د. جــودت هوشيار
تصدرت صورة للروائي الفرنسي الشهير ميشيل ويلبيك الغلاف الأخير لـمجلة “شارلي إيبدو” قبل
الحادث ، للتنويه بصدور روايته الجديدة “الخضوع “، التي تنبأ فيها بوصول حزب إسلامي إلى سدة الحكم في فرنسا عام ٢٠٢٢ الأمر الذي أثار موجة كبيرة من الجدل في أوساط المثقفين قبل أيام قليلة من صدورها.
ويقول ويلبيك ساخرا في تنبؤاته ، «سأخسر أسناني في عام 2015»، و«سأصوم رمضان في عام 2022». وكانت تسريبات كثيرة قد سبقت صدور الرواية، حتى إن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند صرح في مقابلة مع قناة ” فرانس انتر” التلفزيونية ، أنه سيقرأ الرواية حتماً عند صدورها ، لأن ” الناس تتحدث عنها “وأضاف الرئيس ، ” إن مهمتي تقتضي أن أقول للناس إننا يجب أن لا نفقد رؤوسنا، رغم الوضع المشحون بالعواط ، وإن بلدنا يمتلك مثل هذه التجربة “.
تبدأ الرواية بنهاية الولاية الثانية للرئيس الفرنسي الحالي فرانسواهولاند في عام 2022 . يتخيل ويلبيكتحالفاً سياسياً سيظهر في دورة الإعادة في الانتخابات ، يجمع بين حزب أسماه “الإخاء الإسلامي ” وأحزاب أخرى، بهدف الوصول إلى سدة الحكم، وتنتهي الانتخابات بفوز المرشح الإسلامي الكاريزماتي محمد بن عباس، ويعين فرنسوا بيرو، مؤسس حزب الحركة الديمقراطية، رئيساً للوزراء.
ويرسم ويلبيك صورة مثيرة لما يمكن ان يحدث في فرنسا في ظل حكم الإسلام السياسي المعتدل: في العام 2022، ويقول إن فرنسا تواصل انهيارها التدريجي البطيء، وتدرس جامعاتها الطلاب القرآن وتجبر النساء على ارتداء الحجاب وتسمح للرجال بالاقتران باكثر من زوجة واحدة.
ورغم أننا نتحدث عن رواية أدبية متخيلة، ولكن الصورة التي يرسمها الكاتب لفرنسا عام 2022 غير واقعية على الإطلاق، وتدعم طروحات اليمين المتطرف، فهو يزعم أن 20% من المقترعين سيصوتون للمرشح المسلم محمد بن عباس، زعيم حركة ” الإخاء الإسلامي”. ولكن نسبة المسلمين في فرنسا اليوم هي حوالي 10% فقط ، والكثير منهم غير متدينين أولا يتوجهون إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات . لذا لا يمكن التحدث عن المجتمع الإسلامي بفرنسا باعتباره فصيلا واحدا، بل يتسم بالتعددية، وينقسم بين ممارس للعبادات وغير ممارس، كما أن قطاعاً كبيراً من الفئة الأخيرة يتأقلمون مع العادات العلمانية الفرنسية ومع ذلك، فإن الكاتب يزعم أنه قدم صورة للواقع المرير…
وإلى جانب شخصيات الرواية المتخيلة، ثمة شخوص حقيقيين: رئيس الجمهورية الحالي فرانسوا هولاند، وزعيمة حزب الجبهة الوطنية ماريان لوبان، وساسة فرنسيون آخرون .
أبطال الرواية يقتبسون العديد من مقولات نيتشه، وباكونين، وستالين، وتروتسكي، والنخبة الروسية الجديدة، والأمراء السعوديين، والكتاب والشعراء الفرنسيين أو يشيرون إليهم في أحاديثهم .ولكن كل هؤلاء الشخصيات الحقيقية ، لا تدل على حقيقة ما يجري، بل على الجذور الفكرية المتشابكة في المشهد الفرنسي…
ثمة سؤالان عذبا المثقفين الروس في الماضي وحاول اعظم الكتاب والمفكرون الروس الإجابة عنهما: ما العمل؟ ومن المذنب؟ ويلبك تجاهل السؤال الأول، أما إجابته عن السؤال الثاني ، فإنه في الحقيقة تشكل محتوى روايته.
