د. حمادي المسعودي (*)
”الفريق الإسلامي المسيحي للبحوث“ هو فريق بحث في الديانتين الإسلامية والمسيحية، يتكوّن من أصدقاء بحّاثة من مسلمين ومسيحيين؛ نَهَضَ تجمّعهم سنة 1976 بعد ندوة طرابلس(ليبيا) مباشرةً، وكانت الندوة تدور حول موضوع ”الحوار الإسلامي المسيحي“. وقد فكّر بعض الباحثين المشاركين في هذه الندوة في إمكان إقامة نوع جديد من اللقاءات الفكرية الدينية، ورأى هؤلاء أنّ الأمر مرغوب فيه وجدير بالاهتمام.
في ظرف سنة اجتمع خمسة عشر فرداً أصدقاء مسلمين ومسيحيين ينتمون إلى بلدان مختلفة، في مدينة فوكلوز (Vaucluse) في فرنسا، على هامش ندوة ”اليهودية والإسلام و المسيحية“ المنعقدة في نوفمبر 1977.
تدارس أعضاء المجموعة مشروع تكوين فريق بحوث إسلامية مسيحية. ثمّ أعدّوا نصّاً يضبط ”التوجّهات العامّة من أجل حوار حقيقيOrientations générales pour un dialogue en vérité“، واقترحوا موضوعات للدراسة، منها موضوع ”الكتاب“ و”الكتب المؤسِّسة للديانتين المسيحية والإسلام“ و”العقيدة والسياسة“. لكنّ الموضوع الأوّل هو الذي استقطب اهتمام الحاضرين، وحظي بالقبول، فوُزّعت الأعمال على باحثين من تونس والجزائر والمغرب وفرنسا، وجاءت المحاور على النحو التالي:
-كلام الله، القراءة، الكتاب.
2-التفاسير المسيحية والإسلامية.
3-تقبّل المؤمن و الجماعة في الزمن الحاضر للكتاب.
4-كتاب البعض من زاوية نظر الإيمان لدى الآخرين: القرآن في منظور المسيحيين والكتاب في منظور المسلمين.
ومن أبرز مؤلّفات الفريق: “هذه الأسفار التي تسائلنا، الكتاب والقرآن (1987)Ces Ecritures qui nous questionnent, la Bible et le Coran“؛ ”الإيمان والعدالة (1993)“ Foi et justice؛ ”التعدّدية واللائكيّة (1996)”Pluralisme et laÏcité“؛ ”الخطيئة والمسؤولية الأخلاقية في العالم المعاصر(2000) Péché et responsabilité éthique dans le monde comtemporain“
شروط الانتماء إلى الفريق
يُشترط في الانتماء إلى هذا الفريق التكوين الجامعي الحديث حتّى يتيسّر التعاون بحسب منهج مشترك، و يُطلب كذلك البُعدان: النقد والموضوعية، وفي هذه الحال ينبغي التخلّي- قدر المستطاع- عن الأفكار المسبقة.
وتُطلب الصداقة-كذلك- في المنتمي إلى الفريق لأنّ الصداقة تضمن حرّية التعبير والصراحة وتجنّب العداء والخطاب السجالي. فالمرء لا يكون صريحاً تمام الصراحة إلاّ عندما يكون وسط أصدقائه، وأصل نشأة هذا الفريق هو تجمّع أصدقاء مسيحيين ومسلمين. و يمكن أن نذكر من الشروط ما يلي:
-التكوّن في متطلّبات البحث العلمي.
-التكافؤ في العدد بين المسلمين والمسيحيين.
-الإلمام بالمناهج والطرق الجديدة في البحث.
-عدم وجود تمثيل رسمي لأيّ سلطة: وهذا الشرط يعني أن يكون عمل الفريق بحثاً علمياً خالصاً بعيداً عن التجاذبات السياسية. فالطابع الخاصّ غير الرسمي هو الذي يضمن حرّية البحث.
