حين تكثر الدراسات والأَبحاث عن أَديب وأَعماله وحياته الشخصية، يصبح باهتاً بعدها كلُّ كلامٍ مكرَّرٍ مكرِّر، حتى يصدر عنه جديدٌ يستاهل التقدير، كما شعرتُ حين وصلَني كتاب الدكتور سليم مجاعص “مَيّ زيادة نشوءُ وارتـقاءُ المـثـقَّـفَـة الحُـرَّة” من “دار كتُب للنشر” (بيروت) في 370 صفحةً حجماً كبيراً، حاملاً قراءةً مباشرةً لمقالات مَيّ وخُطَبِها في بعض المناسبات.
عجبتُ له، سليم مجاعص، وهو طبيبٌ لبناني في شيكاغو يقيم ويزاول مهنة الطب، كيف يصرف وقتاً مضنياً مستطيلاً في البحث والتـنقيب والاكتشاف، كما كتابه هذا عن مَيّ زيادة وثلاثة كتب أُخرى عن جبران، ما يعطي مؤلفاته صدقيةً علمَيّة أَكاديمَيّة توثيقية راسخة.
منذ المقدمة أَعلن سليم مجاعص اندفاعه إِلى مراجعة شاملة لنتاج مَيّ في الدوريات اللبنانية والمصرية، منذ مقالاتها الأُولى في مجلة أَنطون الجمَيّل “الزهور” بين 1911 و1914 وتَتَبَّع نشوءَها الأَدبي وتَنَامِيَ موقعِها الثقافي وحواراتِها مع الفكر السائد في عصرها بين المشرق والعالم، لتخرُج مَيّ في نهاية الكتاب أَديـبة ليـبرالية في أَفكارها، رائدةً في نضالها، ساطعةً في حضورها بين مصر ولبنان.
علامةُ هذا العمل جهدٌ كبير للتقميش بين أَعمدة الصحُف وصفحات المجلات القديمة المحتجبة، لكنّ فيه لذةَ اكتشافٍ أَخّاذةً حين ينضُج الخبز لتقديمه إِلى المائدة.
وفيما ركّز الكثيرون على سيرة مَيّ واتهامها بالجنون وإِدخالها عنوةً مستشفى العصفورية، ركَّز سليم مجاعص على نُصوص مَيّ الطليعية سابقةً عصرَها ونساءَ عصرها وحتى رجالَه، سواءٌ بصالونها الأَدبي في القاهرة أَو في تجوالها مُحاضرةً وخطيـبةً بين القاهرة والجامعة الأَميركية في بيروت وفي ضهور الشوير وسواها، وفي يقينه أَنّ “في منجم مَيّ من الجواهر الفكرية والذهب الروحي ما يستدعي معاودةَ التنقيب وتجديدَ البحث”، وهو ما فعلَه منذ مطلع كتابه فنشرَ ما سماها “الزهور الأُولى لِـمَيّ” منذ خطابها الأَول في ضهور الشوير ذات أُمسية من آب 1911، تلاه مقالٌ عن زيارتها هياكلَ بعلبك، فثالثٌ عن رحلتها إِلى نبع الصفا فبكائِها كنارَها الصغير الميت، ما يمكن اعتبارُ سنة 1911 تُــؤَرِّخ بدءَ كتابة مَيّ بالعربية بعد صدور مجموعتها الأُولى بالفرنسية “أَزهار حلم” بتوقيع مستعار: “إِيزيس كوﭘــيا”. وهو ما تؤكِّده الباحثة الأَديـبة سلمى الحفار الكزبري في كتابها ذي الجزءين “مَيّ زيادة أَو مأساة النبوغ” وبعضُ فصول كتاب “الشعلة الزرقاء” الذي وضعتْه اشتراكاً مع الدكتور سهيل بشروئي.
في هذا السياق الاكتشافي لاحق سليم مجاعص كتابات مَيّ عن المجاعة في الحرب والحالة السياسية في لبنان واصِفَتَها بـ”الكيل الذي طفَح واندلَق” بعدما أَمضت في لبنان صيف 1926 وعاينَت فيه الفساد السياسي والطائفي وأَكبرَت مَن فيه مِن أُدباء علمانيين سَمَّت بـينهم أَصدقاءَها شبلي الشمَيّل ويعقوب صروف وأَمين الريحاني وفيلكس فارس وسواهم.
وانتقل الكاتب إِلى صورة مَيّ الساطعة في مصر. كانت تُـتقن الإِنكليزية والفرنسية والأَلمانية فترجمَت روائعَ من الأَدب الغربيّ. وكانت واسعة الثقافة فكتبَت مقالاتٍ عن مايكل أَنجلو وﭬـيكتور هوغو وكارل ماركس. وكانت ذوّاقةَ موسيقى فكتبَت عن بيتهوﭬـن وشوبرت وﭬـيردي ودوبوسي. وكانت حاضرةً فاعلةً في الوسط الأَدبي فصدرَت لها مقالاتٌ ومقابلاتٌ مع يعقوب صرُّوف وشبلي الشمَيّل وأَمين الريحاني، وكانت مراسلتُها الطويلة مع جبران منذ قرأَتْ كلمتَه في احتفال خليل مطران سنة 1913 حتى غياب جبران في نيسان 1931.
وزيادةً في الفائدة أَفردَ سليم مجاعص في نهاية الكتاب ملاحقَ لكتابات مَيّ في مجلات “المقتطف” (القاهرة) و”المعرض” (بيروت) و”الرسالة” (القاهرة) و”المرأَة الجديدة” (بيروت) و”الهلال” (القاهرة) و”سركيس” (القاهرة”) و”البلاغ” (القاهرة)، ومقالات في صديقها جبران، وخطابَين عند تكريم صديقها أَمين الريحاني مرَّتين في القاهرة.
كتاب سليم مجاعص “مَيّ زيادة نشوءُ وارتـقاءُ المـثـقَّـفَـة الحُـرَّة” ضوءٌ آخر على مَيّ، يتبوَّأُ الصدارةَ الأُولى بين معظم مَن كتَبوا عنها منذ غيابها سنة 1941 حتى اليوم.
******
(*) إذاعة “صوت لبنان” – برنامج “حرفٌ من كتاب”