ويلبيك يرى أن المذنبين هم المثقفون اليساريون، والجمهور العام المدلل المنحل، وغير المهتم بمصير البلاد، والساسة الذين تعودوا على اللعب بالديمقراطية الحزبية، والتحالفات التجارية لأشغال المناصب الوزارية، ووسائل الإعلام، قصيرة النظر، التي تهتم بترضية أذواق القراء المسحورين بنجوم السينما والرياضة وبصرعات الموضة. ووسائل الإعلام الشريكة في خلق النظام الجديد.
ويلبيك يتعامل مع النموذج الاجتماعي والسياسي في أوروبا الغربية بكل قسوة، فهو يرى أن الأحزاب الاشتراكية وحضارة العالم الغربي إلى غروب وأفول، وأن الانتخابات مجرد تنافس بين قوى شريرة .
بعض عناصر سياسة الرئيس المسلم – كما تبدو لأول وهلة – تنعكس إيجاباً على حياة فرنسا عام 2022 . فعلى سبيل المثال، فإن المعونات المالية السخية التي قررتها الحكومة لربات البيوت، تدفع بالنساء إلى ترك العمل وملازمة بيوتهن لتربية الأطفال، من اجل الحصول عليها، مما يؤدي الى توفير فرص عمل كثيرة وإلى خفض نسبة البطالة المرتفعة. ولكن المعونات المالية لربات البيوت تموّل من الأموال المخصصة في الخزينة العامة لقطاع التعليم. ويتم تقليص مدة الدراسة الإلزامية إلى ست سنوات فقط ، ولكن أغلبية المجتمع الفرنسي المغلوب على أمره والمستسلم لمشيئة الأقدار – لا تهتم بهذا.
بطل الرواية فرنسوا ( الراوي ) شخصية نموذجية بالنسبة إلى ويلبيك، بروفيسور النقد الأدبي في جامعة السوربون، عازب قلق ومتقلب في منتصف العمر، يشتري وجبة الغداء الجاهزة من السوبرماركت القريب، ويسخنها بنفسه في فرن المايكوويف، ينظر إلى الإسلام شزراً، رغم أنه يعجبه السماح – في ظل حكم بن عباس – بتعدد الزوجات، وهو لا يهتم بشيء، قدر اهتمامه بالتنانير القصيرة والركب العارية للطالبات. وربما هذا هو الشيء الوحيد الذي يأسف له، عندما أصبحت السوربون جامعة إسلامية وارتدت الطالبات المحجبات الملابس الطويلة.
ليس لدى فرانسوا عائلة، والداه على قيد الحياة، ولكن انقطعت علاقته بهما منذ عشر سنوات، ولا توجد لديه ثوابت أسرية أو أخلاقية . ما يزال لديه بعض المعايير المعنوية ولكنها ليست ثوابت ، بل مجرد شكليات لا ترقى الى مستوى المعايير الأخلاقية الحقيقية.
ومن المثير للاهتمام أن بطل الرواية متخصص في أعمال الأديب الفرنسي من القرن التاسع عشر – أوائل القرن العشرين ، جوريس – كارل هيوسمانس ، الذي يشير ويلبيك كثيرأ الى اسمه، وخاصة إلى روايته (النقيض) التي تعد بمثابة مانيفيست لأدب الانحطاط الأوروبي .
