واسيني الأعرج: باريس لم تعد غولة ولن أنسى من كان وراء مقتل أصدقائي الأبرياءالذين لم يحملوا يومًا سلاحًا غير القلم

حوار: الأديب كمال الرياحي

تواصلت حركة السرد الروائي عند الجزائري واسيني الأعرج متنوّعة الوجوه والتشكيل حتى ظهر علينا kamal ryiahiبنصّ ملتبس مزدحم و مختلف هو “كتاب الأمير” الذي شغل الناس مدّة و نال عنه صاحبه الجوائز الكثيرة. نص خلاسي تتعالق فيه الكتابة السيرية بالروائية و التسجيلية بالفنّية لينحت تميّزه و اختلافه.

هذا النص الأدبي كان، أيضاً، مثار جدل و اختلاف ككل الأعمال الناجحة خاصة بعد أن حقق نسبة مبيعات مرتفعة في معارض الكتاب العربية و ترجم إلى اكثر من لغة حية وحصد به صاحبه على جوائز عربية و غربية .

حول هذا النص و حول شخصية الأمير عبد القادر و ما جاورها يدور هذا الحوار النهري مع الروائي الجزائري واسيني الأعرج:

كيف بدأت التفكير في كتابة رواية عن الأمير عبد القادر الجزائري ؟ ماهي المراحل الجنينية لتكوّن هذا المشروع؟ و لماذا اخترت هذه الشخصية التاريخية بالذات؟

 هذا موضوع يشغلني منذ فترة طويلة ، و ما دفعني إلى كتابة هذه الرواية أمران:

الأول :حيرتي أمام مفارقة كبرى في التعامل مع الأمير في الجزائر،فعلى صعيد الخطاب السياسي ينظر إلى الرجل باعتباره مؤسس الدولة الجزائية و بطلا من أبطالها الكبار بل هو أهمهم على الإطلاق و في المقابل لم ينجز حوله فنّيا لا مسلسل و لا فيلم سينمائي يجسد هذه الشخصية العظيمة ،هناك إذن مفارقة عجيبة بين الخطاب السياسي و واقع التعامل مع هذه الشخصية التي تكاد تهمّش . و اكتشفت أيضا أنه ليس هناك رواية حول الرجل فلا الحكومة و لا القطاع العام قدّما شيئا للرجل و لا قدّم الفرد له شيئا و أقصد بالفرد الفنّان المستقل . من هنا انطلقت حكايتي مع الأمير و بدأت بالبحث و التنقيب عن أخباره و أحواله.

أما الدافع الثاني فهو عامل ذاتي: أردت البحث عن تجربة إبداعية جديدة خارج ما اصطلح عليه بأدب المحنة الجزائرية. أعتقد أن الكاتب هو القادر على رصد الحساسيات العميقة و غير الظاهرة في المجتمع و الإصغاء إلى نبضه ،و كان بالجزائر وضع غير عادي في التسعينات هو وضع الإرهاب ،كما تعلم،لكن بعد مدّة انتهى أو خف ذلك النبض و ظهر نبض جديد متعلّق بمشكلة الهوية و الأنا و الآخر ..

 لكن مشكل الهوية مشكل أزلي في الجزائر!

 بالفعل هو مشكل قديم لكنه هذا السؤال عاد إلى المركز بشكل جديد لأنه تعلمن فالسؤال أصبح إنسانيا اليوم هذا إلى جانب رغبتي الجامحة كما قلت لك ،و هي الأساس ،في الخروج بنصوصي من مناخات الإرهاب.hiwar wasini

 كذلك الكتابة عن الإرهاب وقع استسهالها فنكاد لا نقرأ في السنوا الأخيرة و إلى اليوم إلا كتابات من هذا النوع دون أن يكون بعض الكتاب معنيين بذلك أي أنهم لم يعايشوا الإرهاب فعلا؟

هذا ما حصل و كان علي مغادرة هذه التيمة و هذا المناخ السوداوي إلى مناخ جديد أتقدّم من خلاله في مشروعي الروائي…

لماذا اخترت التاريخ لتجربتك الروائية الجديدة؟

الكتابة في مناخات التاريخ تمنحك الفرصة للخروج و للتجديد لأنك ستجد نفسك في عالم آخر.

