“طفولة غوركي” لمارك دونسكوي: صورة روسيا عشية التغيّـرات الكبرى

إبراهيم العريس

في تلك السنوات الصاخبة التي كان فيها الاتحاد السوفياتي قد وصل الى ذرى غوصه في الستالينية التي ibrahim arissكانت هيمنت تماماً على السياسة ولكن أيضاً على المجتمع والفن والثقافة عموماً، كان الشعار السائد يتحدث عن «رؤية واقعية الى الحياة». ولم يكن للسينما أن تشذ، إذاً، عن القاعدة. كان عليها أن تتبنى تلك الرؤية… ويمكنها في «أسوأ الأحوال» أن تمزج شيئاً من الشاعرية بشيء من الواقعية.

وهذه الإمكانية التقطها يومها السينمائي السوفياتي مارك دونسكوي، ليقدم واحداً من أعماله الأكثر نجاحاً والأكثر قوة، من دون أن يكون على تناقض مع رؤى السلطات الحزبية لما هو مطلوب من الفن. وكان سلاح دونسكوي القوي في ذلك كله، انه استند الى أدب رسمي ومعترف به والى موضوع يلقى إقبالاً، لينطلق منهما في تحقيق هذا العمل. والأدب الذي نعنيه هنا هو أدب مكسيم غوركي الذي على رغم الظروف الغامضة التي أحاطت بموته، كان يعتبر بمثابة الأب الروحي للفكر الثوري، والمثال المحتذى في عالم الكتابة الأدبية. من هنا لم يكن من قبيل العبث ان يختار دونسكوي، يومها، سيرة غوركي الذاتية ليحوّلها ثلاثية سينمائية، سيظل أولها «طفولة غوركي» أقواها وأجملها، ومن دون الاستهانة بالجزءين الآخرين الذين عاد وحققهما لكن أياً منهما لم يلقَ مثل ذلك النجاح الكبير الذي كان من نصيب الجزء الأول: «حصولي على رزقي» و «جامعاتي».

والحال ان اقتباس الأعمال الأدبية في السينما لم يكن أمراً جديداً آنذاك في الفن الروسي ثم السوفياتي، إذ نعرف أن السينما الروسية اقتبست بين 1908 و1918 أكثر من مئة عمل لتولستوي وبوشكين وتشيكوف وتورغنيف ولغوركي نفسه… لكن ذلك التيار سرعان ما هدأ، إذ اختلطت الأمور على السينمائيين بصدد رضا السلطات السياسية عن أدباء الماضي، أو غضبها عليهم. وهكذا كان على السينما أن تنتظر بعض النجاحات الأدبية / السينمائية («الأم» عن غوركي نفسه، مثلاً) قبل ان تستأنف تلك الحركة. غير ان الجديد في «ثلاثية» مارك دونسكوي كان أن العمل لا يقتبس رواية، بل سيرة ذاتية، ومن هنا كان غوركي، في ذلك الحين، واحداً من قلة من مبدعين تتنطح السينما للحديث عنهم، بعدما كان مثل هذا الحديث وقفاً على الزعماء السياسيين أو التاريخيين، أو ملكاً لـ «الشعب وجموعه البطلة»… أو حتى حين يراد تقديم فيلم عن شخصية ما، سياسية كانت أو غير سياسية، يقتبس العمل من سيرة تاريخية لا من سيرة ذاتية. ومن هنا كانت الغرابة الأساسية لهذا العمل، ناهيك بجاذبيته التي لم تكن في حاجة الى تأكيد.guilaf toufoulat gorky

 مهما يكن من أمر فإن علينا هنا أن نتنبه هنا الى أن كتب غوركي الثلاثة لا تحتوي في حقيقتها وفي سياقها الأدبي نصاً ينقسم تدريجياً الى ثلاثة تواريخ: تاريخ طفل، ثم تاريخ مراهق فتاريخ رجل… بل هي أشبه بلوحة عريضة رسمت عليها حياة البائسين وتاريخ الحياة في روسيا طوال قرن بأكمله من الزمن… وكل ذلك في سياق حبكة تتحلق من حول طفولة اليوشا بيشكوف (الاسم الحقيقي لغوركي) الضائعة بين جد قاسٍ وجدة شاعرية السمات طيبة القلب. وكان من الواضح ان هذا ما أتاح للكاتب أن يصف الناس والأهل والغرباء وتنوعية البشر، في الريف أولاً ثم في المدينة و «الجامعة» وما الى ذلك.

 عندما نقل مارك دونسكوي هذا العمل الى الشاشة الكبيرة، ظل متمسكاً بأفكار غوركي بالطبع، لكنه حرص على ألا يجعل من الكاتب، طفلاً أو رجلاً في ما بعد، محور الأحداث. فآليوشا بيشكوف هنا «شاهد وليس بطلاً» كما يقول لنا مؤرخا السينما السوفياتية جاين ولودا شنيتزر… أما الأبطال الحقيقيون، في «طفولة غوركي» كما في الجزءين التاليين، فهم الجد والجدة وطباخ السفينة سمورني والكواءة ناتاليا، ورسامو الأيقونات، وغيرهم من شخصيات غريبة وأصيلة في الوقت نفسه، طبعت مخيلة الكاتب وشكلت أجواء حياته منذ طفولته.