وبقدر تعلق الأمر بأبن عباس ، فهو ليس جهادياً ، ولا متعصباً ، ولا دكتاتوراً، ولا يشبه أي زعيم للإسلام السياسي وحتى أردوغان . فهو علماني وسياسي معتدل في أقواله وأفعاله، وعلى استعداد دائماً لتقديم التنازلات، عن طيب خاطرفي سبيل التوصل إلى حلول وسط للمشاكل القائمة. صحيح أن ويلبك يتذكر على حين غرة ، الوضع في جمهورية فايمار في ثلاثينات القرن الماضي ، والمثقفين والساسة الذين كانوا يعتقدون في البداية، أن هتلر سيعود إلى رشده في نهاية المطاف، ويلبيك يحذر أن ما حدث في جمهورية فايمار، يمكن أن يتكرر في جمهورية بن عباس.
لا يقتصر الحديث في الرواية على فرنسا، فبحلول عام 2022 تدخل الأحزاب الإسلامية في الائتلافات الحكومية في بريطانيا وهولندا وألمانيا. أما في بلجيكا، فإن الحزب الإسلامي يصبح القوة السياسية الرئيسية في البلاد، لأن زعماء القوميتين ( الفلمنك والوالون ) فشلوا في التوصل إلى اتفاق لتشكيل الحكومة.
انقسام المجتمع وتحوله إلى الراديكالية والاشتباكات العرقية المسلحة وفي نهاية المطاف وصول رئيس مسلم إلى قصر الإليزيه، كضامن للوحدة والاستقرار- كل هذا لم يحدث فجأة . ويتهكم ويلبيك بسخرية لاذعة: “إن الكثير من المثقفين في القرن العشرين ساندوا ستالين وماو وبول بوت، ولم يأخذ أحد هذا على محمل الجد ، ولم يتم أدانتهم قط . المثقفون الفرنسيون ليسوا ملزمين بأن يشعروا بالمسؤولية ، لأن هذا ليس من طبعهم” .
ويكرر ويلبيك هذا المعني في نهاية روايته قائلا على لسان بطله المحبب : “ليس لدي ما يدعو للأسف!”.
هل “الخضوع” رواية مستفزة؟
يعيش في فرنسا اليوم ما بين 4-6 مليون مسلم. أغلبهم جاء من الجزائر والمغرب ثم تركيا. الكثير من الفرنسيين يخشون أن مثل هذا الوجود الإسلامي الكثيف، سيؤدي الى تغيير التوازن السياسي والاجتماعي والديني في الجمهورية العلمانية. وكان من الطبيعي في مثل هذه الأجواء أن تتباين الآراء حول الرواية، بين من يرى في ويلبك كاتباً عظيماً، يقوم بدور الفنان الذي يحمل مرآة ويجبر العالم على رؤية الحقيقة – الحقيقة المبالغ بها ربما ولكنها تروى بأمانة وعمق و يتصدى لقضايا تتظاهر النخبة الباريسية التي تميل نحو اليسار بأنها غير موجودة اساساً، وبين من يعتقد أن الرواية عمل استفزازي، يصب الزيت على النار المشتعلة حول قضايا اللجوء والاندماج في المجتمع .
أما ويلبيك نفسه ، فإنه حاول البحث عن حل وسط. ففي حوار صحفي مع مجلة “لي جورنال دو ديمانش” الأسبوعية قال الكاتب : “إنه لا يعرف ممن يخشى أكثر : من المسلم أم من الفرنسي القومي العنصري ؟ ولكنه واثق من أمر واحد وهو ان ” الأسلاموفوبيا ليس شكلاً من أشكال العنصرية”.
اهتمام إعلامي غير مسبوق
صدرت الرواية في يوم الحادث وفي وقت تجري فيه مناقشات محمومة في فرنسا حول موضوعي الإسلام والهوية الوطنية، وقد اهتمت وسائل الإعلام الفرنسية، بصدور الرواية، ما اعتبره محللون حلقة في سلسلة أعمال تندرج فيما يعرف بظاهرة «الإسلاموفوبيا»، أو الخوف المرضي من انتشار الإسلام فى الغرب.
