فؤاد حداد حامل القضية اللبنانية حتى الاستشهاد

بقلم: د. عبد الرؤوف سنو (*)

لكل شخص في لبنان قضية يُؤمن بها ويدافع عنها، وقد يهب حياتَه ثمناً لها، وهناك من يتخلى عن قضيته أو يبيعَها بفعل ظروف أو ضغوط أو من أجل sinoجاه أو منصب أو حفنة من المال. فؤاد حداد من النوع الأول من الرجال الذي شكل لبنانَ قضيته الثابتة ودافع عنها بشجاعة وعِناد حتى الشهادة. هو شخصية فكرية بارزة شغلت الأندية الإعلامية والسياسية والثقافية في لبنان، حتى بعد رحيله.

يعترف فؤاد حداد بأنه ليس مؤرخاً، بل قارئاً جيداً للتاريخ، يطلّ من الماضي على الحاضر ليفهم المستقبل، ليخلص إلى أن لبنانَ هو قضية واحدة على مر العصور، حتى اليوم، قضية سحيقة العمق في التاريخ، وتعود إلى شعب تضرب حضارته في الأرض جذورها، عاش على الحرية، منذ أن أوجد الفينيقيون نظاماً سياسياً ديمقراطياً يقوم على الحريات الشخصية ومشاركة الشعب في الحكم. وهذا الشعب، وفق رأيه، عاش على رقعة جغرافية صغيرة فزاده ذلك تماسكاً، وجعله اقتصاده أن يلتفت إلى البحر ويعشقه، حاملاً أبجديته وتجارته ناشراً حضارته على ضفاف المتوسط، فكان وسيطاً للحضارة والتجارة، لأن البيئة الجغرافيةَ، برأي حداد، بحراً وجبلاً، بإيجابياتها وسلبياتها، هي التي صقلت شخصية شعب لبنان، بعدما تفاعل معها عبر التاريخ.

بحث في أقصاع التاريخ

عايش فؤاد حداد مراحل مفصليةً حساسة من تاريخ لبنان المعاصر وهي: الخروج من تحت الحكم العثماني، وتأسيس دولة  لبنان الكبير في العام 1920، وتوافق اللبنانيين على الميثاق الوطني في العام 1943، والحرب الأهلية في العام 1958، القصيرة الأمد البعيدة المدى بمعانيها ومؤثراتها الخارجية. وقد تأثر فؤاد حداد بهذه المراحل وتفاعل معها، إذ امتلأت بنزاعات بين اللبنانيين حول تاريخ بلدهم وشخصيته وثقافته ودوره الحضاري. فظهرت تيارات ثلاثة: التيار اللبناني الذي حاول اثبات خصوصية لبنان وتعدديته الثقافية وبالتالي هويته المميزة عن محيطه، وصولاً إلى التفتيش عن جذوره في حضارات ما قبل الإسلام وبعده. والاتجاه القومي العربي الذي رفض التعددية هذه ونادى بارتباط لبنان بمحيطه العربي، هويةً وانتماء، والاتجاه الإسلامي الذي شددَ على أثر الإسلام في العروبة وارتباط لبنان بالعالم الإسلامي. هذه التيارات، ظلت تطفو على السطح وتخبو إلى أن تمكن اللبنانيون من عقد تسوية فريدة تتعلق بإدارة تعايشهم في العام 1943 (الميثاق الوطني). لكن عدم تطويرِهم صيغة تعايشهم هذه، وقيامِ الكيان الصهيوني في فلسطين، وهبوب رياح الأحلاف والناصرية على بلدهم من منتصف الخمسينيات، والوحدة المصرية – السورية، أعادت من جديد الصراعات الطائفية السياسية في لبنان التي تتغذى من الطائفية المجتمعية. فدخل لبنان في حرب داخلية في العام 1958، ما أن انتهت، حتى توقف فؤاد حداد عن العمل، قلباً وقلماً، لكن ليس فكراً. فخاطبه صديقه إدمون رزق في أسبوع اختطافه بالقول: “فأنت لم تمت عن نفسك، ولا عناً، بل عن لبنان، عن كل لبنان، عن تاريخه ليبقى، وعن حاضره ليستمر، وعن غده لكي يتمجد”. وربما، من أجل هذا الحاضر والمستقبل، وضع جوزيف أبي ضاهر كتابه المميز هذا. كتاب يحفر بعمق وبموضوعية في فكر فؤاد حداد الذي سعى بدوره للتفتيش بعمق في أقصاع التاريخ عن أساسات هذا الكيان الذي أحبه حتى الثمالة. كتاب ينظر إلى الماضي ويطل منه على واقع لبنان، على قضية هي نفسُها عبر التاريخ، قضية حريته ورقعته الجغرافية الصغيرة، واقتصاده القائم على التجارة والمبادرة الفردية.FouadHaddad.j-1pg

في الكتاب بين أيدينا، حاول الأستاذ جوزيف أبي ضاهر أن يستخلص آراء فؤاد حداد وثوابته تجاه لبنان تحت عنوان “فؤاد حداد والقضية اللبنانية”، وذلك من خلال كتابات الأخير ومحاضراته العديدة، معتمداً منهجية الاقتباس عن حداد، والشرح والسرد التاريخي للأحداث والوقائع، سواء في المتن أم في الحواشي، وقد وفق المؤلف في ذلك. في كل صفحة من كتابه عن فؤاد حداد، يشعر القارئ  بهاجس الخوف عند حداد، وربما عند المؤلف نفسه، على الكيان الصغير، وبأحاسيس مملؤة بالرفض والتحدي وبالعنفوان والوطنية، حتى أن مصطلح الحرية لا يغيب عن صفحة واحدة من صفحات الكتاب. فيعتقد حداد عن حقّ أن جغرافية لبنان شكلت في الماضي كما اليوم عائقاً في وجه الحفاظ على استقلاله، من جراء غزاة يستبحونه، كونُه معبراً لهم من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال، وغزاة يأتونه من البحر.

