د. عبد الحسين شعبان
لا يمكن فصل ما حدث في الأعظمية من أعمال عنف طالت الوقف السني عن موضوع برنامج التسليح الأمريكي للعشائر السنية والبيشمركة الكردية، والتداخل الإيراني المتزايد، والحديث عن التقسيم، ولاسيّما مشروع جو بايدن.
هكذا يتكرّر السيناريو العراقي بكل فصوله وعلى نحو ممل وخال من الخيال كل يوم تقريباً منذ الاحتلال الأمريكي للعراق ولحد الآن، فالاحتقان والتوتر الطائفي وصل إلى أشدّه، وخصوصاً بعد العام 2006 واستمر لكامل العام 2007، وذلك بعد تفجير مرقد الإمامين الحسن العسكري وعلي الهادي في سامراء، لكنه تراجع قليلاً، ثم عاد إلى الصعود بسبب تصدّع العملية السياسية، وخصوصاً في الفترة الأخيرة لعهد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، والتي بدأت بحراك شعبي، ولاسيّما في المناطق العربية من غرب العراق، وهي في غالبيتها من أتباع المذهب السنّي، بسبب الشعور بالتهميش واستمرار الدعاوى الكيدية بموجب المادة 4 من قانون مكافحة الإرهاب، واستمرار اعتماد المخبر السرّي وبقايا قانون اجتثاث البعث الذي تغيّر اسمه إلى قانون المساءلة والعدالة.
ما الذي حدث في الأعظمية فجر يوم الخميس 14 مايو/ أيار 2015 حيث كانت بغداد تشهد زحفاً شيعياً لمسيرات تتجه مشياً على الأقدام لزيارة مرقد الإمام موسى بن جعفر (الكاظم) في مدينة الكاظمية، المجاورة للأعظمية. وإذا كانت الكاظمية قد أخذت اسمها من الإمام الكاظم، فإن الأعظمية استوحت اسمها من الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان، ويفصل المدينتين نهر دجلة، أما الجسر الذي يربطهما فأطلق عليه جسر الأئمة بمزاوجة اسمي الإمامين الكاظم والأعظم، وقد عاشت الكاظمية والأعظمية متآخيتين ومنسجمتين على الرغم من اختلاف الانحدار المذهبي لأغلبية سكانهما المتوزعين بين الشيعة والسنة، من عرب العراق بالدرجة الأساسية وكرده أيضاً.
وكانت الأعظمية مدينة عامرة وتسكن فيها، ولاسيّما في العهد الملكي، النخبة الحاكمة وأفراد من قيادات الجيش والقوات المسلّحة وشخصيات بارزة، مثلما فيها عوائل عريقة ومرموقة، والأمر كذلك ينطبق إلى حدود معينة على مدينة الكاظمية التاريخية.
شهدت مدينة الأعظمية وعلى مرأى ومسمع من الملأ، مثلما نقلت شاشات التلفاز مجزرة رهيبة، والإشاعة تكرّرت مثلما حدث في العام 2005: وجود انتحاري يحمل حزاماً ناسفاً. حكاية الحزام الناسف التي غالباً ما تحدث سرت في الناس مثل النار في الهشيم في ظل موجة بشرية ملتهبة المشاعر ومستنفرة سلفاً. لا أحد يعلم كيف انتشرت الإشاعة، وهل هي هواجس لمخاوف قائمة بسبب ضعف الحالة الأمنية أم أنها كانت مغرضة وتقف خلفها جهات معينة من الجماعات المتعصبة والمتطرّفة والطائفية، وبغض النظر عن هذا وذاك، فإن الهدف هو إحداث الفتنة الطائفية، ويبدو أن الجهة أو الجهات المخططة لذلك والمستفيدة من إبقاء نار التوتر مستعرة، كانت جاهزة لاستثمار ما حدث.