لكن العودة للتاريخ قد تمثّل مأزقا كبيرا لأنك ستتعامل مع وثائق و حقائق و أنت تكتب المتخيل .كيف ستحوّل الواقعي إلى روائي و متخيّل دون أن تمسّ بمصداقيته؟

هذا مؤكّد، و كنت أعي خطورة ذلك ، و لكن هاجس الخروج من كتابة المحنة كان هاجسي الأول و دافعي لخوض التجربة.

ألا ترى معي أن الواقعي أيضا امتداد للتاريخي و أن ما كنت تقاربه بصفته واقعا أي الإرهاب هو امتداد للتاريخ؟

فعلا و أنا على يقين أن المآل الذي وصلت إليه الجزائر ليس سببه الراهن ،إنما هناك أشياء لم يقع النظر فيها بشكل جيّد في تاريخ الجزائر هناك أخطاء تراكمت و لم تقع مراجعتها.

الأمير جعلني أقضي أربع سنوات من البحث و القراءة و الحب بكل ما تحمله كلمة حب من تعب و جفاء و عودة و شوق …. إلى أن تحصلت يوما على وثيقة متمثّلة في رسالة تأديبية وجّهت له من نابليون الثالث يقول فيه أنه كان قد اشترط لإطلاق سراحه أن لا يحمل سلاحا فكيف يحمل ابنه محي الدين السلاح،فكأنما يقول له قد أخللت بالوعد،فيردّ عليه الأمير برسالة و هي الوثيقة،تقول: أنا أتبرأ منه هذا ليس ولدي.

صدمتني العبارة غادرت جهاز الكومبيوتر و انتابتني خيبة كبيرة ، كل الذين عايشوني ذلك الوقت لاحظوا ذلك ،و اعترفت لهم أني كنت أسير في الطريق الخطأ.

ماذا فعلت ساعتها ؟ هل أقلعت عن الكتابة؟

من حسن الحظ أنه كان لي رواية صغيرة بعنوان “أكاريا” و هي الحشرة التي تأكل الورق…

تقصد الأرضة؟

تماما الأرضة, عدت إليها لأتقدم فيها . بعد ذلك كان عندي صديق فرنسي كان يعلم انشغالي بموضوع الأمير ،حيث إنني كنت أجوب المكتبات و جمّعت حوالي ثلاثمائة وثيقة حوله ، فأهداني ذلك الصديق كتابا لقس الجزائر في عهد الأمير عبد القادر : منسونيور ديبوش و كان عنوان الكتاب : عبد القادر في قصر أمبواز” و هو عبارة عن رسالة وجها ديبوش إلى نابليون الثالث و فيها يعطي القس صورة عن الأمير مذهلة. فاستغربت من ذلك الحب و التقدير الذي كان يكنه ديبوش القس المسيحي للأمير المسلم و كيف كان يدافع عن الأمير دفاعا غريباً.

عندها تركت الأمير و أخذت ابحث في شخصية : منسونيور ديبوش فوجدت شخصية مختلفة تماما للأمير عبد القادر.

وهذا فضل الرواية التاريخية ،إنها مثل العلب الروسية واحدة تدخلك إلى أخرى فأخرى …دخلت هذه اللعبة حين أعادني منسونيور ديبوش إلى الأمير و اكتشفت حوارا للحضارات بالفعل في ذلك الزمن أي في القرن التاسع عشر. اكتشفت عقلين أدارا حوارا استثنائيا ليس فيه مكانة لثنائية :ضعيف/قوي رغم حساسية المواضيع التي كانت تناقش بين الرجلين و التي كانت تدور حول الفكر الإسلامي و الفكر المسيحي ….

