د. مها خيربك ناصر: المبدعة العربية مطالبة بقلب المعادلة لإثبات حضورها

حوار: منار علي حسن

تلبية لدعوة مديرة إدارة البحوث والدراسات والتخطيط في الكويت الدكتورة سهام سعد الداوس، شاركت
guilaf 1د. مها خيربك ناصر في الندوة الرئيسة لـ “مهرجان القرين الثقافيّ” في دورته الواحدة والعشرين، وألقت محاضرة في عنوان “صورة العربيّ في السرد الإيرانيّ”، حاولت من خلالها الكشف عن العلاقات الإنسانيّة بين الشعوب والتي يُساء إليها نتيجة ظروف تتحكّم في رسم صورة مشوهة في بعض الأحيان.

هذه المحاضرة حلقة في سلسلة نشاطات د. ناصر الموزعة بين البحث والمحاضرات والأدب والشعر والتعليم الجامعي… هي التي آلت على نفسها حمل قضايا الإنسان أينما كان، وفي أي مجال يخط فيه قلمها أفكارها، لا سيما المرأة المقهورة في هذا الشرق الذي يبخس عليها أبسط حقوقها، وتدعوها إلى التمرد لتغيير ظروفها، رافضة، في الوقت نفسه، تصنيف الأدب بين ذكوري ونسوي، لأن الأدب أدب بغض النظر عن كاتبه.

حول مجمل مسيرتها في مجالات الفكر الشاسعة كان الحوار التالي مع د. مهاخيربك ناصر

أنت شاعرة وروائية وباحثة، أي واحدة تطغى على الأخريين؟

أعتقد أنّ الشعر الحقيقيّ يقوله مبدعوه في لحظة بوح تمردت على ضجيج الصمت. والرواية يقولها مبدعوها ليرسموا صمت ضجيج الصور والمشاهد والقيم والرغبات . أمّا البحث العلميّ فهو صناعة إبداعيّة تنتجها إشكاليات وفرضيات ومعطيات علميّة تحتاج إلى الدراسة والتحليل والتفسير بأدوات ثقافيّة ومعرفيّة ووفق مناهج ومنهجيّات علميّة.Maha kheir bek-2

للشعر،إذاً، طقس روحيّ إبداعيّ خاص، وللرواية طقس إبداعيّ حكائيّ متمايز، وللبحث العلميّ طقس أكاديميّ علميّ موضوعيّ، والفكر يسلّم قياده للطقس الأكثر سلطة وإغراء. ولكن لا يمكن أن ننكر غلبة العمل البحثيّ الأكاديميّ؛ لأنّ العمل الأكاديميّ هو الرسالة الأساس للأستاذ الجامعيّ المؤمن بزكاة المعرفة العلميّة. وهذه الغلبة تكون عادة على حساب الشعر والرواية.

لك جولات في الثقافة العربية، وشاركت في أمسيات شعرية في أكثر من دولة عربية، كيف تقيّمين الحركة الشعرية اليوم؟

ترسم الحركة الشعريّة في فضاء الثقافة العربيّة مسارات متباينة، بعضها يؤكّد التقليد والتبعيّة، وبعضها يعكس حالة التدنيّ اللغويّ والقيميّ والمعرفيّ، وعدد قليل من هذه المسارات له هويّة إبداعيّة تتمايز بالفرادة والخلق الفنيّ الهادف إلى تحطيم صنمية النسق، وإلى خلق أنساق جديدة ممهورة بالمتانة وبالقوة وبحسن السبك وبالخروج على الجاهز والمهيّأ.

كيف تقيمين الحركة النسوية اليوم؟

يمكن القول إنّ حضور الأنثى العربيّة على مستوى الفعل الثقافيّ مقبول. لقد استطاعت المبدعة العربيّة أن تفرض حضورها وأدبها وفنها على الرغم من محاولات الإقصاء والتغييب. ولذلك أتمنى أن تكون ممارسة الفعل الرياديّ الحقيقيّ من دون البحث عن حضور إعلاميّ مشوّه بلغة الجسد الحريميّ.

المبدعة العربيّة قادرة على خلق أنساق تمنحها هويتها، وقادرة، أيضاً، على التحرر من نمطية الصورة التي أطّرتها شكلاً يوحي بالخلق والابتكار، فهي مطالبة بقلب المعادلة لتثبت حضورها الفاعل غير المنفعل ولتكرّس منجزها الفكريّ أيقونة ثقافيّة تساهم في تفعيل حركية الثقافة.

تقولين في دراسة لك إن مصطلح الأدب النسوي لا يعبر عن حضورها الأدبي، لماذا؟

الأدب هو الأدب، ولا يمكن تصنيفه، في رأيي، وفق جنس كاتبه، وليس من قوانين نحويّة أو مفردات لغويّة أو موضوعات فكريّة قابلة للتصنيف. فالموضوعات واحدة واللغة للجميع.