هكذا جاءت ردود الأفعال، غاضبة، منفلتة وجاهزة، وكأن ما حصل كان مهيئاً وأن المسرح مُعدّ لفصول تمثيلية حاضرة، فهاجت مجموعة من المشاركين، المترجّلين، المتوجّهين لزيارة الكاظم بمناسبة إحياء ذكرى وفاته، وسرعان ما صبّت غضباً على “عدوها” حتى دون معرفة من هو مطلق الإشاعة، فباشرت برشق ديوان الوقف السني بالحجارة، ثم قامت بإحراقه مع عدد من المنازل وقتل في الحادث أربعة أشخاص وجرح آخرون.
ولكي يكتمل السيناريو فإن إشاعة الحزام الناسف اتهم بها تنظيم “داعش” لاحقاً، مثلما احتجز النازحون من المناطق الغربية، ولاسيّما من الأنبار، والحجة جاهزة هي احتمال تسلّل جماعة “داعش” بواسطة النازحين، وهكذا طُلب كفالة لشخص ضامن لكي يتم قبول النازحين إلى بغداد، عاصمة العراق. لا أدري هل انطلقت تلك الحشود بضمانات رسمية، بما فيها كفالة الأشخاص المشاركين فيها؟ وهل من الغريب تسلّل جماعة “داعش” إليهم ومشاركتهم في الاحتفال بذكرى وفاة موسى الكاظم على طريقتهم الخاصة، ليتم تفجير النفس لإلحاق الأذى بالطرف الآخر، كما يبرّر هؤلاء؟
الغريب أن أفراداً من الشرطة ومن الجيش لم يبادروا سريعاً لاحتواء الحادث ومنع المتطرّفين والمتعصبين من تأجيج نار الفتنة الطائفية بإحراق مقر الوقف السني، وهذا بحد ذاته يعكس طبيعة الصراع والانحيازات المسبقة والولاءات العمياء، فضلاً عن “إرهاب” الجماعات خارج سلطات الدولة.
يعود سيناريو الفتنة الطائفية إلى التقسيم الإثني والمذهبي الذي أعقب الاحتلال في العام 2003، وفي الأعظمية بشكل خاص نظراً لرمزيتها، ففي العام 2005 حيث كانت المناسبة هي ذاتها (ذكرى وفاة الإمام موسى الكاظم) حين فجّر انتحاريان نفسيهما في زحمة تدافع الناس وتوجهها للزيارة وعند رقبة جسر الأئمة من ناحية الأعظمية، وكان عدد الضحايا زاد على ألف إنسان، وكانت في كل مرّة مجرد إطلاق إشاعة من هذا القبيل ليتم انتقال الشرارة في الرؤوس الحامية لتتحول إلى فعل ثأري وانتقامي وإجرامي.
كان يراد في حادث العام 2005 مثلما يُراد في حادث العام 2015 إحداث الفتنة الطائفية تمهيداً لإقامة غيتوات للعزل الطائفي ومن ثم لمشروع التقسيم، لكن أهالي الأعظمية في المرتين ساهموا في إطفاء نإرها، وذلك حين أعلنوا عن تضامنهم مع إخوانهم الزائرين من جهة وشجب عمليات الإرهاب من أي أتت، مثلما قاموا بتقديم بعض الخدمات كما فعل زعماء من الطرف الآخر وفي مقدمتهم مقتدى الصدر، ولكن العيب ليس في الزائرين أو أهالي الأعظمية، إنه يكمن في طبيعة نظام المحاصصة المذهبية التي يستغلها أمراء الطوائف والمستفيدون من التقاسم الوظيفي، الذي بدونه لا يمكن لهم الحصول على الامتيازات ولهذا يلجأون إلى الشحن الطائفي والتخويف من الآخر.
لقد وصلت العملية السياسية إلى طريق مسدود منذ سنوات، لكن دخول “داعش” على الخط سبّب في انقطاعها، سواء بقيت “داعش”، وهو أمر محال، أو رحلت “داعش” آجلاً أم عاجلاً، حيث أظهرت مدى بؤس وشحّ القائمين عليها وعدم قدرتهم على قيادة البلاد المهدّدة بالتقسيم، وهو اقتراح جو بايدن منذ العام 2007 وحصل بموجبه على تأييد الكونغرس الأمريكي.
