جويل رياشي
انطوت السنة الاولى على رحيله، ولا يزال “سيّد الحياة … المشفق على الموت” يجمع محبيه الذين لم يشفوا من كلماته بعد ولن… أنسي الحاج رحل ولكن كلماته بقيت، وبها “سيرجع الكون جميلا”…
امس، تجمّع قرّاؤه ومحبّوه واصدقاؤه بدعوة من معهد الاداب الشرقية في جامعة القديس يوسف حول “وليمة” الرسول الحاضر الغائب، استعادوا كلماته وقصائده وتمرّده والفضاءات التي فتحها في العصر الذهبي للشعر والصحافة… لم يعنِ لهم الغياب شيئاً، التوق الى كلماته كان اقوى من الموت.
ولعل اجمل ما في الامسية كان صوته الذي انبعث من الوثائقي (اعدته ترايسي عازار واخرجه شارل قسطنطين): “ذاتي الجامحة اليكِ الراكنة اليكِ لا تطلب ان تولد من جديد ذاتا ابدية (…) حتى يجيء الموت حين يجيء اخف من هواء الحرية”، والشهادات التي ألقيت فيه وصوت هبة القواس الملائكي الذي حمل كلماته الى “حيث هو” كما تمنت.
“إنسان من حبر”
في الوثائقي، الكاتب سمير عطاالله يقول ان انسي الحاج “كان انسانا حزينا خصوصا بسبب وفاة أمه باكراً ولعل هذا ما جمعنا”، فيما تذكر الشاعر عقل العويط علاقتهما الفكرية والادبية والانسانية والشخصية، معترفاً ان “اول مقال قدمه له كان مصيره التمزيق”. واطلق عليه الشاعر بول شاوول “المصمم والعنيد”، فيما وصفته نضال الاشقر بـ”الانيق والجميل دائما، واللاذع”. لم يكن عاديا في نظرته للحياة والناس”. واعترفت الزميلة جمانة حداد انه “هو الذي صالحني مع اللغة العربية وحفزني اليها”. وتحدث الصحافي بيار ابي صعب عن “تأثيره الكبير في جيل الشباب من الصحافيين في جريدة الاخبار. كان محل ابهار لهم”. اما الزميل نقولا ناصيف فاسترجع علاقته به في “النهار” و”الاخبار” مشيرا الى انه “نقل تجربته الشعرية الى الصحافة بحيث وضع اللغة دائما في خدمة الفكرة وليس العكس. ليس انسانا من لحم ودم فحسب بل هو انسان من حبر”.
ودعا الدكتور هنري العويط في كلمة القاها نيابة عن رئيس الجامعة الاب سليم دكاش الى “تكريم انسي الحاج من خلال الاستجابة لدعوته الى دراسة أعلام الادب الحديث والقيام ببحوث تقويمية تطال النتاج العربي الحديث كله. ولما لا نبدأ به لما تدين له مسيرة الحداثة العربية كلها؟”
اما ممثل وزير الثقافة روني عريجي، ميشال معيكي فتحدث عن مجموعته الشعرية “لن” ومقدمتها التي اعتبرت يومها بيانا لولادة ما اسماه قصائد النثر في الحداثة الشعرية العربية، ثم حجز لنفسه موقع صدارة احتفظ به حتى الرحيل…”
“صدق التجربة”
“المتفرد بشخصيته الاسرة، منهى الذكاء والرهافة الفكرية الى شراسة الحس النقدي، فالى منتهى الطيبة والعذوبة “، هكذا وصفه استاذ الادب العربي في الجامعة الاميركية في بيروت الدكتور اسعد خيرالله الذي اكد ان “هذه الانطباعات لا تحدد شخصيته الفذة او شمول عطائه، اذ كيف تعلب الثائر الشرود، والمبدع المفاجئ، الذي لا تعرف من اين يأتيك ولا اين تنتظره! لكنه في كل احواله يتمتع بمزية تدهشنا هي صدق التجربة وقدرة خارقة على التحديق في الهاوية ثم جرأة الافصاح بلغة جديدة تجسدها”. واكد ان الحاج هو اهم من أدخل “الميتاشعرية” (او ما بعد الشعر) الى الشعر العربي.
