الباحث خالد غزال
يدور نقاش اليوم حول العلاقة بين شبكة الإنترنت والرقابة التي تمارسها الدولة على المواطنين والمؤسسات عبر استخدام شبكة التواصل الاجتماعي. يركز النقاش على أخطار هذه المراقبة على الحرية الشخصية للفرد، وعلى إمكان اختراق حياته الخاصة وجعلها في متناول أجهزة الدولة الأمنية.
بل يذهب خبراء في هذا المجال الى القول إن الإنترنت أصبحت تمثل تهديداً حقيقياً للحضارة الإنسانية، وإن هذه الحضارة ستبلغ مرحلة مريرة من المراقبة في غضون السنوات المقبلة، وسيكون مستحيلاً هروب الأفراد منها، باستثناء قلة يملكون مؤهلات وكفاءات تسمح لهم بالتهرب من هذه المراقبة.
بعدما أصاب الدول من نشر المعلومات على موقع «ويكيلكس» وما تبعه من إجراءات أمنية، كان لخبراء في ميدان الاتصالات دأب في كيفية تجنب كشف الإنترنت للمؤسسات والأفراد، فنشأت فكرة «السايفربانك» التي تعني عملية تشفير المعلومات. كان جوليان أسانج، مؤسس موقع ويكيلكس أبرز المساهمين في الدعوة إلى تشفير المعلومات، وقد ساهم مع زملاء له من خبراء في حقل الاتصالات في وضع كتاب خاص في هذا الموضوع تحت عنوان :»السايفربانك: حرية شبكة الإنترنت ومستقبلها». صدر الكتاب عن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» في بيروت.
يشير أسانج إلى نتائج تطور الإنترنت ودخوله المجالين العام والخاص، وإلى التهديدات الناجمة عن استخدامه ويرى أن الدولة ستتمكن من الوصول إلى قلب مجتمعاتنا وأعصابها لتراقب كل علاقاتنا واتصالاتنا، وكل موقع الكتروني نتصفحه، وكل بريد الكتروني مرسل وكل فكرة نبحث عنها.
ومن ثم تقوم بتخزين ما تحصل عليه من معلومات عبر الملايين من عمليات الاعتراض اليومية في مخازن سرية، الأمر الذي منح الدولة سلطة لم تكن تحلم بها من قبل. استناداً الى ذلك يشير اسانج الى الجهد الذي بذل لاكتشاف الوسائل التي تحمي المعلومات من «القرصنة» الا وهي عملية التشفير بالاعتماد على علوم الفيزياء بحيث يكون «التشفير هو في الواقع تجسيداً لقوانين الفيزياء».
يشير أسانج الى عدد من الميادين التي تعتمد الإنترنت، وكيفية استخدامه في التحريات التي تقوم بها الدول. فزيادة الاتصالات اليوم يرافقها زيادة في التحريات. اذا كانت التحريات شبه محصورة سابقاً ببلدان متقدمة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، فإن تطور ثورة الاتصالات جعل هذه التحريات اليوم في متناول الجميع، بحيث باتت تقوم بها كل الدول تقريباً.
ازدهرت التحريات بالعلاقة مع رغبة الناس وقدرتهم على وضع افكارهم السياسية واتصالاتهم العائلية وصداقاتهم على الإنترنت، ما جعل كل وسائل الاتصال الحديثة عرضة للاختراق الشامل بعد ان كانت تعتبر وسائل ذات خصوصية. والجديد هو التبادل الجاري بين الدول وبين المتسللين والجواسيس للحصول على المعلومات. وتكمن الرغبة في الهيمنة على الإنترنت من معظم الدول في كونه حرم السلطات السياسية والأمنية في معظم العالم من إمكان تحريف الحقائق والأحداث الجارية وتقديمها وفق رغبة السلطة الى الجمهور على غرار ما كان يجري سابقاً، ما جعل بعض السلطات ترى في شبكة الإنترنت مرضاً.