هل يمكن أن نعتبر هذه الرواية منعرجا في تجربة واسيني الأعرج الروائية؟ و هل تفكّر في إعادة الكرة مع رواية جديدة تقارب فيها روائيا سيرة علم من أعلام الشرق أو الغرب؟

عمل مثل هذا مغر كثيرا ،لكنه يتطلب مجهودا و وقتا كبيرين، فكتاب الأمير تطلب مني أربع سنوات من البحث و التنقيب . فكّرت منذ مدة في سيرة شخصية عربية أندلسية و هو الشاعر ابن زمرّد، و هو شخصية استثنائية و روائية تراجيدية أيضا . كنت أرغب في الاشتغال عليها لكني اكتشفت أن الأمر سيتطلب مني الكثير من الوقت ، ربما أعود إليها في وقت آخر ، لكني باق في الرواية التاريخية فأنا أشتغل في الجزء الثاني من كتاب الأمير و متعاقد مع دار الآداب لكي أسلمها الجزء الثاني و ربما الثالث.

سمعت أنك صرّحت في ملتقى الرواية العربية في القاهرة بأنك تفكّر في العدول عن هذا المشروع؟هل هذا صحيح؟ و هل شعرت بثقل الموضوع؟

معك حقّ،هو مشروع صعب و صعب جدّا ، يحتاج إلى وقت كبير، و الحق أقول لك أني كنت اعتقد أن الرواية التاريخية ليس لها قرّاء و فوجئت بما حقّقه كتاب الأمير من نجاح جماهيري فقد كان الكتاب الأكثر مبيعا في معارض دولية للكتاب كانت دار الكتاب قد شاركت فيها.

 رغم ثمنه الباهظ؟

فعلا، فالكتاب ضخم و من ثمة كان ثمنه باهظا بعض الشيء لكن ذلك لم يشكّل خطرا على رواجه و نجاحه ، و استغربت شخصيا من هذا النجاح !ربمّا أفسّره اليوم بالدعاية التي رافقت نشره .

تقصد صدور بعض فصوله في “كتاب في جريدة”؟

أجل، لان كتاب في جريدة وزّع تقريبا في خمس و عشرين جريدة عربية أي حوالي مليوني نسخة وزّعت مجانا مع الجريدة.

هذا اعتراف المتواضع؟

 لا والله، أحاول أن افهم الأمر بموضوعية، ربّما عقلية الجامعي مازالت مسيطرة علي في تحليل هذه الموضوعات ،لأنه إذا كان عندك نتيجة فلا بد أن تبحث لها عن أسبابها المقنعة و المعقولة . أعتقد أن ذلك كان عاملا من عوامل نجاح الرواية و رواجها الكبير لأن الجريدة قدّمت ثلث الرواية و من اطلع على ذلك القسم سيبحث عن البقية التي لن يجدها طبعا إلا في نسختها النهائية.

و النقطة الثانية أن الرواية تدور حول شخصية جزائرية و عربية كبيرة تحتل مكانة مرموقة داخل نسيج المخيال الشعبي الجزائري و العربي.

ربما كان فضول القارئ أيضا سببا من أسباب هذا النجاح التجاري . فقد يتساءل هذا القارئ :ماذا سيضيف واسيني الأعرج لهذه الشخصية التاريخية التي تبدو للوهلة الأولى واضحة و مكتملة في ذهنية القارئ . خاصة بعدما سمع بقصة حوار الحضارات الذي تعالجه من خلالها.

 الحق أقول لك أن غايتي في البداية لم تكن التطرّق لحوار الحضارات أو الأنا و الآخر ،كان همي الأول كتابة رواية عن شخصية تاريخية و تراجيدية إنسانية .

إذن، كنت تعتقد أن الرواية التاريخية لا يمكن أن تنجح في العالم العربي؟

 كنت أظن أن مجهود هذا الصنف من الروايات يغطّي مردوده و عائداته لا بالمعنى المادي فقط بل بالمعنى “القرائي” أيضا ، و هذا أمر ليس بصحيح و الدليل هو نجاحه الجماهيري و التجاري فقد ترجم الكتاب بسرعة إلى الفرنسية و إلى الانكليزية . علينا ،إذن، أن نصحّح نظرتنا إلى الرواية التاريخية لأنها ليست شحيحة و لا هي بالبخيلة إنها معطاءة متى كتبت بشكل جيّد.

