بقلم: سليمى شاهين
الموسيقى هي إحدى النعم التي منحها الله للإنسان لتكون وسيلة تعزية عند الشدائد، وأداة بهجة ومسرّة في الأفراح. والأمسية التي دعا إليها رئيس المعهد الوطني العالي للموسيقى في لبنان، ما هي سوى تعبير يصدر عن أهم مركز فني تكريمًا للراحلة إيمان حمصي، صاحبة الأنامل الذهبية في العزف على آلة القانون.
قانون الحياة كان أقسى بكثير من “قانون” العازفة الذي لم يصدر عن أوتاره إلا أنغام تعبق بأرقّ المشاعر وأعمقها. هذا القانون القاسي غيّب “سيدة القانون” بعد مرضٍ عضال أنهك جسدها سنوات عدّة.
وفي هذه الأمسية التي تحييها “الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق -عربية”، يتردد في الأجواء صدى بكاء الأوتار على إيمان حمصي التي تخيلناها تحنو على آلتها كما تحنو الأمّ على رضيعها.
مزايا عدّة
اجتمعت في إيمان مزايا قلّما تجتمع في عازف. فهي التي بدأت بالعزف منذ الصغر هاويةً، وأكملت حتى التخصص والاحتراف. وهي التي ابتدعت أسلوبًا جديدًا باستعمال أناملها العشر في العزف بدلاً من اثنتين، فغدت آلة القانون ذات وظيفة مستقلة عن غيرها من الآلات. وهي التي انفردت بوضع مقطوعات خصّتها به مما يدلّ على شمول خبرتها وروعة إبداعها. وهي التي علّمت جيلاً بعدها أصول العزف على القانون وتقنيته المستحدثة.
قصيدة وكلمات
قبل المباشرة بالعزف، وبينما يجلس الموسيقيون الخمسون على كراسيهم صامتين، تناهى إلى أسماع المشاهدين صوت هادئ عميق يرثي الفقيدة بكلام يذوب حنانًا. هو الشاعر الفنان ناجي معلوف يلقي قصيدة “دموع الأوتار” التي رافقتها موسيقى إيمان حمصي.
في الكلمة الخاصة بالكونسرفاتوار عرفنا ما كان لإيمان من أعمال طليعية في عالم القانون، فهي بعد إصدار ألبومها الأول “اللورد قانون” كانت تستعد لإصدار ألبومها الثاني وتقول: “بعد عندي أشياء كثيرة راح قدّمها”. قرأنا أنّ إيمان كانت ترافق السيدة فيروز في معظم حفلاتها منذ العام 1990، وكانت فيروز تحبّذ مشاركة إيمان لقدرتها على إضفاء طابع خاص على فرقتها، ولا ننسى إطلالتها مع الفنان مارسيل خليفة الذي كان يفرد لها ولقانونها مكانة مرموقة في سياق العزف. وقد أسهمت إيمان أيضًا في حفلات ومهرجانات كثيرة في لبنان وبعض الدول العربية والعالمية، وشاركت في لقاءات موسيقية وأكاديمية عدّة.
إيمان حسب ما قالته دعاء حمصي هي تلميذة محمد السبسبي. تعلّمت الأصول عليه ثم انطلقت في مسار الألم والإبداع فابتكرت أسلوبًا فريدًا في تقنية العزف على القانون.
وفي كلمة قائد الأوركسترا المايسترو انطوان فرح، نطلع على مسيرة إيمان التي جاهدت إلى جانبه ثم اتخذت لنفسها شخصيّة فنّية مستقلة.
معزوفات
اختار قائد الاوركسترا أنطوان فرح مجموعة ألحان كانت ترتاح إيمان إليها وتجيد عزفها، وهي لمؤلفين أخذت عنهم ورافقتهم وأحبّتهم وتعاونت معهم، وتصدّرت المجموعة مقطوعة “شوق” (بشرف في مقام الحجاز) لأنطوان فرح الذي بدأها بمقطع يخطف إحساس المستمع ليستقرّ بعدها على نمط منخفض لفترة قصيرة، ثم يعود إلى الصعود بقوة تعبِّر عن مدى الاشتياق والحنين لحب بعيد المنال.
وفي مقطوعة “مزاج” لوليد بو سرحال تلتمس الألحان منك، أن تدعها تتراقص بدلال، وتتركها لترى الدنيا كما تحلو لها: تركض خلف الفرح، تتسلق أشعّة القمر، تغفو على غمامة بيضاء ولا تكترث بما يجري أو ما يدور.
وأطلّ “المساء” لأندريه الحاج بظلاله المخيمة على القمم والوديان، وبأشعته الحانية على الشرفات حيث يحلو السمر وتطيب الأحاديث مع الأحبّة.
أما مقطوعة “الساقية” للموسيقار الراحل وليد غلمية فترقرقت ألحانها كمياه جدول تنساب شفافة وتلمح الحصى المتناثرة في قاعه. كل لحن يشبه دفقة مياه تتبعها دفقة أُخرى سريعة بأنامل رشيقة تضرب على أوتار القانون حتى يضمحلّ الصوت رويدًا رويدًا.
ذكريات
الذكريات هي ما تبقى من دورنا في سجل حياتنا، وقد دوّنها محمد القصبجي في مقطوعة “ذكرياتي” التي تأخذنا في رحلة ممتعة إلى الأماكن والأحداث التي تركت صداها في نفوسنا.
يتأنىّ القصبجي في الإيقاع على العود حتى يخفت النغم تقريبًا إلى أن تنتشله ألحان الكمان من غفوته لفترةٍ، ثم تسلّم القيادة لآلة القانون الذي يبعث ألحانه من الأعماق. وتختتم جميع الآلات ذكرياتنا بجملة سريعة وقاطعة فنعود إلى واقعنا مبهورين من جمال هذه الرحلة.
تستحق إيمان حمصي التكريم باللحن قبل تكريمها بالأوسمة، فهي ترعرعت معه منذ السابعة من عمرها، ورافقته حتى آخر لحظة من حياتها.