اما الدكتورة زهيدة جبور فركزت في مداخلتها على التناقضات في شعر الحاج، ومما قالت: “ما ان تلج الى اعماله الشعرية حتى يساورك شعور بانك امام عالم يتأرجح بين حدين ليحملك الى ما بعد الجنة والنار، حيث الانسان بتجليات ذاته المعمدة بالالم، المطهرة بشعلة الحب التي لا تنطفئ. فانسي الحاج هو شاعر الحرية والثورة والتمرد والحب والحنان والبراءة في آن. هو الذي يهبط الى قعر الهاوية ليصعد الى ذروة الجمال، هو الذي يرعب وينعش، يزرع الفجيعة وينبئ بالخلاص”.
تلاها رئيس دائرة اللغة العربية في جامعة البلمند الدكتور شربل داغر الذي لطالما استوقفته في “لن”، سطره الأول، جملته الأولى: “أخاف”، “إذ وجدت فيها إعلاناً دالاً يخفي أكثر مما يذيع، على أن في إعلانه ما يشير إلى نزاع أكيد، يسبق القصيدة ويتعداها”.
“تبقى لنا علاماته”
وبعد “اغنيك حبيبي” و”تبقى لي” بصوت السوبرانو هبة القواس وقراءات لجهاد الاندري، تحدثت الزميلة جمانة حداد مجيبة عن سؤال “ماذا يبقى من انسي الحاج بعد غياب الشخص؟” وقالت: “تبقى لنا علاماتُه، وهي لا تُحصى، لكنني سوف أعدّد منها سبعاً اخترتُها لهذا المساء، وهي: الشعر، التمرّد، الحبّ، الحرية، النقاء، الجُرح، ونعمة الولادات المتتالية”.
واضافت: “الشعراء هم براهينُ أنفسهم. كتاباتُهم براهينُهم، ولا يحتاجون إلى أكثرَ منها.
والجوهرُ الوحيد الذي سوف يظل، هو قصيدةُ أنسي في ذاتِها، وذاتُه في قصيدته”. واقترحت ” أن تحتضنَ الجامعاتُ، فوراً، براهينَ أنسي الحاج وعلاماتِه، أي نصوصَه، وتدرسَها، وتفكّكَها، وتُيسّرَ عبورَها، وتنقلَ عدواها. والمطلوب أيضاً وخصوصاً، مراكزُ بحوث أدبية، متخصصة، في كلّ جامعة، تجعل الأدبَ اللبناني والعربي الحديث هاجساً أساسياً من هواجسها وتحدياتها”.
وختامها مع كلمة الشاعر فوزي يمين الذي قال :”لم يغيّرْ أنسي الحاج، وأنا أستكشفُه يافعاً، وجهَ الشعرِ العربيّ فحسب، بل غيّرَ أيضاً حياتي، نظرتي إلى العالمِ والوجود. سرّبَ إليّ حُرّيةً أقوى منّي. مدَّني بشَغَفٍ فتّاكٍ. آنسَني في وحشتي، كسِراجٍ على مَفْرَقٍ داكنٍ. لذلكَ لم أستطعْ منعَ نفسي من تَردادِ قصائدِه بقُوّةٍ وانحيازٍ أينما حَلَلْتُ، أدسُّها كسُمّ لذيذ وأنفثُها كبُخارٍ سِحريّ (…)
وكنتُ عندما أقرأُ أشعارَه لأصدقائي في الليالي المخمورة، يظنّون أنّي أقرأُ لساحرٍ ملعونٍ يُجاوِرُ الأفاعي والصّقور(…) كانُوا يسمعون، وينتشون، مُتسائلينَ كيف يستطيعُ شاعرٌ بهذه القَسوةِ أن يكونَ رقيقاً، وبهذه القُوّةِ أن يكونَ عَطوباً؟”
وختام الأمسية إعلان الشاعرة ندى الحاج اطلاق “مؤسسة انسي الحاج” على أمل أن تقدم السنة المقبلة جوائز لشعراء وكتّاب.
*****
جريدة “النهار” 21 شباط 2015