بقلم: سليمى شاهين
يأتي كتاب “حمص… لما اكتملت” في أوقات عصيبة تحاصر فيها المدينة وتُدكّ عمارتها منذ عدّة أشهر. ولكن، على الرغم من هذه المعاناة الرهيبة، رغبت المؤلفة نداء الدندشي أن تضع بين أيدي أهلها عملاً موثقًا يبرز مختلف أوجهها العمرانية والاجتماعية والدينية بهدف الفخر بما أنجز أجدادهم والتمسك بما بقي (الدار العربية للعلوم ناشرون).
حفل القرن التاسع عشر بتطورات شملت كافة وجوه الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، وانعكس أيضًا على الإبداع المعماري مما أعطى المدن مظهرًا جديدًا يختلف بالشكل والمادة عما كان عليه في السابق. وقد انعكس هذا التغيير بأعلى مراحله على المدن الداخلية في سورية لأنها حافظت لفترة طويلة من تاريخها على طابع استمد شروطه من البيئة والمحيط الجغرافي الملاصقين لها.
حمص القديمة
في هذا الإطار تدخل مدينة حمص القديمة التي لم تأخذ حقها في الدراسة والبحث كمكان فريد له خصوصية لا تضاهى.
والآن، في خضم الحصار المحيق بها، والذي يدكّ عمارتها ويهدمها، شعرت المؤلفة نداء الدندشي التي عاشت عشرين عامًا في هذه المدينة، أن أمانة ملقاة على عنقها طالما تملك المعلومات التي تؤهلها للتعرف بها والكتابة عنها، وينبغي أن يعرف الجميع، خصوصًا أهل حمص، أهمية هذه المدينة وتاريخها المعماري.
لقد شدّ الدندشي وهي تسير في دروب المدينة وأزقتها ذلك الغموض الشفاف الذي يطل من الواجهات البازلية الصماء المتصلة بسياق بديع لا يقطعه إلا قوس باب وشّي بحجارة بيضاء، أو واجهة عليا لدار مفتوحة على الشارع المقابل وقد زيّنت بمداميك من الحجارة الكلسيّة تشي للزائر بأن نهاية عصر من الزمان ولت، وبداية عصر انفتاح حضري قد أقبلت.
فهرس متكامل
على الرغم من العوائق التي واجهت المؤلفة في دراستها فقد تمكنت من وضع فهرس كامل للموضوعات الرئيسة استنادًا إلى ما صدر من كتب ودراسات، واعتمادًا على بعض الدارسين الذين خاضوا هذا الميدان، واتكالاً على مشاهدتها ودراستها الخاصة في هذا المضمار.
انطلقت نداء الدندشي من وصف السمات العامة للمدن القديمة حتى انتهت إلى مدينة حمص القديمة بتاريخها وأسوارها وأسواقها وخاناتها وحماماتها وأحيائها السكنية والبيت التقليدي الذي اشتهرت المدينة بمواصفاته النادرة.
وفي مسيرتها تدخل إلى المقاهي وتصف لنا الخدمات الترفيهية، وتزور البيوت الدينية والأضرحة والجوامع والكنائس، إلى أن تختم بالصناعة والتجارة والمهن التي تمتاز المدينة بها.
أما ملحق الصور الملون الذي يزدان الكتاب به فهو غنيّ بمعالمه التفصيلية التي تبرز العمارة القديمة وما تزدهي به من جمال.
هندسة بسيطة
خلت حمص سابقًا من المنشآت المترفة في زخرفتها وزينتها كبعض المدن الأخرى، فمساجدها كانت صغيرة وبواباتها بسيطة وخالية من الزخرفة المترفة، والمدارس عبارة عن كتاتيب لا تتعدى الغرفة أو الاثنتين ولا وجود لمستشفى بها، حتى دار الحكومة الرسمية كان بناءً من طابق واحد. كان نسيجها المعماري بيوتًا سكنية جهد أصحابها بتزيينها والعناية بها حتى غدت مدينة فريدة عمّرها أهلها كلٌّ بما كان لديه.
أما الترب والمدافن فتقع خارج أسوار المدينة وتمتد على مساحات واسعة من الأرض، إلى الغرب والشمال والشرق حيث تدور المعارك الطاحنة في أيامنا. وقد تميزت التربة الشرقية بحصولها على قداسة خاصة لدى المسلمين في المدينة كونها ضمت عددًا من القبور التي دفن بها بعض من صحابة الرسول محمد (صلعم) ممن سكنوا المدينة بعد الفتح العربي لها. وهذا المكان المقدس لم تطله بعد الأيادي الحاقدة والنيران الماحقة التي لا تبقي ولا تذر.
