اللغة العربيّة الجامعة بين الهويّاتيّة والأداتيّة

د. عبد القادر الفاسي الفهري

نشأت اللغة العربية أوّل ما نشأت في مهد تشكّلها لغة جامعة مشتركة koinè ، وحّدت لهجات قبلية abdel kader al fahryمتباينة، في الأسواق الأدبية والتجارية الجاهلية، قبل أن تأخذ الدولة الإسلامية في الخلافة الراشدة وبعدها على عاتقها مهامَّ مَعْيَرتها وكتابتها، ابتداءً من عهد الخليفة عثمان (بعد أن كانت لغة شفوية بالأساس، غير مكتوبة بحرفها، وغير مُعيَّرة)، أو أمْرَ تعريب الإدارة والدواوين في عهد عبد الملك بن مروان (بعد أن كانت لغة الإدارة باللاتينية، أو الفارسية، أو القبطية)، إلخ.

… وحدث أن قام النحاة بتقعيدها، ابتداءً من القرن الثاني للهجرة على الخصوص، وقامت سياسةٌ لتعريب العلوم الدقيقة والفلسفة وترجمتها والتأليف فيها في العصر العباسي بخاصّة، ومَأْسَسَة هذه المهام في ”بيت الحكمة“ أيام المأمون، إلخ. فبإرادة قويّة من الخلفاء والدولة، تحوّلت اللغة العربية إلى لغة ”معيارية“ مقعّدة standard ، ولغة العلوم والفلسفة، ولغة العلوم الشرعية والكلامية، بعد أن كانت لغة الشعر على الخصوص، واللغة التي نزل بها القرآن، وتحوّل تاريخها ومصيرها لتنتشر في الأقطار والأمصار التي لم تكن تربطها بالعروبة الأولى أيّ رابطة تُذكر. لقد أصبحت اللغة العربية لغة الدولة في الإدارة والتعليم والقضاء ونشر العلوم والفكر والآداب بكلّ الأنواع، ونافست وحلّت محلّ لغات حضارية متمكّنة وسابقة مثل الإغريقية والهندية والفارسية واللاتينية والآرامية، من بين لغات أخرى. وبموازاة انتشار اللغة العربية فيما أصبح يعرف بالبلاد العربية- الإسلامية، ما فتئت العربية أن تبوّأت دور لغة ”حرّة مشتركة“ lingua franca، يتمّ بها التعامل والتبادل في مناطق غير عربية وغير إسلامية، في جزء من أوروبا مثلاً، خلال الفترة الأندلسية الزاهرة، فاستخلفت اللاتينية في البيئة المتوسّطية في عدد من الأدوار الإشعاعية، إلخ.

ولأن العربية توسّعت في رقعتها وأدوارها ومهامها، تاريخاً وجغرافية، فقد ابتعدت تدريجياً عن ”الفطرية“ nativeness، اللصيقة بـ ”البدو“ و”الأعراب“ (والمتجذّرة في قبيلة أو قبائل معيّنة دون أخرى، حتى داخل الجزيرة)، لتصبح لغة الجماعة الواسعة الكبيرة، التي ضمّت أقلّية صغيرة من الفطريين وغالبية كبيرة من غير الفطريين الذين نطقوا بها وبلسانهم الفطري، الكردي أو الأمازيغي أو القبطي، إلخ، وتوسّع معجمها (ونحوها هامشاً) ليُدْمِجَ المقترضَ الدخيل والقوالب غير المعهودة، وكلّ ما يتطلّبه وضعها المعياري الرسمي الجديد.

لقد تخلّت العربية الفصيحة للهجات العربية والمحلّية عن موقع الفطرية الضيّقة (ما يُنعتُ عادة بوضع اللغة- الأم، بكثير من الأَدْلَجة والمغالطة)، ولم تنزع إلى الحلول محلّها في وظائفها أو إبادتها، ولكنّها احتفظت لنفسها بالمهام والسمات المعيارية الرسمية، ولم يفكّر أيّ مخطّط لغوي عربي في التخلّي عنها أو عن جزء منها للهجات (خلافاً لما حدث في تاريخ اللاتينية التي اضطرت لأسباب سياسية أن تتعايش مرحلياً مع العاميات الرومانية في وظائف رسمية، وتتخلّى تدريجياً عن أدوارها كاملاً، بعد أن قتلتها ضراتها العامية في ذروة بناء القوميات اللغوية القطرية في أوروبا).