– المعرفة الكافية بالتراث الديني لدى الآخر: إذ إن أعضاء الفريق واعون تمام الوعي بأهمّية المعرفة الشاملة للدين على المستويين: مستوى ديانة الذات ومستوى ديانة الآخر، لأنّ الدراسات الدينية القديمة و الحديثة غلب عليها جهل الأنا ديانة الآخر. وكان أعضاء الفريق واعين بالمناهج العقيمة التي عالجت الظاهرة الدينية، وهي مناهج لم يستطع أصحابها دراسة الظاهرة دراسة علمية موضوعية بسبب تدخّل الحسّ الديني لدى الدارس، لذلك غلب على هذه الدراسات الجانب الدفاعي والتبريري والتمجيدي. ويمكن أن نلاحظ هذا العيب في أغلب ما كُتب في الثقافة العربية الإسلامية(انظرعلى سبيل المثال في مؤلّفات أحمد شلبي).
إنّ الظاهرة الدينية لم تُعالج مستقلّة عن الحسّ الديني لدى الدارس، فالإسلام نُظِرَ إليه في الغرب من منظور مسيحي (مدى تطابق الإسلام مع المسيحية)، والمسيحية نُظر إليها من خلال القرآن (مدى مطابقتها للقرآن). لذلك كان كلّ دارس يتّخذ نصوصه الدينية مقياسًا يقيس به دين الآخر. لكن ألا يمكن أن يُطلب من المنتمي إلى هذا الفريق أن يكون حاذقاً للغة الآخر حتى يتيسّر التواصل من ناحية و يتمكّن الدارس من قراءة النصوص في لغة أصحابها؟ من المعروف أنّ أغلب الدراسات الاستشراقية التي كُتبت عن الإسلام كانت تعتمد القرآن المترجم، فهل استطاعت تلك الترجمات أن تنقل بدقّة معاني القرآن؟ ألم تكن ترجمات القرآن في أغلبها غير وفيّة للنصّ الأصل؟ ألم تكن لغة القرآن عصيّة الفهم على أهل لغة الضاد؟
– الاحترام المتبادل بين أطراف الحوار: تقوم العلاقة بين طرفيْ الفريقين على الاحترام المتبادل لدى كلّ منهما لعقيدة الآخر “فالمسيحي لا يطلب من المسلم أن يؤمن بالعقيدة المسيحية القائلة بألوهية المسيح. والمسلم لا يطلب من المسيحي أن يعترف بأنّ القرآن هو خاتم الوحي وبأنّ محمدًا هو خاتم الأنبياء”. فالحوار بين الطرفين لا يعني تخلّي أحدهما عن عقيدته. وقد أكّد نصّ التوجّهات أنّ أعضاء الفريق مخلصون لعقيدتهم منفتحون على عقيدة الآخر، وهم لذلك يرفضون أيّ شكل من أشكال التوفيق بين الديانتين، هذا التوفيق الذي يرمي إلى طمس الاختلافات الجوهرية بين الديانتين.
