أصدرت رابطة قنوبين للرسالة والتراث البيان التالي:
حين يغيب المطران فرنسيس البيسري عن ساحة الكنيسة ولبنان يطوي معه جيلاً ناصعاً ببياض الابتسامة كأنه يدرك أننا في الزمن الممنوع على الابتسامة والفرح.
لقد أدرك منذ زمانه الصبي الاول ان الابتسامة هي جسر القلوب المتباعدة، فأقامها هذا الجسر المتين ليعبر فوقه بين أشخاص وعهود وحقبات الاختلاف والتباعد والانقسام سواء في رعيته الاولى البترون، أم في أبرشيته التالية منطقة الجبة، وفي كل الامكنة التي عرفها طوال عهدي هذه الابرشية وتلك الرعية.
كان يقر ويعترف ليعلّم انه لم يكن يملك غير ابتسامته المعلنة الحهورية جسراً لعبوره المتوالي بين رموز الاختلاف والافتراق. لقد كان يجاهر بضحكته كأنه يريد أن يهزّك بها ويبدل فيك ويغيّر، وكان يبرر ذلك بأنها الاقرب والاسهل وصولاً الى القلوب، فيما ما يكتبه من كلمات متعثّر حكماً ليحدث تغييراً وتبديلاً منشودين. فالضحكة تلامس القلب مباشرة، وتوقظ الفرح والسلام والاطمئنان، وهذه كلها تقرب وشروط لتقبل الكلمة تقارب العقل ليوقظ ارادة التقارب.
لقد عبر فرنسيس البيسري بوداعة الابتسامة ما يعجز عن عبوره كثيرون بأحكام العقل المبرمة. ومرّ بهذه النعمة الالهية – كما يسميها- في ” خرم الابرة” في أوقات عصيبة كثيرة.
لقد قارب بهذه الابتسامة النعمة الالهية مجمل القضايا والمسؤوليات التي تولاها – ومنها ما يعنينا نحن في رابطة قنوبين للرسالة والتراث – الاشراف على عمل الرابطة منذ تأسيسها سنة 2004 عهد البطريرك الكردينال صفير حتى سنة 2012 عهد البطريرك الكردينال الراعي. لقد غمر الرابطة بابتسامة المطمئن منذ ان انطلقت لتعنى بحديقة البطاركة، وراح يفيض عليها من روحه الوادعة المبتسمة ما أشاع معها فرحاً كبيراً بانجازات غير مسبوقة في تاريخ كنيستنا وتراثها الروحي والثقافي…
ولم يخف منذ لحظة التأسيس قلقه على الرابطة الطرية العود الفتية التي تتوافر فيها كل ” أسباب الغيرة منها” فقط لانها ستحدث جديداً. وهو يدرك ان كل مجدّد يلقى المتاعب. وقد خبر هو التجربة هذه منذ ان انخرط في بدايات حياته الكهنوتية في حركة كنيسة من أجل عالمنا، حركة تجديد الكنيسة في ذلك العصر. وظل مؤمناً بهذا التجديد كأنه لا يكبر ولا يتقدّم في السن بل يبقى مسمّراً في عهود صباه الواعدة بالجديد.
أشرف على أعمال رابطة قنوبين وميزها بابتسامته الوادعة الحكيمة، وبمحبة صامتة تترجم الايمان بأن الصمت رفيق المبادرات الناجحة والانجازات الكبيرة. كان يسأل دوماً عن حديقة البطاركة وجديدها، عن تماثيل البطاركة والاصدارات الكتابية، عن كل ما يتصل بتراث الوادي المقدس. وقد جمع منه كنوزاً ثمينة نفض عنها غبار 1932 حتى اليوم. وكان يتوسع في مجمل جوانب ملف الوادي المقدس، توسعاً صامتاً خجولاً لانه أدرك انه ملف شائك معقّد مستهدف بسهام وسهام من أقربين ومن أبعدين، ولا تعامل صائباً مع هذا الملف الا تعامل القادر على عبور ” خرم الابرة…”
وهكذا كان كما ذكرنا. وكان يفرح كلما حققت رابطة قنوبين خطوة في مسار طويل وطويل. وقد تابع اعداد مشروع المسح الثقافي الشامل لتراث الوادي المقدس وانطلاقته الثابتة وتطوره يتحقق تباعاً بعناية سيدة قنوبين كأنه احدى عجائبها المعاصرة.
طوال ثماني سنوات مع رابطة قنوبين وأكثر كان ايجابياً لا ” يتقن” الاعتراض للاعتراض، بل يتقن التفهم لتسهيل الاعمال، تفهماً لا يبرره سوى رغبة لديه كبيرة بأن نحدث جديداً.
وفي أواخر الايام العابرة كان يتابع الاصدارات الكتابية بخاصة المتصلة بأوراق بطاركة قنوبين في أرشيف بكركي وسجلات الديمان، وكان يأمل اصدار حقبة الحرب العالمية الاولى من هذه الاوراق بعدما علم أنها صفحة مشرقة بيضاء من صفحات الكنيسة الخادمة. واجتهد في أواخر هذه الايام أيضاً للتنقيب في أوراق البطاركة لاكتشاف مخطوطات ووثائق تذخر بأسماء مغمورة لبطاركة غير معروفين…
يغيب المطران فرنسيس البيسري مواكب بدايات التأسيس في رابطة قنوبين للرسالة والتراث، مضيفاً الى بناء تراثنا ورسالتنا مداميك متينة مقدودة من مقالع الايمان ونور المعرفة، وتاركاً لنا ارثاً لا يضاهى نرثه نحن ونورثه اذا أنعم الله علينا، انه ارث الابتسامة الودودة المحبة… وستظل هذه الابتسامة محفوظة في ظلال أرز الديمان ومطل قنوبين حيث مدرسة الايمان، وحدها تحول ” خرم الابرة” الذي يستحيل عبوره على جاهليها، دروباً واسعة مشرّعة للقاء وجه الله…
انها الدرب التي تستقبل المطران البيسري اليوم من دنياه العابرة الى دنياه الباقية… والتي تظل دروب طموحاتنا والآمال في تعميم ارث قنوبين وذخائرها الثمينة كما أحب البيسري ودعا رابطة قنوبين اليه.