د. محمد حلمي عبد الوهاب (*)
هل كان تساؤل ”الهوية“ حاضراً بذاته يمثّـل هاجساً رئيساً لملايين الشباب المصري الذي انتفض ضدّ نظام مبارك في الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) 2011، وضدّ جماعة الإخوان في الثلاثين من يونيو (حزيران) 2013؟ أم أنّ الثورات العربية – وفي مقدّمتها الثورة المصرية – التي رفعت شعارات ”عيش، حرية، عدالة اجتماعية“ كانت بمنأى عن صراعات النخبة الثقافية والسياسية حول الهُوية المصرية، وما إذا كانت عربية أم إسلامية؟
إن التساؤلين السابقين يفتحان أبواب الجحيم السبعة أمام تساؤلات أخرى لا تنتهي تتعلّق بأزمة مجتمعاتنا العربية ما بعد ”الربيع العربي“، بخاصة في الحالة المصرية التي بدا معها سؤال الهويّة أمراً مصيرياً بُعَيْد وصول جماعة الإخوان للسلطة، وثرثرةً نخبوية في ظلّ نظام السيسي الذي هو- على ما يبدو- من دون هُويّة، بالمعنى الإيديولوجي للكلمة!
وما بين سعي جماعة الإخوان لأسلمة المجتمع والسلطة، وعودة العسكر إلى الحكم ثانية، ظلّ صراع ”الهوية“ حاضراً بقوّة يطفو على السطح حيناً، ويشتغل في الخفاء أحياناً أخرى. فهل طغى سؤال الهوية على شعارات الثورة بحيث أضحتْ نسياً منسيّاً؟
إذا رجعنا إلى السياق الثقافي التاريخي الذي ظهرت فيه إشكاليات الهوية المصرية، فإننا نلاحظ أنها تحدّدت ضمن أربعة اتجاهات رئيسة، كان لكلٍّ واحد منها وجهة نظره الخاصة، لكن ظلَّ ”الإقصاء“ و”التهميش“ حاكماً للموقف من باقي الهويات الأخرى! ومن ثمَّ، فإن إمكانية القول باشتراك هويّتين من نحو: ”العروبة والإسلام“ مثلاً، كان أمراً متعذَّراً على أتباع الفريقين.
وقد ترتّب عن تعدُّد المفاهيم المتعلّقة بدوائر الانتماء الحضارية في الحالةِ المصرية، بروز العديد من الأدوار الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة على صعيد المجتمع المصريّ. فقد عالج كلّ تيّارٍ من التيارات الفكرية المصرية الرئيسة هذه المسألة على حدة، محاولاً أنْ يَسْتجلي غوامضها ويُوضح تفاصيلها.
على أنَّ العروبة لم تُطْرَح في الحالة المصرية – كما هي الحال بالنسبة إلى المشْرق العربيّ – كقطبٍ إيديولوجيٍّ مُستقلٍّ ضِمنَ مشروعٍ لتأسيس دولة عربية حديثة تنْفصِل عن السّيادة العثمانية. وذلك بسبب السِمات الخاصة للتكوين الاجتماعيّ المصريّ، فضلاً عن تراث الوحدة الجغرافية والكيان الواحد الذي ساعد على ربط ”الفكرة القومية“ بمصر ”الوَطن“، وبمفهوم الكيان السياسيّ الجامع.
وحين قام عبد الناصر بانقلابٍ عسكريّ في يوليو (تموز) 1952، أدَّت السياسات التي اتبعتها حكومة ما سُمّي بالثورة – خلال حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي – إلى تحديد مفاهيم الفكر السياسي والاجتماعي للسُلطةِ الحاكمة. وتبعاً لذلك، أصبحت ”العُرُوبَة“ – وفي القلب منها المشكلة الفلسطينية – منهجاً أساسياً في سياسة الحكم تحدَّدت على أساسها علاقات مصر الخارجية.
وضمن هذا الإطار نصَّ دستور العام 1956، في مادته الأولى، على أنَّ مصر ”دولةٌ عربيةٌ مُستقلةٌ ذات سيادةٍ، والشعب المصريّ جزءٌ من الأمّة العربية“. وقد كان هذا الأمر جديداً على الحياة المصرية. إذ لم تكن العُروبَةُ قبل ذلك تمثّـل جزءاً من سياسة الحكم، على الرغم من عضوية مصر في جامعة الدول العربية، ودورها التاريخيّ في وضع لائحة نظامها الأساسيّ.