لقد نَمَت القومية اللغوية الأوروبية في اتجاهين: (أ) اتجاه ”طبيعي“ رومانسي عرقي، مَثَّله الألمان، وهاجسُه توظيف ”لغة الإثنوس“ ethnos ، لتشكيل ”دولة-أمة- ثقافة“ (ثقافة الأنتروبولوجي)، و(ب) اتجاه ثانٍ، هاجسه بناء ”دولة- أمة-مدنيّة“، وتوظيف اللغة لتكون لغة “الديموس” demos ، لغة التداول الدمقراطي.

وفي كلتا الحالتين، أصبح انتشار لغة الأمّة وتداولها يتنافى ووجود اللهجات التي يجب إبادتها، إمّا لكونها ”اللسان المضاد للثورة“ و”للمواطنة“ (انسجاماً مع قومية الديموس)، أو ”لدونيّتها“، انسجاماً مع تفوّق ”اللغة الطبيعية الراقية الأقوى“ (عند الألمان). وتميّزت التجربة العربية بكونها لن تعرف مشروعاً للإبادة اللغوية، أو للإرهاب اللغوي الذي تولّد في أوروبا، أو نبذ التنوّعات اللغوية، لأن تخطيط الوضع عند العرب لم يجد سنداً لذلك، ولأن القرآن نصّ على مزايا الاختلاف والتنوّع، والمساواة والعدل بين الأجناس، ولا فرق لعربي على عجمي، ولأنّ مَن تكلّم العربية فهو عربي، حتى وإن نطق بلسانه الخاصّ كذلك، إلخ.

وخلافاً للتصوّر الألماني بشأن لغتهم(ذي الطابع ”لسلالي الصافي“ والعلاقة الأقوى بالطبيعة)، وخلافاً للتصوّر الفرنسي الذي بوّأها مهمّة حمل التنوير والحقوق الإنسانية والقانون دون التنوّعات الأخرى، ليست العربية أفضل من أيّ لغة أخرى. ولئن اعتبرها المسلمون ”أفضل اللغات“، فلأنّها لغة الوحي، وليس لأنّها لغة قوم دون قوم. ولئن أجمع المسلمون على مكانتها الرمزية، وتخلّى بعضهم عن لغاتهم الأصلية احتفاءً بها، كما فعل الفرس والترك والكرد وبنو مازغ (ثم عادوا إلى لغاتهم الأصلية أحياناً بعد ذلك)، فلأنّ ذلك لم يكن بدافع القهر أو الإرهاب، وإنما بمحض إرادتهم وحبّهم لهذه اللغة وتبرّكاً بها، خلافاً لما عرفته سياسات نشر اللغة الرسمية في دول أوروبا.

وخلال مسيرتها التاريخية، اكتسبت اللغة العربية مكانة قَوَّت وجودها وانتشارها، هويّاتياً وأداتيّاً. هويّاتياً، تميّزت اللغة العربية بكونها شكّلت أمّة، ووحّدت لسانها، قطرياً وعربياً، فاكتسبت تبييئاً ترابياً قطرياً وعربياً مزدوجاً، أو ”ازدواجية ترابية“، بعد أن أصبحت ”لغة رسمية وطنية“ في كلّ قطر عربي، ولغة عروبية ”اتحادية“ كذلك، امتدّت على ترابٍ عبر- قطري، فيما يُسمّى بالوطن العربي، المتصل جغرافياً وبيئياً، من الخليج إلى المحيط (فعلياً وافتراضياً، في أذهان الناطقين بالعربية عبر التراب). وهي اللغة الرسمية في مؤسّسات الجامعة العربية، وكلّ المؤسسات الاتحادية العربية. واللغة العربية أبرز جامعة ثقافية كذلك، بها يفكّر العرب عموماً، وبها يبدعون، وبها يصنعون الثقافة عموماً، إلخ. فالرابطة الثقافية والتواصلية قائمة عربياً، في انتظار الرابطة السياسية، الدولة الاتحادية المرجوّة، بلغة عربية موحّدة، يقع التخطيط للنهوض بمحتواها الثقافي والعلمي والسياسي باستمرار، كما يقع التخطيط لتقوية فطريّتها (عبر إدماج روافد العاميّات)، باستمرار، والتخطيط لتيسير اكتسابها وانتشارها، عبر آليات ووسائل تسهّل التعلّم بها، وتقوي فرص متعلّميها ومستعمليها الفطريين وغير الفطريين.

وبالنظر إلى العدل اللغوي، أي المعالجة السياسية العادلة للألسن التي يستعملها المواطنون العرب في الوظائف والفضاءات المختلفة، ما يدخل عموماً في تخطيط الوضع corpus planning، هناك ثلاثة مستويات تهمّنا باعتبار المجالات التي تنطبق فيها: (أ) المحلّية، و(ب) السلالية، و(ج) الكونية.