 كيف استقبلها الإعلام الثقافي العربي؟

حظيت الرواية باستقبال جيد من الإعلام العربي غير أن الإعلام الجزائري لم يهتم بها كثيرا ، و يمكنني تفسير الأمر بأننا منذ سنوات نعيش في الجزائر ما يسمى “الموت الثقافي” ، طبعا، كان هناك اهتمام في مدينة معسكر مسقط رأس الأمير عبد القادر و في مدينة سكيكدة و كان هناك اهتمام كبير بالرواية في فرنسا و خاصة في بوردو .

ربّما لان هذه الشخصية مرحّب بها في الغرب . هل مثّل الالتفات إليها شبهة لقلم واسيني الأعرج ؟ بمعنى تساءل بعضهم لماذا الأمير عبد القادر في هذا الوقت بالذات ؟ هل نحن في حاجة إلى رجل التسامح أم إلى رجل آخر ؟ لماذا المطلوب منا نحن العرب دائما أن نتعامل مع الغرب حضاريا في الوقت الذي يتعامل هو معنا بوحشية و بربرية؟

 أنا لست مؤّرخا ، لكنّي أكاد اجزم أنّي قرأت أهم ما كتب حول الأمير و وجدت فيها وجهات نظر مختلفة حوله فالمدرسة العسكرية الفرنسية تراه مجرما و نظرة فرنسية أخرى ترى العكس و حتى في الجزائر فإن هناك من يراه خائنا أو متساهلا مع فرنسا و طرف آخر يراه بطلا عظيما أما النظرة الانكليزية فتراه وسيلة هامة لدخول الجزائر ،فقد كانت لبريطانيا أطماع في الجزائر و قامت ببعض الهجمات صدّها الأتراك كما تعلم في ذلك الوقت. من هنا جاءت خصوصية شخصية الأمير و خطورتها لأنها ليست شخصية مسطّحة متّفق عليها بل هي شخصية مركّبة وخلافية . هذا التناقض هو الذي سيشكّل الاختبار الحقيقي بالنسبة للروائي ، كيف سيحوّل تلك الأخبار و تلك الوقائع و ذلك التناقض إلى متخيّل و نسيج سردي محبوك ، هذا كان رهاني.

خلاصة الأمر أنّي رأيت في فترة من الفترات أن الأمير شخصية لم يقع التعرّض إليها بشكل جيّد و لم تفهم جيّدا فهي شخصية يمكن قراءتها في مستويين : مستوى الحرب: ظل الأمير يقاتل و يجاهد مدة 17 عاما بسلاح تقليدي و في قمة الجبال و هو رجل دولة بمعنى رجل سياسة و تفاوض : اختار مسلكا خاصا ، أكن له احتراما كبيرا ، و لكن دفعني هذا الاحترام إلى أنسنة هذا الرجل الذي تأسطر و هذا كل مجهودي في كتاب الأمير .

كان جزءا من عملك إذن إعادة الواقعي إلى هذه الشخصية التي شطح بها الخيال الشعبي بعيدا ليؤسطرها، أذكر انه كان المخيال الشعبي الجزائري يربط بين عبد القادر الجيلالي و الأمير عبد القادر و هذا أضفى على شخصية الأمير قدسية و هذا بلا شك شكّل مأزقا آخر لك؟

كلامك صحيح و دقيق تماما، حدث هذا في المخيال الشعبي، فقد كنت أمام شخصية مقدسة و دينية و سياسية و شخصية عسكرية من الطراز الأوّل. و كنت مطالبا أن أقدمه كشخصية إنسانية و انزع عنها طابعها الخرافي و الخوارقي الذي أضفتها العامة عليها من فرط حبها لها . و يزداد الأمر تعقيدا حين تجد أن كتب التاريخ قد ابتسرت هذه الشخصية و سطّحتها ، فليس هناك وثيقة تتحدّث عن نبل الأمير و طيبته و لا عن صورة الأمير العاشق ..و أنه دخل غمار الحرب بالصدفة . هذا لا يقوله التاريخ لذلك فأنت مطالب بالإنصات إلى مراجع غير تاريخية أثناء الكتابة . الحلم الكبير للأمير كان دائما كيف يعود إلى الكتب.

اترك رد