49 من الدستور، التي “قائدها الأعلى رئيس الجمهورية، وتخضع لسلطة مجلس الوزراء”. إنّ كلّ سلاح خارج هذا الإطار يُعتبر غير شرعي، ويستجلب بالمقابل سلاحاً غير شرعي، فتعمّ شريعة الغاب وتكثر الجرائم، كما نرى بكثير من الأسف.

   لبنان بحاجة إلى صوتكم لكي ترفضوا أن تتسلّموا من المسؤولين السياسيّين أشلاء دولة، مفكّكة في أوصالها، معرقلة في مؤسَّساتها، مشرذمة في شعبها، منهوكة القوى بأزمتها الاقتصادية والمعيشية الخانقة ومكبّلة بديونها الباهظة، ومُقحَمة على الدخول في محاور وتحالفات عسكرية إقليمية رغماً عنها وعن الحكم الشرعي فيها وعن الميثاق الوطني وإعلان بعبدا القائلَين بحياد لبنان. هذا التورّط يجلب على الوطن نتائج وخيمة على كلِّ المستويات.

   12. يا شبّان وشابّات لبنان، كونوا أنبياء هذا الزمن من تاريخنا الوطني، وأقول لكم بلسان آباء المجمع البطريركي الماروني، في نصّه الحادي عشر، الخاصّ بالشبيبة:

   “قولوا الحقيقة في عالم الباطل! أُنطقوا بالحقّ في عالم يسكت عنه جبناً ومساومة! دافعوا بجرأة عن المظلوم والفقير في عالم يستقوي على الضعفاء ويسلب حقوقهم! كونوا صوتَ ضمير في عالم مات ضميره وأسكت صوت الله في أعماقه! كونوا دعاةَ رجاء في عالم اليـأس! كونوا أناسَ صلاة وتوبة إلى الله في عالم نسي الله ووضعه جانباً، فزادت البلبلة وكثر الشّر! تذكّروا أن الله زرعكم رسلاً في هذه المنطقة من العالم، والرسالة هي مبرِّر الوجود المسيحي وغايته (راجع الفقرة 57).

   فليكنْ هذا المهرجان انطلاقة لشبيبتنا ترسلها مريم العذراء سيدة لبنان، وتكرّس هي بدورها شبيبتنا لخدمة لبنان وبلدان الشَّرق الأوسط. وليتمجّد الله إلى الأبد، أمين.

.raii 5  raii 6

 كلام الصور

1- البطريرك الراعي أثناء ترؤسه القداس الإلي في بازيليك سيدة لبنان-حريصا

2- البطريرك الراعي يلقي وعظته

3- 4-  البطريرك الراعي أثناء دخوله البازيليك

5-6- 7- البطريرك مع الشباب بعد القداس

اترك رد