(أ‌) علائق اللغات فيما بينها داخل التراب الواحد، بالنظر إلى الوضع الترابي والهوية الرسمية، إلخ. ويمكن الحديث هنا عن ”عدالة لغوية محلّية“ domestic، أو ”لغوية بينيّة“ interlinguistic. فالمواطن ”المحلّي“ منشغل باستعمال اللغة الأكثر ارتباطاً بالأرض، وباختيار الدولة إياها لساناً للمؤسّسات الرسمية على نطاق كامل التراب، في نظام ”ترابي“. وهذه اللغة هي لسان الديموس المحلّي، والتواصل والتداول في الفضاء العمومي، قبل أيّ لغة أخرى. فالعدالة اللغوية المحلّية تقتضي، عند المفاضلة بين اللغات المتداولة في التراب الوطني، أن تحكم لصالح المواطن بأن تتمتّع لغته الرسمية، الممثّلة لهويّته وشخصيّته الوطنية وكرامته، بكامل الدعم والخدمات العمومية عبر التراب، بما في ذلك التعليم والإعلام والإدارة والمحاكم والقضاء، وبالاستعمال والتداول في الفضاءات العمومية والمؤسّسات (مثل البرلمان أو غيره)، إلخ.

وفي كلّ هذا، تكون للغة الوطنية الوظائفُ ”العليا“ والشاملة، لتكون سيّدة ومنتشرة على أرضها، دون أن تنازعها في ذلك أيّ لغة، سواء أكانت لغة دولية، أو لغة العولمة، أو لغة ”أجنبية للانفتاح“، إلخ. فاللغات ”الأجنبية“ ليست معنيّة بمبدأ الترابية، أو مبدأ الشخصانية، إلخ. وفي حال رسمية أكثر من لغة، كما حدث في المغرب مع ترسيم المازيغية مؤخّراً، يتناوب المبدآن لإقامة نظام ثنائي رسمي متمايز differentiated bilingualism، على غرار ما يتمّ في كندا الأنجلوفونية والفرنكوفونية، مثلاً. ويمثّل مبدأ الترابية الحاجز الأهمّ أمام ”أَوْحَدَة“ العالم لغوياً uniformisation ، أي جعله يتوق إلى التكلّم بلغة واحدة مهيمنة. وهو يتيح الفرصة للغات الوطنية أن تنعم بالتوطين أو التبييئ المناسب، وبحماية فاعلة داخل حدودها الترابية، وبخاصّة في مؤسّسات التعليم.

(ب‌) علائق تنوّعات اللغة الواحدة أو لهجاته، بالنظر إلى العلائق بين الصيغة المعيارية للغة والصيغ غير المعيارية لها (اللهجات أو العاميات). ويمكن الحديث هنا عن ”عدالة لغوية سُلالية“ intralinguistic، داخلية كذلك، إلّا أنها مخصّصة لصيغ اللغة الواحدة. وتبيّن الأبحاث في العدالة المعيارية أن الحكم هنا يكون لصالح اللغة المعيارية، على حساب اللهجات العامية، لأسباب متعدّدة، هويّاتية وأداتية. فعندما يتكلّم الناس عن ”اللغة“، اللغة العربية مثلاً، فإنهم يقصدون بها عادة الصيغة المعيارية (أو الفصيحة)، المستعملة في المدرسة، وفي الوثائق والقوانين، إلخ.

والفوائد الأداتية للغة المعيارية كثيرة، من جملتها:

(1) التمكين من التواصل داخل جماعة أوسع من الجماعة التي تتكلّم لهجة دون لهجة أخرى.

(2) الدمقراطية، لأن الذين لا يعرفون اللغة المعيارية لا يستطيعون ممارسة حقوقهم السياسية كاملة، باعتبار أن النصوص القانونية تكتب باللغة الفصيحة، والتداول السياسي يستعمل المفردات والمصطلحات المعيارية،إلخ. فالدَّمَقْرطة تقتضي تعميم تعلّم وانشار الفصيحة بين متكلّمي العاميات، باعتبارها الصيغة المعياريّة للغة الديموس.

(3) النجاعة، لأن استعمال الصيغة المعيارية (بعد أن يتمّ تعميم تعلّمها) يمكّن من اقتصاد مصاريف الترجمة بين اللهجات (إذا كانت متباعدة)، ومن توسيع السوق وتوفير مال أكبر (حين يتعلّق الأمر بنشر الكتب، مثلاً، بالفصيحة، عوض العامية)، إلخ.