وخصصت صحيفة «لو فيجارو»، افتتاحية، عن الكاتب، واعتبرته « صاحب نوبل للآداب الذي لن يحصل عليها أبداً»، وقالت إن ويلبيك « يتصفح المخاوف المعاصرة، وفي المقام الأول المخاوف المتعلقة بالإسلام » ما يلومه عليه البعض «لأنه ينفخ فى النار». وأضافت الصحيفة ” إن ويلبيك.
يرد على منتقديه، الذين وصفوه بالعنصرية بأنه يكتب رواية أو « متخيل سياسي مستوحى من الواقع ».
.
ودافعت الصحيفة عن ويلبك، قائلة « أى تهمة يمكن توجهيها لكاتب يقدم رؤيته عن المستقبل، ويوجد بها بعض المظاهر الكابوسية، لكنه لم يجعل منها مأساة، حتى أن بطله يتكيف معها » . ونشرت الصحيفة الفرنسية، أيضاً تنويهاً لصدور الرواية فى صفحتها الأولى، ورأت أنها ستسبب إزعاجاً، فيما ناقشت صحيفة «فان مينيوت»، مدى «خطورة الكتاب»، متسائلة عن تأثير ما أعتبرته أفكاراً مزعجة تنقلها الرواية دون شك، وقالت إن الكاتب يظن أن أفكاره لن يكون لها أى تأثير جديد، خاصة أن اعتبار الإسلام المتطرف تهديداً، أصبح في مركز اهتمام وسائل الإعلام .
لا شك ان لرواية ” الخضوع ” بعداً سياسياً واضحاً، وبعد انحسار الضجة الإعلامية سينظر إلى الرواية بوصفها تمثل لحظة حاسمة في تاريخ الأفكار، وهي اللحظة التي دخل فيها اليمين المتطرف (أو عاد) إلى الأعمال الأدبية العظيمة. وقد وصف الفيلسوف وعضو الاكاديمية الفرنسية ألان فينكيلكراوت ويلبيك بأنه أعظم روائي يستشرف ما قد يحصل في المستقبل.”
ويمضي للقول “باثارته موضوع أسلمة فرنسا في نهاية المطاف، أثار ويلبيك المواجع وجعل التقدميين يصرخون من الالم.”
ويلبيك يغّير نظرته الى الإسلام
قال الروائي تعليقاً على الضجة، التي رافقت صدور روايته الجديدة. “إن فكرة قيام حزب إسلامي بتغيير وجه السياسة الفرنسية فكرة معقولة جداً” ولكنه أقرّ بأنه قلص المدة التي يمكن ان يحدث فيها ذلك.
وقال ويلبيك لمجلة ” باريس ريفيو”: “حاولت أن اضع نفسي مكان شخص مسلم، وتيقنت أنه في الحقيقة أنهم (المسلمون) واقعون في وضع فصامي لا يحسدون عليه”.
إن المسلمين محافظون بطبيعتهم، ولا يمكنهم التأقلم مع اليسار خصوصاً بعد أن تبنى هذا زواج المثليين. ولكنهم يشعرون أيضاً بالتهميش من جانب اليمين الذي يرفضهم.
وإذا أراد مسلم أن يصوت في الانتخابات، ماذا عساه أن يفعل؟ هو في الحقيقة في وضع صعب جداً إذ ليس لديه أي تمثيل بالمرة.
ويؤكد ويلبيك أن موضوع كتابه الحقيقي يتمحور حول عودة الدين إلى قلب الوجود الإنساني واضمحلال أفكار التنوير التي سادت منذ القرن الثامن عشر. وإن عودة الدين ظاهرة عالمية وهي موجة عاتية لا فرار منها. إن الالحاد حزين جداً. اعتقد أننا نشهد الآن نهاية حركة تاريخية انطلقت منذ عدة قرون في نهاية العصور الوسطى”، وإن الإسلام يوفر حلا أفضل من الفراغ الوجودي الذي يعاني منه الإنسان المتنور.