واليوم فإن مشروع التسليح هو سبب جديد في بعث المشروع القديم وإخراجه من الأدراج ليصبح على طاولات التنفيذ، وهو ما يؤيده كرد العراق حفاظاً على فيدراليتهم التي أقرّها لهم الدستور، وهو ما تسعى إليه السنية السياسية المشاركة في الحكم بعد أن كانت ترفض الفيدرالية، وعلى خلاف ذلك فإن الشيعية السياسية بدت معزولة حتى وإن كان الحكم بيدها، الأمر الذي قد يؤدي إلى ارتمائها في أحضان طهران أكثر فأكثر، لمواجهة المشروع الأمريكي الهادف إلى إقامة دويلات بتسليح الأكراد على نحو مستقل وكذلك السنية السياسية بصفة رؤساء العشائر.
ولعلّ الفشل الجديد في الرمادي بعد الموصل وما حصل من أعمال عنف في تكريت قد وضع العملية السياسية مجدداً على كف عفريت، الأمر الذي يهدّد بقاء رئيس الوزراء حيدر العبادي على رأس السلطة، التي ينافسه عليها قسم من كتلته في الائتلاف الوطني (الشيعي)، إضافة إلى عدم قبول الأطراف الأخرى.
الزيارة وتأدية المراسم والطقوس الدينية حق لكل إنسان مضمون دستورياً، ولكن المصلحة العامة، ولاسيّما في ظل انقسامات طائفية قد تؤدي إلى استفزازات وتوترات بصب الزيت على النار، فضلاً عن تعطيل العمل في دوائر الدولة وقطع الشوارع من خلال إنذارات تعيشها المنطقة المعينة بشكل عام، فضلاً عن تسخير أجهزة الدولة وأموالها وإمكاناتها لتقديم المساعدة للزائرين، الأمر الذي يمكن توظيفه لإعادة إعمار البلاد. وإذا كان البلد يعاني محاصصة ومذهبية وطائفية، واحتلال نحو ربع أراضيه من قبل “داعش”، فإنه يحتاج إلى تسخير الإمكانات والطاقات والموارد لمواجهة الخطر الإرهابي، فهل يصحّ أن ينشغل الناس بغير ذلك، وأن تنصرف أجهزة الدولة خارج هذا التوجّه؟
ولعلّ من الجدير بالذكر أن المراجع الدينية يمكنها أن توجّه ما يُنفق على الزيارة وتبعاتها، لبناء مدارس ومستشفيات وتبليط شوارع وتنظيف العاصمة والمحافظات، فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بدرء أخطار محدقة واحتواء انقسامات محتملة وتفجيرات متوقعة في ظل استفحال الشحن الطائفي!
أعتقد أن ذلك من واجبهم الشرعي والأخلاقي، وكثيراً ما بادرت المرجعية في النجف إلى تبنّي وجهات نظر مخالفة للجمهور أحياناً، وهنا لابدّ من التحلّي بالشجاعة، وغالباً ما يكون الجمهور جاهلاً أو متطرّفاً أو مدفوعاً أو متمسّكاً بالماضي، ولنا أن نتذكر ما طالب به السيد محمد حسين كاشف الغطاء من تحويل الحج في العام 1931 من مكّة إلى القدس، تضامناً مع شعب فلسطين وثورته ضد الصهيونية والحكم البريطاني، وذلك في مؤتمر القدس الشهير.
إن في ذلك قدوة حسنة، مثلما هناك قدوات أخرى بادر إليها محمد سعيد الحبوبي في مقاومة الإنجليز في الشعيبة ومعه السيد محسن الحكيم ورؤساء عشائر أو السيد محمد تقي الشيرازي في إطلاق شرارة ثورة العشرين ضد الحكم البريطاني ومن سامراء المدينة السنّية في حين كانت النجف المدينة الشيعية هي موقد الثورة، أو السيد أبو الحسن الأصبهاني الذي تصدّى لبعض الترّهات التي تحاول العبث باسم الدين والمذهب، والهدف منها هو تنقيته مما علق به من شوائب.
****
(*) موقع التجديد العربي (27 مايو 2015)