(4) تكافؤ الفرص، باعتبار أن الفوائد الاقتصادية- الاجتماعية داخل وخارج الوطن، وإمكانات التنقّل عبر القارة، تتاح أكثر لمستعملي اللغات المعيارية في المعاملات التجارية الدولية وغيرها، عوض اللهجات.

(5) بناء الأمّة وتعزيز التضامن والاستقرار السياسي، في مجموعات تتكلّم لهجات مختلفة، وتشترك في جماعة تتكلّم لغة واحدة.

هويّاتياً، يمكن اعتبار اللغة المعيارية أجدر بتمثيل (1) الكرامة المتساوية equal dignity و(2) الاستقلالية الذاتية autonomy، وهما الهاجسان (أو التأويلان) الأساسيان للتعاطي مع الهوية اللغوية في إطار العدالة اللغوية. فالناس يشعرون بمسّ كرامتهم حين يتعلّق الأمر باستعمال لغة أجنبية عوض لغتهم الوطنية (وبخاصّة الصيغة الفصيحة، في التعليم مثلاً)، ولا يشغلهم استعمال الفصيحة عوض العامية كمشكل كرامة. وحين طرح مشكل استعمال العامية في بعض القطاعات أو المجالات في بعض البلدان العربية، طرح كمشكل تواصل أساساً، وليس كمشكل كرامة (إلّا عند مَن خرّج ذلك على أنها لسان قومية قطرية). وأمّا عن الاستقلالية الذاتية، فإن بعض المنظّرين ذهبوا إلى أن السياق الثقافي (الذي يضمّ السياق اللغوي) شرط سابق للاستقلالية، التي تتطلّب وجود مجموعة من الاختيارات، واللغات تقوم بتوفير سياقات الاختيار. وتوفّر اللغةُ الفصيحة أكثر من اللهجة السياقَ المناسب للاستقلالية. وهكذا، ففيما يخصّ العدالة اللغوية السلالية، تأتي التنوّعات اللغوية (غير المعيارية) في درجة ثانية أداتياً وهويّاتياً.

(ج) علائق اللغات في المجرّة الكونية (أو الجهوية). ويتعلق الأمر بحقوق اللغات فيما بينها على مستوى قاري (أو جهوي). ويهمنا هنا على الخصوص النظر في أحقية المواطن في التمكّن من اللغات ذات الطاقة التواصلية الأفضل في القرية الكونية، أو في فضاء جهوي، يمثّل جزءاً من هذه القرية. إن العدالة اللغوية الكونية global linguistic justice كان ينبغي أن تفتح المجال أمام كلّ اللغات مبدئياً، وبالتساوي بينها. إلّا أن سوق اللغة الدولي، على غرار سوق المال والعملات، يتيح الفرص للغةٍ أكثر من لغة أخرى، بحسب منجزاتها، والطلب عليها. وفي سياق الأوضاع داخل السوق اللغوية، تحتسب الفوائد التي يكتسبها متعلّم اللغة من تعلّمها، مقارنةً بلغة أخرى. ولعلّ العدالة اللغوية الكونيّة تتوق إلى إتاحة الفرصة للمواطن الكونيcosmopolitan citizen (الذي ينتسب إلى ديموس كوني) بأن يتعلّم ويتكلّم لغة غير لغته المحلّية، تتناسب والفوائد الأداتية (والانتمائية) التي يجنيها من استعمالها على مستوى فردي في فضاء كوني (أو غير محلّي).

وبالنسبة إلى الدولة، ينبغي أن تتوخّى توفير تعلم-تعليم للمواطن يتمكن بموجبه من اكتساب اللغة الأكثر شيوعا وتوفيرا للفرص عالميا. وقد تلجأ الدولة إلى توفير أكثر من لغة استنادا إلى دراسة فرص النجاح التي توفرها لغات دولية معيّنة بالنسبة لمواطنيها. ويمكن تصور أن يتاح تعلم لغة واحدة، باعتبارها لغة العولمة global language بامتياز، على أساس أن الهاجس وجود ديموس كوني (نوعا ما) يتواصل بلغة واحدة (في الأغلب)، بمواطنين يتكلمون لغة القرية الكونية الواحدة (الإنجليزية على الأرجح). وقد تكون هناك لغات متعدّدة، أو أولغرشية لغوية تنوّعية محدودة (مكوّنة من خمس لغات عالمية، مثلاً)، تجد العربية مكانة طبيعية فيها، بحكم عدد متكلّميها وإنجازياتها. وأما المواطن الاتحادي، فيعتني كذلك بلغة ذات فوائد هويّاتية وأداتية في فضاء أكبر من فضاء القطر، لغة عبر- قطرية اتحادية، كما هو الشأن بالنسبة إلى اللغة العربية، لغة ”الاتحاد العربي“ المرتجى، أو لغة العروبة.