هدف الحوار بين الأطراف
إنّ هدف الفريق لا يتمثّل في محو الفوارق ولا في التقليل من شأنها ولا في السكوت عنها، بل يتمثّل في الاعتراف بهذه الفوارق باعتبارها حقيقة قائمة وفي وضعها موضعها الحقيقي. يعلن الفريق أنه لا يعمل على التوفيق بين أشياء لا يمكن التوفيق بينها، وهو لا يعمل على محو الفوارق الجوهرية ولا على البحث عن حلّ وَسَطٍ قد يوفّق بينها على حساب الحقيقة، وهو أمر يدلّ على وعي أعضاء الفريق بالتباين الجوهري بين مقولات الديانتين المسيحية والإسلام و يجعلنا نتساءل: لماذا هذا البحث المضني الذي ينهض به أعضاء الفريق طوال سنوات عدّة إن لم يكن من أجل تقريب وجهات النظر بين الطرفين؟ لذا يمكن أن نقول إن الهدف من هذه اللقاءات والحوار يكمن في السعي الجادّ لدى الطرفين إلى تبيّن حقيقة الديانة المسيحية من جهة وحقيقة الدين الإسلامي من جهة ثانية، وإن هذا السعي ينمّ عن سوء فهم لكلتا الديانتين لدى الطرفين، بخاصّة إذا وضعنا في الاعتبار علاقات العداء والتطاحن التي سادت العصور الماضية بين المسيحية والإسلام وبلغت ذروتها أثناء الحروب الصليبية، ولا نعتقد أن مراحل العداء كانت غائبة عن أعضاء الفريق، فهي حاضرة في الذهن، نلمس تجلّيَها منذ الأسطر الأولى في مقدّمة كتاب ”هذه الأسفار التي تسائلنا، الكتاب والقرآن“. فعمل الفريق ينطلق من وعي أعضائه بالفوارق بين الديانتين، ووجود مثل هذا الشعور لا يخيف أصحابه لأنه سيكون مدار بحث وحوار بين الطرفين، والمهمّ بالنسبة إلى أعضاء الفريق أن لا تكون الفوارق خاطئة أو متوهّمة. و قد عبّر أفراده عن هدفهم فقالوا إنه يكمن في تحديد التباعدات الجوهريّة (Divergences essentielles) أينما توجد فعلاً، وليس أين توضع في غالب الأحيان انطلاقاً من مواقف متصلّبة.
إنّ هذه الفكرة تؤكّد من جديد أن التباعد بين المسيحية والإسلام لم يكن في الغالب قائماً على أسس سليمة. ويصرّح أعضاء الفريق أنّ التباعد لا يقوم فقط بين المسلمين من ناحية والمسيحيين من جهة ثانية، وإنّما يمكن أن يقوم بين المسلمين في ما بينهم وبين المسيحيين في ما بينهم. فالتباعد ليس مقصوراً على ديانة مقابل ديانة أخرى لأنه يمكن أن يوجد داخل الدين الواحد (السنّة والشيعة في الإسلام و الكاثوليك والبروتستانت في المسيحية).
إن أعضاء الفريق واعون بأنهم يعيشون عصر التقاء الثقافات والتقارب بين الناس وأنّ كل فرد مدعوّ إلى تحليل جديد لأسس عقيدته وإلى المعالجة النقدية لتطوّر سنّته الدينية. هذه المعالجة، وهذا التحليل لا يمكن أن يتمّا في إطار دائرة مغلقة. إذ تدعو مقتضياتُ العصر الجميعَ إلى قبول النظرة الناقدة بحيث لا يمكن لأحد أن يعرف نفسه حقّاً ما لم يُعر اهتماماً لنظرة الآخر نحوه. لكن هذه النظرة لا ينبغي أن تكون تمجيدية أو سجالية.
إن مشروع الفريق مهمّ لأنّه خطّط لدراسة الظاهرة الدينية في الإسلام وفي المسيحية دراسة جديّة وصريحة تنأى عن الصياغات الكلاسيكية، وتقترح منهجاً جديداً في معالجة المسائل. وإذا كان للمشروع من أهمّية، فلأنّ أصحابه مستقلّون في الرأي، غير تابعين لأيّ سلطة أدينيةً كانت أم سياسيةً. وهو مهمّ كذلك لأنه يسعى إلى إبراز الفوارق بين الديانتين لدراستها من دون أن يَعْمَدَ إلى طمسها أو التقليل من شأنها أو التوفيق بين متناقضاتها. وقد وعد المنتمون إلى الفريق بأن تكون الدراسة معمّقةً قائمةً على الاحترام المتبادل لعقيدة كلّ طرف، نائيةً عن المنزع التمجيدي والسجالي الغالب على جميع الدراسات الدينية المعاصرة.
****
(*) مدير مدرسة الدكتوراه – جامعة القيروان- تونس.
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق.