الباحث خالد غزال
الهند قارة قائمة بذاتها، سكانها يتجاوزون المليار، لعقود خلت كانت تصنّف ضمن بلدان العالم الثالث المتصف بالتخلف، حجم الفقراء فيها ضخم جداً. ولكن في المقابل، هي حتى اليوم مصدر إعجاب لمحافظتها على النظام الديمقراطي، وعلى رغم تخلفها الاقتصادي ونموها الضعيف، فإنها تدهش العالم كل سنة بحجم العباقرة الذين تصدرهم الى الغرب في مختلف الميادين العلمية.
كيف أمكن لأمة تحمل هذه التناقضات ان يهيمن علماؤها على مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة الاميركية وأوروبا؟ لعل في كتاب الباحثة البريطانية انجيلا سايني «أمة من العباقرة، كيف تفرض العلوم الهندية هيمنتها على العالم» (سلسلة «عالم المعرفة – الكويت) بعض الأجوبة التي تفسر أسباب -وعوامل- هذا التطور العلمي المذهل في بلد سمته العامة انه بلد الفقراء.
تشير بعض الأرقام الواردة في الكتاب الى ان واحداً من كل خمسة من العاملين في حقل الرعاية الطبية وطب الأسنان في المملكة المتحدة هو من أصل هندي. وان واحداً من كل ستة علماء موظفين يحملون درجة الدكتوراه في العلوم او الهندسة في الولايات المتحدة من أصل هندي. بل هناك من يذهب في الإحصاءات الى انه مع مطلع الألفية الجديدة كان ثلث المهندسين العاملين في منطقة وادي السيليكون هم من أصل هندي. ويدير الهنود 750 شركة من الشركات التقنية في أميركا، ويحتلون موقعاً أساسياً في الشركات العابرة للقوميات والقارات. ويقوم الهنود البارعون في علوم الحاسوب بإصلاح برمجيات الحاسوب للأميركيين، وينتج الكيميائيون الهنود عقاقير تنقذ حياة البشر يباع معظمها في أوروبا. تلك عينة تدل على ما تملكه الهند من قدرات وإمكانات تجعلها قوة عظمى في مصاف أميركا واوروبا واليابان، كأن قوة تنتشل الهند من مستنقع الفقر وتحولها الى عملاق من عمالقة التكنولوجيا.
منذ منتصف القرن الماضي، ومع صعود الأميركيين والروس الى القمر، وضعت الحكومة الهندية حجر الأساس لمنظمة أبحاث الفضاء. وأمكن برنامج الفضاء تمكين العلماء بناء أول صاروخ فضائي هندي. في أحاديثها مع علماء هنود، تشير الكاتبة الى طموحات العلماء الهنود وتطلعاتهم المستقبلية، فهم مهووسون بالمستقبل بطريقة تشبه كتّاب الخيال العلمي، وهم يعملون على عصر علمي جديد تحطم فيه الهند الحواجز التي تعيقها في البحث والتطوير في مجال التقنيات الأكثر ارتباطاً بالمستقبل، ليس في الهند فقط، بل في العالم أجمع. يرى العلماء الهنود انه بعد ثلاثين عاماً ستنضب الموارد الخام من على كوكب الأرض، لذا هم يطمحون الى ان الهند ستبدأ في التنقيب عن الموارد الطبيعية على الكواكب الأخرى من الكون.
أفرزت الجامعات الهندية جيوشاً كاملة من المهندسين المتفوقين في علوم الحاسب الآلي، وهم اليوم يصممون الشِفرات البرمجية للشركات الواقعة على الجانب الآخر من الكوكب، ويتصلون بها فقط من خلال وصلات القمر الأصطناعي. لكن المفارقة ان الأوروبيين وليس الهنود هم الذين جنوا ويجنون ثمار التقدم في مجال الهندسة والرياضيات وبناء الطائرات والصواريخ والحواسيب الآلية.
يبقى السؤال عن العامل الأساس الذي وضع الهند، البلد الفقير اقتصادياً، في هذه المنزلة الضخمة علمياً. انه الإيمان بالعلم الذي أولته الحكومات الهندية المكان المركزي في سياساتها وخططها الإنمائية. يعزو الهنود الى القائد الهندي جواهر لال نهرو الدور المؤسس في تطور الهند العلمي. كان نهرو مؤمناً بأن العلم هو المفتاح الذي سيدفع الهند في طريق التقدم، وكان أول الأشياء التي فعلها بعد ان أصبح رئيساً للوزراء انه وضع سياسة للعلوم، وجعل نفسه رئيساً لمجلس الأبحاث العلمية والاقتصادية، وهو أكبر هيئة منتجة في مجال الأبحاث والتنمية في الهند. تقول الكاتبة عن نهرو استناداً الى محاوريها:
“لم يكن حلمه قاصراً على جعل الهنود يكرسون وقتاً أكبر للاشتغال بالعلوم، بل ان يفكروا ايضاً بطريقة أكثر عقلانية في حياتهم اليومية. فقد كانت الهند دولة متدينة بعمق، ومعدلات الأمية مرتفعة فيها، وأعداد غفيرة من السكان يؤمنون بالخرافات تماماً، كما كانت حالهم قبل القرون الوسطى. ولم يكن شاذاً بالنسبة الى الناس ان يعتقدوا في الاستشفاء بالغورو (المعلمين الروحانيين) أكثر من اعتقادهم في الأطباء البشريين وأطباء الاسنان، او حتى ان يضعوا قراراتهم المصيرية بين يدي أحد العرافين. وكان نهرو يرى ان ذلك الوضع لا بد ان يتغير. كان يؤمن بأن من حق الهند ان تكون لها حركة التنوير الخاصة بها، تماماً مثل اوروبا، لتقضي على هذا الوباء من الخرافات وتستبدله بالمنطق والفكر السليم». لعل الدستور الهندي شبه الوحيد بين دساتير دول العالم الذي يحوي نصاً قانونياً يعلن فيه انه «يجب على كل مواطن هندي ان يشارك في تنمية الفكر العلمي”.