فالعروبة ليست هوية نزاعية موجّهة ضدّ الغرب (أو مستعمر الأمس الغاشم)، ولا حرباً دينية ضدّ المسيحي- اليهودي، ولو تَطَرّفَ، ولا عروبة موجّهة ضدّ لسان الكردي أو الأمازيغي أو القبطي، إلخ. إن ”العروبة جامعة في التنوّع“، وهي عروبة الفعل والتأثر والتأثير والتفاعل، وعروبة الحياة والدمقراطية والحق والقانون والعدل، والدولة والمجتمع المدنيين، بقيم المواطنة والحرية والمساواة والاستقلال الذاتي، والاختيار والممارسة والمحاسبة، إلخ. إنها فعلاً لا تتحدّد بمعارك هويّاتية قومية أو دينية لا- تاريخية. إنها اللغة، الرابطة الأولى والصامدة، ولو تغذّت في بعض أوجهها بالدين والأرض ومشترك الذاكرة والمخيال، إلخ.

إن رومانسية الإثنوس العربي الجامع لم تصمد أمام تدافعات العصر، وعولمة السياسة والاقتصاد والثقافة، ولا تحقّقت رومانسية السياسة بإعادة بناء جديدة للخلافة الراشدة أو العباسية. إن العروبة تَمَلّكٌ وتجديدٌ مستمران للانتماء اللغوي، وإعادة غربلة دائمة، ارتكازاً على جامعة اللغة التاريخية المتجذّرة، والتبييئ في الدولة المدنية الحديثة، بشروطها المحلّية والكونية، الأخلاقية والسياسية. إن الدولة ”الثقافية“ بالمنظار الخصوصي اللغوي، الذي يجعل اللغة ”مرآة للفكر“، أو ”رؤية تنسيبية للعالم“، لا يمكن أن تكون إلّا رصيداً تتقوّى به فرص التبييئ المحلّي- الكوني، الذي يُقَوّي بدوره فرص الأمّة في الحضور والتموقع، بعيداً عن الانغلاق في حدود وهمية تجاوزها التاريخ، بالنظر إلى حقّ المواطن في الحركة والتنقّل والتبادل والمعلومة عبر فضاءات القرية العالمية، من دون كوابح للاختيار والاستقلال والحرية في تحديد المناعة الذاتية والانتقاء الطوعي للأساليب، غير كوابح القانون المحلّي والدولي، وحريات وحقوق الآخرين.

إن المُلِحّ العاجل أن تقوم سياسة لغوية فاعلة، ناجعة، عادلة، ودمقراطية، ويمارس التخطيط اللغوي على الأرض، بمراعاة التوازنات الضرورية، المحافِظة على أقوى لحام عربي تاريخي وطبيعي، والنهوض به في المستوى المطلوب، وتمكين المواطن العربي من اكتساب اللغات الأجنبية الأكثر نفعاً وتداولاً في العالم، والعناية بالتنوّعات اللغوية المحلّية، بما فيها لغات الأقلّيات، والتنوّعات اللهجية المغنية، دون إشعال فتن النزاعات اللغوية ومخطّطات التفتيت، بناء على تشريعات محكمة تمكّن من التعايش في الاختلاف والائتلاف، والتداول والحوار، عوض تبديد فرص الأمّة في العيش الكريم الآمن في نزاعات وحروب غير هادفة.

لقد قطع المغرب أشواطاً لا بأس بها في رسم سياسة لغوية ذات أبعاد متعدّدة. إلّا أنه توقّف في وسط الطريق لمّا أوقف تطبيق قانون أكاديمية محمد السادس للغة العربية (الذي صدر سنة 2003 ولم يطبّق إلى الآن)، ثم بدأ يتلعثم في سياسته اللغوية في التعليم المبكر والعالي على الخصوص، وفي السياسة اللغوية الإعلامية، ولغة الإشهار والإعلان، إلخ. فلولا هذا التلعثم لأصبح بلداً يحتذى به، في نَمْذَجة السياسة اللغوية العربية التعدّدية والتنوّعية. إلّا أن قوى معادية لنهضته داخلياً وخارجياً حالت دون متابعته لمسيرته السياسية والثقافية، التي كادت أن توفّق بين مميزاته الوطنية والمحلّية ومتطلّبات انتمائه العربي والكوني.

******

(*)أكاديمي- باحث، رئيس جمعية اللسانيات – المغرب
(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

اترك رد