وفي تاريخ لبنان المعاصر، انصب قلق فؤاد حداد على لبنان، من غزاة  يأتونه من الشرق أو من الجنوب، ما قد يُفقده استقلاله وسيادته، بل حريته، قاصداً بذلك قومية عربية تريد أن تُلحقَه بها، و”جار” صهيوني يريد أن يبتلع أرضه ومياهه ودوره الحضاري وانجازاته. فيدعو إلى الصمود لمواجهة الخطر معولاً على الشباب، فيقول: “إذا توقف اللبنانيون عن تنفس الحرية، فقدوا مغزى رسالة لبنان. فلا قيمة لاستقلال أي وطن من دون أن يكون هناك شعب حر”، واستقلال لبنان وحريته، هي برأيه، مسؤولية الشباب.

حرية مفقودة

وبكل الأسف والأسى، أثبتت الأحداث التي عصفت بلبنان منذ الخمسينيات من القرن الماضي وحتى اليوم، صحة مقولاتِ حداد وصوابها. فعندما فقد لبنان حريته وقدرته على اتخاذ قراراته بنفسه، أي عندما فقد “ديمقراطيته التوافقية” التي اشتهر بها، استبيح من قبل الفلسطيني والسوري والأجنبي والإيراني، حتى الانتداب الفرنسي الذي ترك لنا حضارة وإدارة، لم يسلم من نقد فؤاد حداد. فهو يرفض أي حكم أجنبي على لبنان، سواء أتى من الغرب أو من الشرق، لسبب بسيط أنه يُفقد لبنان قضية الحرية. إن الكثير من مخاوف فؤاد حداد حول الكيان والحرية تحققت من دون أن يعايشها، فحاولت الناصرية أن تلحقه بها، وغزاه النظام السوري من الشرق في العام 1976، بالتوافق مع الأميركي والإسرائيلي، وكذلك عندما أُجتيح من الجنوب على يد العدو الإسرائيلي أكثر من مرة.daher

ليس الغزو العسكري الخارجي فحسب ما أخاف فؤاد حداد على قضيته، وحتى جوزيف أبي ضاهر، وأنا كذلك، بل تغلغل ثقافات دخيلة إلى لبنان. فعندما يرهن قسم من اللبنانيين أنفسهم لخدمة الخارج، تصبح قضية الحرية في خطر: عروبةٌ تخلط بينها وبين الإسلام، وإسلام أصولي يريد أن يقضي على “الأخر” المختلف، سواء أكان مسلماً أم مسيحياً، وصهيونية تريد أن تبتلع الأرض والمياه في الجنوب وما حققه لبنان من إنجازات على صعيد المنطقة والدور الحضاري. لقد استشعر فؤاد حداد خطر إسرائيل على لبنان، واعتبرها المنافس الأول للبنان في ميادين الأعمال والمال وحتى في انتاج الحضارة. فطالب بأن يعي اللبناني حقيقة هذا الخطر وأن يكون مسؤولاً عن مواجهته. وبالاستناد إلى فكر فؤاد حداد، يمكن أن نضيف خطر الولي الفقيه الذي يحتل اليوم شريحة مهمة من اللبنانيين، ويريد أن يجعل من جنوب لبنان جبهةً عسكرية للدفاعِ عن ملف بلاده النووي، وحتى مدرجاً لطائرات التجسس الإيرانية.

ويعتبر فؤاد حداد أن مواجهة هذه الأخطار، منفردة أو مجتمعة، هي مسؤولية جماعية تقعُ على عاتق كل لبناني آمن بقضية لبنان، بغض النظر عن طائفته. وفي هذا السياق، يرى أن الفينيقيين ليسوا شعباً جديداً حلّ مكان شعب قديم، بل استمروا هم ذاتهم، وأن المسلمين ليسوا شعباً غريباً قدم إلى البلاد، ولا الموارنة شعباً غربياً ولا الدروز كذلك. فالعقائد، برأيه، هي التي قدُمت من الخارج وحلت محل عقائد أخرى. ويخلص إلى أن اللبنانيين شعب واحد منذ أن سُكنت هذه الديار، فصار فئة منه مارونيا، وفئة مسلماً وفئة من الدروز.

ومن يطلع على الكتابِ يدرك أن فؤاد حداد، سواء اتفق معه أم اختلف، صاحب قضية حملها بقلمه وفكره وبمواقفه الناقدة وبدمه حتى الشهادة. فألف شكر للصديق جوزيف أبي ضاهر الذي أضاء على فكر فؤاد حداد بمؤلف علمي رصين، وأنا لا أشك لحظة أن قضية حداد هي نفسها قضية أبو ضاهر وكل فرد منا هنا وهناك، هي قضية واحدة، القضية اللبنانية التي تمر اليوم في أصعب مراحلها.

 (*) محاضرة ألقيت في الندوة حول كتاب ” فؤاد حداد والقضية اللبنانية” من تأليف جوزف أبي ضاهر، جامعة سيدة اللويزة – لبنان

 كلام الصور

1- فؤاد حداد

2- غلاف الكتاب

 

اترك رد