حرب الجزائر بين الواقع والخيال: خطف أوروبيين ونقل دمهم لجرحى جبهة التحرير الوطني

في نهاية حرب الجزائر خطف قرابة 630 من المدنيين ورجال الشرطة والعسكريين بين الجزائر jazaerووهران، ويؤكد المؤرخ غريغور ماتياس أن بعضهم خضع قسرا لعمليات سحب الدم على يد رجال جبهة التحرير الوطني.

أنها حلقة من حرب الجزائر، غريبة ومجهولة، عن أوروبيين “امتصت” دماؤهم وأفرغوا منها. فبين مارس/آذار ويوليو/تموز 1962 خطف المئات، وسرت إشاعات عن الهدف من العملية: سحب دمهم لمواجهة الأزمة الشديدة التي طالت البنية الطبية لـ”جبهة التحرير الوطني”.

لم تكن تلك الإشاعات فانتازما إذ أثبتت الأبحاث صحتها جزئيا اليوم، بفضل أعمال المؤرخ العسكري غريغور ماتياس صاحب كتاب “مصاصو الدماء في نهاية حرب الجزائر: واقع أم خيال؟” (دار ميشالون للنشر، 2014).

بدأت القصة مع وثيقة احتفظ بها كاهن (كان آنذاك جنديا) لمدة 40 عاما. ويقول المؤرخ غريغور ماتياس إن “هذا الكاهن من أصول تشيلية كان يعمل في سلك الأمن العسكري حيث كان يترجم الوثائق. وأمر الجيش الفرنسي بإتلاف الأرشيف عند إجلاء سيدي بلعباس (تبعد 80 كلم عن وهران)، لكن الرجل احتفظ برسالة جندي إسباني مخطوف”.

وفي هذه الرسالة المدهشة التي كتبها لأخيه، يروي الجندي أنه خطف في 8 مايو/أيار 1962 وكان على بعد 30 كلم من وهران. ويقول “يعاملوننا بصفة مقبولة ويطعموننا جيدا، لكن ليأخذوا دمنا، وبعد ذلك سيقتلوننا”. لم يعثر أبدا بعدها على جثة الجندي.

الدم وسخ الحرب

وفي ذلك الوقت، كانت “منظمة الجيش السري” التي أسست في 1961 للدفاع عن جزائر فرنسية، تنشر العنف في الجزائر ووهران فتتالت الاعتداءات الدامية في ظرف بضعة أشهر. وكانت الحصيلة ثقيلة: 1158 قتيلا و1776 جريحا في صفوف المسلمين، حسب الأرقام الرسمية الصادرة عن الأمن الوطني. لذلك لم يعد المسلمون يجرؤون على الذهاب إلى المستشفيات المتواجدة في المناطق الأوروبية لتلقي العلاج، فقررت جبهة التحرير الوطني إنشاء وحدات علاج خاصة بها. ورغم السطو على المستشفيات والمصحات الفرنسية، كان كل شيء ينقص هذه الوحدات وخاصة الدم.

فقبل ذلك كانت المستشفيات تطلب “من جنود الاحتياط إعطاء الدم للجرحى لكن الأعداد تراجعت تدريجيا” حسب المؤرخ. أما المسلمون، فكانوا يرفضون التبرع بدمهم لأسباب دينية، وحتى لأقربائهم. ويضيف غريغور ماتياس “كان الدم يعتبر في الخمسينات نجسا”.

ورغم أن الجيش يمتلك دليلا، بهذه الشهادة التي سلمت لهيئة الأركان، فلم تتخذ أي إجراءات في الأمر. ولا شك أن السبب كان إرادة الحفاظ على سلم كان لا يزال هشا وقتها فيقول المؤرخ “لم يقوموا بتحقيق معمق لأن كل الهياكل العسكرية كانت في طور الإجلاء والحكومة الجزائرية لم تكن فعلا في منصبها. الجيش كان يواجه اعتداءات “منظمة الجيش السري” ولم يكن الجنرال ديغول خاصة يرغب في إشعال الحرب مجددا”.

فاتفاقيات “إيفيان” الهشة والموقعة في 18 مارس/آذار 1962 كانت قد أخرجت للتو الجزائر من نزاع دام ثماني سنوات.

ففتحت بعض التحقيقات لكن وسط الفوضى الشاملة. وكان العديد من التقارير لا أساس له من الصحة. فيقول غريغور ماتياس “أعلن أحيانا عن خطف أشخاص وظهر لاحقا أنهم فقط سافروا إلى فرنسا” ويضيف “التقيت طبيبا كان يعد شهادات وفاة لكن دون تشريح الجثث، لذلك لم تكن تعرف أسباب الموت الحقيقية”.

إجراء متداول لكن حجمه يبقى غير محدد

وفي تلك الفترة التي كان فيها الكره على أشده بين الفرنسيين والمسلمين، كانت الإشاعات قريبة من الخيال والفانتازما. فيقول المؤرخ “كان خطاب دعاية “منظمة الجيش السري” يتميز بالإفراط والمبالغة المنهجية، فلم تكن تتردد في مقارنة الوضع بما حصل خلال الحرب العالمية الثانية وفي تشويه المعلومة. لذلك حين كانت تتحدث عن نقل الدم قسرا كان الكل يفكر أنها أحداث خيالية”.

وفي النهاية فقد 630 مدنيا وعسكريا وشرطيا في تلك الفترة. أين اختفوا؟ يقول غريغور ماتياس “من الصعب أن نحدد ما حصل خاصة وأنه في ذلك الوقت كانت جبهة التحرير الوطني ترد على اعتداءات “منظمة الجيش السري” بالخطف والاغتيالات ما كان يمكنها من احترام اتفاقيات إيفيان ومن الانتقام في نفس الوقت”. ويضيف “لا أظن أن هؤلاء الـ630 اختطفوا من أجل دمهم”.

وبعد أكثر من 50 سنة على استقلال الجزائر، تبقى هذه الصفحة فارغة. ولغياب شهود على قيد الحياة، يصعب تحديد حجم عملية نقل الدم القسري هذه. ويؤكد المؤرخ “قدمت ما في وسعي مستندا على الوثائق التي بحوزتي وآمل أن يستأنف العمل على الضفة الأخرى من المتوسط”.

(فرانس 24)

*****

كلام الصورة

أ ف ب | مستشفى سري لجبهة التحرير الوطني–الجزائر 1962

اترك رد