طرف السور الجنوبي
انتشرت على الطرف الجنوبي للسور الكرمة والعنب وأشجار الزيتون في أرض تقل خصوبتها عن بساتين نهر العاصي المخصصة للخضروات والفاكهة.
واشتهرت صناعة الدبس المطلوب من الأماكن البعيدة فأقيمت المعاصر لإنتاجه، وبني خان صغير في قلب المدينة خصص لاستقبال التجار الراغبين بشراء هذه المادة.
وتجاور الصحراء مدينة حمص بمسافة ليست بعيدة عن السور الشرقي حيث يرتع بعض البدو، أما العشائر الكبيرة فكانت تسكن في عمق الصحراء بعيدًا عن المدينة وتسيطر على منافذ البادية ودروبها.
هذه صورة عامة لحمص في بداية القرن التاسع عشر وقد استمرت إلى منتصفه، أي الفترة التي اكتملت بها ضمن الأسوار.
حمص خارج الأسوار
لم تلبث حمص أن بدأت تتململ ضمن جدارها كنتيجة طبيعية لزيادة عدد السكان وارتفاع سعر الأراضي المخصصة للبناء، اضافة إلى المتغيرات الحضرية التي بدات تلوح في أفق بلاد الشام كافة. لكن عوامل خارجية رئيسة جعلتها تسهم في التوسع خارج نطاق أسوارها ومنها:
1- تمكن إبراهيم باشا قائد قوات محمد علي حاكم مصر وابنه أيضًا من الدخول إلى المدينة عنوة عام 1832م، ونتيجة لهذا لجأ إلى تهديم جزء من قلعة المدينة ونزع الحجارة التي تحيط بموقع القلعة وبنى مستودعات لأسلحة جنده ومؤونته خارج السور.
2- حدوث تغير جذري في بنية نظام الإمبراطورية العثمانية المتهالكة أدى إلى عدد من التدخلات الأجنبية نتج عنها إلغاء الدولة للضريبة المفروضة على التجارة الداخلة إلى المدن عام 1870م فقلَّ شأن الحاميات الجمركية التي كانت تتمركز على أبواب المدن، ثم سحبت هذه الحاميات بالكامل، فلم تعد الأسوار تلقى العناية القديمة، من ترميم وتدعيم لازمين لعدم تداعيها، ثم انهيارها.
3- تراجع صناعة الحرير في دمشق وحلب اللتان لم تصمدا كثيرًا أما مستوردات الحرير الصناعي الرخيص الثمن، فاستفادت حمص وزادت عدد مشاغلها للحرير الطبيعي، فقدم إليها الكثير من عمال هذه الصناعة مع عائلاتهم وكانوا بأمس الحاجة إلى بيوت للإقامة فيها، فارتفعت أسعار الأراضي المخصصة للبناء داخل الأسواء وأصبحت الحاجة ماسة لإقامة مناطق سكنية جديدة ورخيصة تناسب هؤلاء القادمين الجدد.
4- زيادة الدخل العام الذي رافق ازدهار صناعة الحرير، وتضاعف ثروات برجوازية المدينة، أدى إلى ازدهار أعمال البناء، وظهور قصور كبيرة وعمائر جديدة، اكتسحت ما حولها من البيوت البسيطة، فأصبح أصحاب هذه البيوت بحاجة لإقامة منازل جديدة.
المغامرة الأولى
سجّل سليمان صافي- أحد أبناء المدينة وكان يعمل خياطًا- أول مغامرة في هذا المجال، وبنى لنفسه بيتًا خارج سور المدينة سنة 1887م، وكانت خطوة جريئة في زمانها، رغم أن الرجل انتظر سبعة عشر عاما بعد إهمال العناية بالأسوار وتداعي أجزاء منها حتى سجّل سابقته تلك، فشكلت هذه الخطوة حافزًا للسكان كي يخرجوا عن نطاق المدينة المسورة، فبدأوا بتردد وخجل أولا، بتشييد دور سكنهم التي انتشرت هنا وهناك أولا، ولم تلبث أن انتظمت بشيء من العفوية في كل من الحميدية وجورة الشياح، ثم وبكثير من الجرأة والتصميم في كافة الاتجاهات مكتسحين البساتين والأراض الزراعية من جهة، ومتحدّين الصحراء الجافة المجاورة لهم من جهة ثانية حتى آلت المدينة إلى ما هي عليه الآن.
لكنّ هذا كلّه كان قبل تسلط يد الشرّ على هذه المدينة التراثية المجيدة، ولا نعلم بعد هذا الكابوس الدموي الذي يعيشه أهلها ما الذي سيبقى من عمارتها وكم من الشهداء سيلقون حتفهم تحت أنقاضها!
كلام الصور
1- مشهد من مدينة حمص القديمة
2- غلاف الكتاب