لعل اندلاع الانتفاضات العربية قبل أربع سنوات هو من الأمثلة الفاقعة على الدور الذي لعبه الإنترنت في ايصال الحقائق وصور الأحداث الى معظم أرجاء العالم العربي وسائر مناطق العالم، وإلى الدور الإيجابي في الحراك الذي جرى.
تجري اليوم محاولات لعسكرة الفضاء الإلكتروني في شكل مشابه للاحتلال العسكري على ما يقول بعض خبراء الاتصالات. فعندما يقوم المرء بالتواصل عبر الإنترنت، او باستخدام الهاتف المحمول الذي اصبح في غالبيته موصولاً بالشبكة، فإن ذلك يسمح باعتراض هذه الاتصالات بواسطة المنظمات المخابراتية الحربية، بما يجعل حياتنا الخاصة جزءاً من المناطق العسكرية، وبما يؤدي أيضاً الى عسكرة الحياة المدنية. وإذا كانت القوانين القضائية تعطي الحق في الرقابة على الاتصالات للوصول الى المجرمين وشبكاتهم، إلا أن السؤال يظل مطروحاً حول الخط الفاصل المفترض لحدود الإشراف القضائي، وبين ما يملكه المواطنون من حقوق خاصة في استخدام التكنولوجيا وحقهم في الحماية الشخصية.
تقع هذه المسألة في إطار القضايا السياسية التي تفترض وجود قوانين واضحة وصارمة تظهر بدقة ووضوح الحدود القصوى للرقابة على الاتصالات وتعيين ميادينها، فيما تضمن الحرية الأوسع لمنع التدخل وحماية الحقوق المدنية والشخصية للمواطن. تبدو هذه المسألة اليوم من المسائل الرئيسة التي تقف أمامها المجتمعات خصوصاً تلك التي تعتمد الديمقراطية نظاماً سياسياً، حيث يمكن لمؤسسات المجتمع المدني أن تلعب دوراً ضاغطاً على المؤسسات السياسية من أجل تشريع قوانين تضمن سرية المعلومات الخاصة للمواطنين.
من القضايا التي تثيرها شبكة الاتصالات والمعلومات المخزنة ما يعرف بعملية القرصنة او «الهاكرز». على رغم بناء نماذج أعمال تقوم على التقاط البيانات الشخصية للمستخدمين، عبر شركات مثل غوغل وفايسبوك، الا ان الهاكرز يملكون اليوم قدرة لاختراق هذه البيانات والحصول على المعلومات الموجودة فيها. ان ما يشار اليه دائماً من اختراق قواعد البيانات لمؤسسات سياسية وأمنية ضخمة، وصلت الى الاستخبارات المركزية الأميركية ووزارة الدفاع، يظهر الأخطار التي يمثلها الوجه الآخر للإنترنت، وهو ما دفع معظم البلدان لوضع تشريعات للحد من القرصنة، وهي تشريعات تضمن في الوقت نفسه حماية الملكية الفكرية. وعلى رغم كل الإجراءات الرادعة، الا ان هذه الأخطار لا تزال ماثلة ويشهد العالم دوماً على اخبار قرصنة هذه المؤسسة او تلك.
صحيح ان ثورة الاتصالات شكلت في العقود الماضية الحدث الأهم في الثورة التكنولوجية وفي التقدم العلمي، وساهمت في تطوير كثير من البلدان ومؤسساتها، بل لعبت دوراً مهماً في الحضارة الإنسانية من خلال تحويل العالم الى قرية صغيرة، وإزالة حدود المكان والزمان وسمحت في وضع المعرفة البشرية في يد مجمل البشرية. لكن كل تقدم علمي يحمل في طياته سلبيات في الوقت الذي يحمل إيجابيات أكبر. لعل النقاش الدائر اليوم حول الإنترنت وأخطاره يشكل أحد الأدلة على الوجه الآخر لكل تطور علمي.