 أما «طفولة غوركي» الفيلم الذي نحن في صدده هنا فتبدأ أحداثه في الحي العمالي بمدينة نجني – نوفغورود حوالى العام 1880، حيث كان والد ألكسي (اليوشا) بيشكوف قد رحل، ما جعل أمه تصطحبه لكي يقيما لدى جديه اللذين يعتاشان من إدارة مصبغة في الحي. ولم تكن الحياة سهلة هناك في ذلك الحين، ذلك أن عصبية الجد كانت شديدة الارتفاع وإذ كان يعتبر نفسه الآمر الناهي ولا يتردد في استخدام السوط لفرض النظام في المكان… وكان الأعمام القساة يشاركون والدهم سيطرته التي يقع ضحاياها العمال الفقراء وبينهم من هو أعمى، يطرد من عمله، ومن هي غير قادرة على إطعام أطفالها مهما اشتغلت. وفي وسط هذا المناخ البائس، الذي يراقبه الطفل منهكاً حزيناً، لا يكون له من سلوى سوى جدته الطيبة التي تحاول بابتسامتها زرع شيء من الحبور في المكان. وكأن ذلك البؤس كله لم يكن كافياً، فيحدث ذات يوم أن يندلع حريق يقضي على مصدر عيش العائلة، ما يوردها موارد الإفلاس والفقر المدقع. أما الفتى اليوشا، فإنه إذ يجد أن أحداً لا يهتم به أو يلقى اليه بالاً، ينزل الى الشارع حيث يعيش على سجيته. وهناك يرتبط بصداقة مع مجموعة من «الزعران» الطيبين. ثم يتعرف الى جار يعلمه القراءة والكتابة ويلقمه الأفكار الثورية معلماً إياه كيف ينظر الى العالم… وحين يشعر اليوشا ان هذا كله قد قوى شخصيته وجعله قادراً، الآن، على الاعتماد على نفسه، نراه يرحل، في آخر مشهد من هذا الجزء الأول من الثلاثية، نحو مصيره.

 وفي الجزءين الثاني والثالث اللذين حققهما دونسكوي تباعاً خلال العامين التاليين لتحقيقه «طفولة غوركي» عام 1938، يطالعنا آليوشا، كما في ثلاثية السيرة الذاتية لغوركي، مراهقاً أول الأمر، يجابه قسوة عالم العمل والجهد، ثم يطالعنا لاحقاً وقد قرر ان يستأنف دراسته الأولية التي كان حصل عليها بفضل جاره الثوري في الجزء الأول… لكنه يكتشف انه لا يمكنه حتى أن يتعلم وهو خاوي الوفاض، ومع هذا يثابر ويجتهد وقد هجس بفكرة لن تبرح باله أبداً: فكرة تقول إن العالم يجب أن يتغير… لكنه لن يتغير من تلقائه. وهكذا ينطلق في حياته، بين العلم والعمل، تاركاً المجال واسعاً لمواهبه وإيمانه بمستقبل الناس.

 هنا لا بد من أن نقول إن الفيلم ما كان له أن يتحقق، في أجزائه الثلاثة، لولا أن استوديو خاصاً بإنتاج الأفلام للأطفال، هو الذي تبناه وانتجه على اعتبار انه عمل تعليمي موجه الى الصغار والمراهقين. ومن هنا اتسم السيناريو بقدر كبير من الشرح والحس التعليمي… غير أن هذا لم ينقص من قيمته. بل جعله، وكما يقول الناقد الفرنسي كلود بيلي: «ينطلق من نظرة غوركي الاستعراضية التي أتت في الكتب على نمط لوحات اميل زولا الاجتماعية، ليصل الى صورة اجتماعية حادة لها قوة أعمال تشارلز ديكنز».

ذلك أن ما في الفيلم هو العالم القديم، بكل ما فيه من قسوة وظلم وعنف، منظوراً اليه بعيني طفل يعيش ضروب بؤسه لكنه آلى على نفسه أن يغير ذلك كله. ولقد نجح الفيلم تماماً في هدفه هذا، وإن كان النقاد قد فضلوا دائماً الجزء الأول على الجزءين الآخرين… ذلك أنه اتسم، دونهما، بقدر كبير من الشاعرية ولا سيما انطلاقاً من مشاهده الطبيعية ودفء المشاعر الإنسانية الإيجابية التي جعلت منه أشبه بأن يكون عملاً ينتمي حقاً الى الرومانطيقية الثورية على طريقة غوركي المعهودة.

 ومارك دونسكوي (1901-1981) المعتبر أحد كبار الشعراء في السينما السوفياتية، كان على الدوام معجباً بأدب غوركي، ومن هنا نراه يعود عام 1954 الى اقتباس روايته «الأم» في فيلم جديد، كما اقتبس عام 1959 نصاً آخر لغوركي هو «توماس غوردييف»، ومن بين أعماله المشهورة الأخرى «الحصان الذي يبكي» (1959) لكن أياً من هذه الأعمال كلها لم يرقَ الى مستوى «طفولة غوركي» الذي يظل واحداً من أكبر الكلاسيكيات في السينما السوفياتية.

****

(*) جريدة “الحياة” الأربعاء، ٢٥ مارس 2015

اترك رد