ومن ثمَّ، أثارَ هذا الوعي بالعروبة – في إطاره الجديد – تساؤلات كثيرة من روافد ثقافية عدّة حول حقيقة ”هُويّة المصريين“، وما إذا كانت مصر عربيّة، أم إسلاميّة، أم فِرْعونيّة – قبطيّة، أم أنها أورو – مُتوسطيّة؟! وقد أدّى ذلك كلّه إلى اصطراع تلك الروافد على الساحة الفكرية، فراح كلٌّ منها يحاول إثباتَ صحّة فروضه في ما يتعلّق بهويّة مصر صيانةً لماضيها، وحمايةً لحاضرها ومُستقبلها!
وعلى هذا انتشرت مقالات ”العروبة“، وساد الوعيُ بها مبكّراً في بدايات العام 1956 حين كتب محمد مصطفى عطا كتابه نحو وعيٍّ جديد، داعياً إلى ”قيام اتحادٍ عربيٍّ مكينٍ يواجه الأحْلاف المطروحة على الساحة العربية“.
وفي السياق ذاته كتب علي رفاعي محمدي، مفتشُ الوعظ العام في الأزهر، كتابه وحْيُ النَّهْضةِ الوطنيةِ في الخطبِ المِنبريّة، مؤكّداً أنَّ ثورة مصر أيقظت وعيَ العرب، وأنَّ المستعمر الأوروبيّ استطاع أن يُفرّق بين مَنْ جمعهم الدّين والجوار واللغة والمصالح المشتركة، لكنْ – ولأنَّ الله يأبَى إذلالَ أمّة الإسلام – فقد قيّضَ فتيّةً من شباب مصر آمنوا بها وقاموا بالثورة.
وفي العام 1957 كتب مصطفى عبد اللطيف السَحرْتيُّ كتابه إيديولوجيّةٌ عربيّةٌ جديدة أكَّد فيه أنَّ مصر وُلدت بوعيٍّ جديد بعد الثورة فنالت بجهادها الحاضر استقلالها، وعمّت أرجاءَها روحُ القومية العربية، وأنَّ الإيديولوجية العربية تتواءم مع التطوّر التاريخيّ لمصرَ وخصائصها الوجدانية والروحية والثقافية.
ولم يقف الأمر بطبيعة الحال عند هذا الحدّ، وإنما توالت الكتابات بصورة لافتة، بخاصًّة بعد إعلان وحدة مصر وسوريا في العام 1958. فظهر كتاب إسماعيل القبّاني الوحدة الثقافية العربية (1958)، وكتاب حسين نصّار مصر العربية (1960). وفي العام نفسه كتب صلاح عبد الصبور كتابه أفكارٌ قومية، وكتب علي حسني الخربوطلي المجتمع العربي. وهكذا أصبحت الكتابة عن العروبة بمثابة هاجس للمثقّفين، سواء مَن كتبوا عن إيمان بها، أو من باب الزُّلفى للوسط الحاكم!
غير أنَّ توقيع السادات اتفاقية السلام مع إسرائيل مثَّل خروجاً على الإجماع العربي الذي هزَّ بشدّة بناء الهُويّةِ العربية لمصر، حتى أنّ مصر أصبحت تتصرّف في المسائل العربية تصرُّف الدول المراقبة من الخارج.
مع ذلك، فقد صادف هذا التوجّه الجديد هوىً في نفوس بعض المثقّفين المصريين الذين استعادوا ”رابطة البحر المتوسط“ كما نادى بها طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر (1938).
وكان في مقدّمة هؤلاء حسين فوزي الذي زعم أن الصراع مع إسرائيل مجرّد صراع حضاري في المحلّ الأول بين التقدّم والتخلّف. كذلك كتب توفيق الحكيم ولويس عوض أثناء مفاوضات كامب ديفيد.
وفي موازاة ذلك، بدأ التيار الإسلامي يروّج للهوية الإسلامية، فحدث نوعٌ من التراجع لمنحنى العروبة في السبعينيات رافقه إحساسٌ بالمرارةِ تجاه موقف العرب من مصر، وشعَـر المواطنُ المصريُّ أنه في الوقت الذي أوْفَى فيه بالتزاماته العربية، لم توفِّـر له الدائرة العربية الحقوقَ الملائمة في المقابل.
