الأديب إيلي مارون خليل
إحلم، يا رجل!
ولمَ لا! فالفرحُ موجودٌ، وكذلك السّعادة. فـ”لو خِلْيتْ خِرْبتْ”! على رأي أُمّي.
أُمّي الّتي كانت متواضِعةً كسنبلةٍ ملأى، نقيّة كلون وردةٍ جبليّة، أبيّة كجرس ضيعتِنا، أمّيّة كنحلة نشيطة، كانت صريحةً وواضحةً وذكيّة. وكان، من بين مميِّزاتها الأكثر أهمّيّةً، أنّه كان لها حَدْسٌ لا يُخطئ، إنّما يكون، كلّ مرّةٍ، صائبًا! وهذا، حُكْمًا، أمرٌ نادرٌ، أو شِبْه مستحيل.
وإذ تمّ لها أن تخلع مادّيّتَها وولوج العالمِ النّورانيّ الشّفيف، أحسسْتُ بأنّي خسرتُ النّصحَ المفيد، والرّأيَ السّديد، والتّوجيهَ والسّنَد… إنّما ترسّخ صوتُها في كياني، واستمرّ ظلُّها يُحيطُ بي، وكأنّها ملاكي الحارس. وغالبًا ما أردِّد بعضَ أقوالِها، عفويًّا. إنّها حِكَمٌ مفيدة لكلّ حين!
ومن الأمثلة الّتي تصحّ هذه الأيّام: “لو خِلْيِتْ خِرْبِتْ يا بني”! ما يعني أنّه لو خلتِ الأرض من الصّالحين، لكانت أضحت خَرابًا! وتقصد أنّه عليّ أن أتحوّلَ من متشائمٍ إلى متفائل. تُضيف: “تأكّد أنّ العالم كان أشدّ سوءًا! لقد أصبح، الأن، أفضل! وفي الأتي من الأيّام سيكون أفضل ممّا هو اليوم”! وتُضيف، بعدُ: “ألا تعرف القول: تفاءلْ بالخيرِ تجدْه”!
لقد كانت متفائلة، أُمّي! بل دائمة التّفاؤل! وحين أسألُها سِرَّ ذلك، تبتسمُ قائلةً: “وماذا يُفيدُ البُكاءُ والنّحيب!؟ إبكِ تبكِ وحدك! إضحك تضحك لك الدُّنيا”!
كم كنتِ على حقٍّ، يا ماري!
وكان أبي لا يقلُّ تفاؤلًا عنها. لم أره، مرّةً، عابسًا، أو غاضِبًا، أو مستعجِلًا، أو مُحِبًّا للمال، على فَقرِه الواضح. مؤمنًا، بعمق وتَصديقٍ مُطلَقٍ، أبي. أسأله فيُجيب: “تأمّلوا طيور الفضاء كيف لا تتعب ولا تعمل، والله يرزقُها الطّعامَ في حينه… إلخ.”!
كم كنتَ على حقٍّ، يا مارون!
حلمتُ بأن أكونَ مثلهما، فقد كانا مِثالي، ولا يزالان! فالمتفائلُ فرِحٌ، والفرَحُ ينتقل منك إلى مَن معك، أو يُحيط بك، أو يُصادقك، ويتقرّب، ويُعجَب، ويُحِبّك… والفرحُ السّليمُ غبطةٌ للنّفس، وتحفيزٌ للجسد… والغبطةُ قد ترقى بكَ إلى السّعادةِ، نعمةِ النِّعَم…
ورأيتُ أنّ المتفائلَ طَموحٌ، واثِقٌ، واعٍ، مقتدِرٌ، مسؤولٌ، هائمٌ ثابتٌ بالخير، حالِمٌ دائمٌ بالجَمال، فائضٌ أبَديٌّ بالحُبّ الّذي ملِكُ الصّفات الطّيِّبة!
فالمتفائلُ المُحِبُّ لا يستثني أحدًا، وإن كان له حبيبةٌ وحيدة! هي تجمع النّساءَ كلَّهنّ! ولا يستثني شيئًا، وإن أحبّ مكانًا، أو مشهدًا، من دون سِواه!
هذا المتفائلُ، سعيدٌ، هو. لأنّه قانعٌ بالحياةِ، عارفٌ بأنّها لن تحيدَ عن مَسْراها، أو مَدارِها، أو… واقعِها المنوَّع: أبيض ــ أسود؛ خير ــ شرّ؛ فرح ــ حزن؛ إبتسامٌ ــ عبوس؛ طهارة ــ قَذارة… ويعرف كيف يتعاطى مع الآخر، فيُظهِر فيه نواحي الخير، لينسى النّواحي السّلبيّة.
إحلم، يا رجل، أن تكونَ هذا المتفائل!
إحلم! يَنْقَ الكونُ ممّا فيه غيرُ مُستَحَبّ!
إحلمْ! أليس أفضل من الشّكوى الدّائمة؟ ألا تُصبحُ الحياة أكثر جَمالًا!؟
إحلم، إذًا! إحلم!
(ألأحد28/أيلول/2014)