بقلم: د.عبدالله بوحبيب
يُعرّف الفيلسوف البريطاني طوماس هوبز (1588 ـ 1679) الفوضى بأنها «حالة طبيعية» أو حالة العودة إلى الطبيعة حيث تغيب السلطة، وينتهي أي معنى للقوانين والأعراف، ويصبح الوضع «حرب الجميع ضد الجميع»، لأن الإنسان بطبيعته وبغياب سلطة يهوى الهيمنة والتسلّط على أخيه الإنسان. وفي لبنان انقسام عمودي حاد وعميق غيّب الدولة حكومة وبرلماناً وإدارة وقضاء، وكانت الضحية الأخيرة المجلس الدستوري. وربما زاد الفراغ إذا وصل إلى الرئاسة الأولى بعد 25 أيار 2014.
ويبقى الجيش اللبناني الصامد والموحّد، وقد أُنهك منذ انتهاء الوصاية السورية على لبنان في العام 2005، بسبب خلافات السياسيين المستمرة وغير المهادنة. فمن تظاهرات العام 2005 «احتفالاً» بنهاية الوصاية السورية، إلى الحرب الإسرائيلية على لبنان، وبدء الصراع الداخلي حول المحكمة الدولية في العام 2006، ومنها إلى حرب نهر البارد في العام 2007، وذروة الخلاف الداخلي في أيار 2008، من دون أن نغفل وجوده المطلوب في الجنوب إلى جانب القوات الدولية، والجيش ينتقل من منطقة إلى أخرى، من جنوب لبنان إلى شماله ومن غربه إلى شرقه، من دون أن يُمنح مرة، وفي العلن، تشجيعاً حقيقياً مادياً أو معنوياً. ولقد تعرضت دوريات وحواجز للجيش مرات عدة للهجوم واستشهد المئات منهم خلال هذه السنوات. وبينما كان يعلن السياسيون تأييدهم الكلي للجيش، كانت تتدفق لاحقاً المكالمات الهاتفية إلى القيادة تطالبها بالتروي والتهديد المبطن، بالإضافة إلى تبرير البعض جهاراً لما قامت به العناصر الإرهابية ضد الجيش.
ولا بد أيضاً من توجيه تحية للشعب اللبناني الذي، برغم غياب السلطة وهيبتها، بقي بمعظمه يمارس المواطنية الحقيقية مصمماً على الحفاظ على السلام الأهلي والاستقرار، رافضاً تعميم الفوضى، ومتمنياً على السياسيين تحمّل مسؤولياتهم لردع الخطر والتشقق عن الوطن.
لكن وبرغم التضامن السياسي مع الجيش في معركته الأخيرة في عبرا، فإن القيادات السنية، الدينية منها والسياسية، تشعر بالإحباط، خاصة أن هذا الحدث الذي أنهى حالة الفوضى المسلحة في مدينة معظمها من أهل السنة، قد أتى بعد تراجعات المعارضة في الحرب السورية.
ابتدأ الصراع السني الشيعي على المنطقة منذ الاجتياح الأميركي للعراق في ربيع 2003. ومنذ ذلك الحين والحساسية والتوتر والاحتكاك يزداد يومياً، وأصبح الخلاف حديثاً يومياً خاصة في لبنان. إن كلام كل منهما عن الآخر، يذكرني بمحاضرة للدكتور شارل مالك عن المسيحية، وكنت في سنتي الأولى في الجامعة الأميركية. قال الدكتور مالك إن المسيحية هي ما يقوله المسيحيون عن أنفسهم وليس ما يقوله غيرهم عنهم. هذا القول يختصر الوضع بين أهل السنة والشيعة، حيث أن كلاً من الطرفين يقبل الادّعاءات السياسية والتاريخية عن الآخر من دون التحقق من صحتها. وللأسف، فإن معظم هذه الادّعاءات تحمل مبررات تخلف كل من الطرفين. وللأسف كذلك، فإن الطرفين قررا عدم المصارحة والتحاور حول أسباب الخوف ومن ثم البحث بإمكان مباشرة حوار صريح للاتفاق على خطة طريق لتخفيف حدة التأزم والتوتر بينهما في لبنان على الأقل. إن جهل أحدنا للمعتقدات الحقيقية ولتفكير الآخر يولد الكره والحقد والفتنة والحرب.
وما يزيد الطين بلة، أن بعضاً من قيادات الطوائف والمذاهب الأخرى تعمل كمساعد لتفجير الوضع بدلاً من أن تعمل لتخفيف حدة الخلاف والتهدئة المطلوبة من معظم اللبنانيين.
ومن دون شك، فإن سلاح «حزب الله» وجهازه العسكري لا يطمئن قسماً كبيراً من اللبنانيين وخاصة أهل السنة، الذين اغتنم بعضهم تدفق المال والسلاح إلى المعارضة السورية عبر لبنان فتدربوا وتسلحوا، وباعتقادهم أن السلاح يعطيهم التوازن المنشود مع الحزب.
ومن المهم، عندما نبحث قضية سلاح «حزب الله» وحمل السلاح لمواجهته أن نتذكر ما حدث في تونس ومصر. لقد ربح الشعب المعركة ضد زين العابدين بن علي وحسني مبارك برغم مؤسساتهما الأمنية الكبيرة والقوية. كذلك، حسناً فعل المسيحيون في لبنان بعد انتهاء الحرب برفضهم حمل السلاح لمحاربة الإحباط الذي أُوقعوا فيه خلال خمس عشرة سنة من الوصاية السورية. إن ما يحدث في سوريا يجب أن لا يكون مثلاً يُقتدى به لرفع الغبن وإنهاء الإحباط. إن النظام السوري الذي أدار الحرب اللبنانية لم يتعلم من المآسي التي مر بها اللبنانيون، ومن ثم، فإنه حتى لو ربح الحرب العسكرية على أرضه فلن يستطيع أن يربح السلام.
إن تسلح أهل السنة لن يجديهم نفعاً أو يجدي لبنان، وربما زاد من إحباطهم. إن حوادث عبرا في ضاحية صيدا هي مثال على ذلك. السلاح يجلب المآسي للجميع وإن لم نتعلم ذلك من الحرب اللبنانية فسنجلب على أنفسنا وعلى بعضنا البعض الويلات والدمار وهدر الدماء. لا يمكن معالجة سلاح «حزب الله» بالتسلح المضاد لأنه لا يمكن مداواة هذه المشكلة بالتي هي الداء.
(*)السفير، الخميس 27 حزيران 2013