كما كشفت حقبة السادات أيضاً عن خبرةٍ مهمّة في علاقة مصر بالدائرة العربيةِ. فبقدر ما كشفت سنواتُ القطيعة عن عجز العرب من دون مصر عن مواجهة المخاطر الداخلية والخارجية، أدركت مصرُ محدوديةَ المشروع الخاص بها بعيداً من أمّتها العربية.
على أن التيار الأصوليّ المتمسّك بالهوية الإسلامية خياراً وحيداً يعبّر عن الطبيعة المصرية ويحدّد علائقها بالهويات والقوميات الأخرى، أعلن رفضه القاطع لفكرة القومية، فتحدّث حسن البنّا عن ”قومية الإسلام“ في المقابل، وأدان شيخ الأزهر محمد أبو الفضل الجيزاوي ومفتي الديار عبد الرحمن قمر فكرة القومية العربية، مؤكدين أن القومية لا تكون إلّا بمقتضى الدين ليس إلّا!
وقد ظلّ هذا التجاذب ما بين الهويّتين سائداً إلى أن قامت الثورات العربية، ولم يطرح أحد حينها علائق تلك الثورات بالعروبة أو بالإسلام إلّا من قبيل الحديث عن دور الإسلاميين فيها. وحتى هؤلاء كانوا أحرص على الظهور كفصيل وطني أكثر من إظهار ولاءاتهم الخاصة. لكن ما إن وصلوا إلى السلطة – في مصر وتونس- حتى بدأت المخاوف الهويّاتية تظهر مجدّداً نتيجة تسرّعهم في أسلمة الدولة.
وما بين الخوف على انقسام الدولة، أو الوقوع في أتون حروب أهلية، وما يتبع ذلك من إدّعاء كلّ فريق أنه يعمل من أجل حماية الهوية القومية، تعرّض الانتقال الديمقراطي لضربات قويّة انتهت بوصول العسكر للسلطة في مصر، وعودة رجال بن علي للحكم في تونس مرّة أخرى، وسيظلّ الصراع على ”الهويات القاتلة“ بتعبير أمين معلوف، مجرّد لافتة يشتعِل تحتها سباقٌ محموم: عنوانه حماية المكتسبات الهُويّاتية الحضارية، وحقيقته التمسّك بالسلطة.
صحيح أن المواقف العربية الخليجية من أحداث الثلاثين من يونيو وما بعدها (وبخاصة موقفا السعودية والإمارات) قد عزّزت من فكرة العروبة في الوعي القومي المصري، لكنها في المقابل ظلَّت قاصرة على الدعم الاقتصادي، ولم تتجاوزه لخلق أطر ثقافية واجتماعية تعيد التفكير بعقلانية وروية في مسألة المجال الحيوي الذي تتحرّك فيه الهويّات القومية من دون أن تتلبّس بمخيال التجربة الناصرية، أو أن تتقوقع داخل حدود الدولة القطرية.
كما أن التفكير في العروبة، كإطار هويّاتي، لا يعني بالضرورة أن يكون على حساب أبعاد أخرى لا يمكن تجاهلها في الحالة المصرية، بخاصة أن جزءاً كبيراً من المشكلات المتراكمة كان نتيجة لتجاهلٍ كهذا، كالبعد الإفريقي وما يتعلّق بأزمة سدّ النهضة مع الدولة الإثيوبية.
ويبقى القول: إن النظام السياسي الحالي يمتاز بالسيولة في ما يتعلّق بطبيعة الهويّة المصرية، بحيث يبدو في أحيان كثيرة متضارباً حدّ التناقض، أو أنه يلعب على الأوتار كلّها من دون أن يجيد العزف عليها جميعاً، وحالة السيولة الهويّاتية هذه كفيلة بأن تضخِّم من تساؤل الأشقّاء العرب: أين هي مصر الآن من كلّ ما يجري؟!
******
(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق
(*) كاتب وباحث في الإسلاميات- مصر
*******
كلام الصور
1- مصطفى عبد اللطيف السَحرْتيُّ
2- صلاح عبد الصبور
3- من أحداث 30 يونيو