تظهر عملية رصد لنتاج المبدعات العربيّات أنّ شعرهن ينبض بالرؤى وبالأصالة والحداثة، فأثبتن أنّ القيمة الإبداعيّة غير مرتبطة بالجنس بل بوجود طاقة خلق مشحونة بالثقافة وبالمعرفة وبالحريّة الفكريّة وبالوعيّ السياسيّ والوطنيّ والقوميّ والإنسانيّ.

لماذا كتاب “سعاد الصباح هدم وبناء”؟

أسند بعض الباحثين والدارسين شعر سعاد الصباح إلى شاعر معروف، وجرّدوها من طاقاتها الإبداعيّة، فكانت هذه الاتهامات باب عبور لأقرأ شعر أنثى عربيّة في زمن عربيّ ذكوري، فارتسمت قصيدتها إلى ابنها بوح روح ثكلى تكتب ألم الفقد.

وهذا النوع من الشعر لا يكتبه آخر، لأنّه رشحُ ذات متألمة تبحث عن رذاذ طمأنينة تحت ظلال الكلمات. وعندما قرأت نتاجها الشعريّ لمست الروح الكليّة التي تبث الحياة في نصوص سعاد الصباح، ووجدت اهتمامها بقضية المرأة العربيّة وبالقوميّة العربيّة. فكان التركيز على دراستهما من خلال انتاجها الشعريّ المتمايز بالبساطة من حيث التوظيف المعجميّ، وبالخصب والغنى الفني والجماليّ، من حيث الصور واتساع ظلالها، ففي قصيدتها على سبيل المثال لا الحصر” كن صديقي”، نعثر على مفردات قريبة المتناول، ولكنّها تفيض جمالا وخصب تأويل.

لك كتاب “جبران أصالة وحداثة”، أين هو من الحداثة ومن الأصالة؟

يقترن وجود الإنسان المبدع، على مستوى الكتابة الأدبيّة، بخلق النموذج الأدبيّ الأكثر غرابة ومغايرة، من حيث النسق، والأكثر إغراءً وفاعلية، من حيث الرموز والدلالات، والأكثر قدرة على الاستمرار في الآتي، بوصفه نشاطاً عقليّاً وخياراً ثقافيّاً له منطلقاته ومساراته وأهدافه، بمعنى آخر إنّ فاعلية العمل الإبداعيّ مشروطة بوجود الإنسان المبدع المحدِث القادر على إحداث تغيير يؤسس لحركة فكريّة أدبيّة ترفض جهوزية النموذج، وتتبنى الدعوة إلى خلق فني ممهور بالحداثة المتجددة، وتحرّض على رفض النزاع والجدل والصراع والانقسام. ولذلك وجدت في نتاج جبران خليل جبران النموذج الناطق بالأصالة والحداثة.

الأدب الجبرانيّ ناطقٌ بأصالة تنبع من التراث، وبحداثة ترشح جدةً، سواء أكان ذلك على مستوى اللغة أم على مستوى الموضوعات والأساليب، فأسّس بفكره لمدرسة أدبيّة نهل منها الأدباء المحدثون، وبخاصة الذين وجدوا في نتاجه الفكريّ نموذجاً للثورة والتمرد على الأعراف البائدة وعلى الظلم الديني والاجتماعيّ والسياسيّ وعلى التبعيّة.

لقد رفض جبران الشريعة لأنّها، في رأيه، وسيلة وليست غاية، لذلك جاءت دعوته إلى خرق المألوف وإلى التحرر من السلطات جميعها مشروطة بتفعيل دور الوعي واليقظة، وبالقدرة على الهدم والبناء.

أين موقع الأدب العربي اليوم من حوار الحضارات؟

مما لا شكّ فيه أنّ للأدب دوراً أساساً في حوار الحضارات، لكونه يعكس رؤية الإنسان للطبيعة والكون والحياة، وهذه الرؤية تتماثل بقدر ما تتمايز؛ لأنّها منطوق ذات إنسانيّة متماثلة من حيث المقاصد والغايات والأهداف، ومتمايزة من حيث أدوات التعبير اللغويّة وأنساق تشكّلها. لذلك يمكن القول إنّ الفضاء الأدبيّ العربيّ، اليوم، يحتاج إلى حركة نهضويّة فاعلة تعيد للأدب العربيّ دوره الإنسانيّ والرياديّ والحضاريّ، وهذا الدور يرسخّه مبدعون عرب تجاوزوا بإبداعاتهم الحدود الجغرافيّة، فاكتسب أدبهم هويّة إبداعيّة عالميّة أكّدت قدرة الأدب العربيّ على التأسيس لحوار حضاريّ.

إلى أي مدى أثرت العولمة سلباً أو إيجاباً على اللغة؟

ممّا لاشكّ فيه أنّ العولمة استهدفت الثقافة العربيّة وحاصرتها بأنساق جاهزة مستوردة باسم العالمية والحضارة الكونيّة، فأساءت هذه الأنساق إلى اللغة العربيّة وصارت غريبة عن أبنائها، وبغربة الإنسان العربيّ عن لغته القوميّة ازدادت الهوة بين الفرد وانتمائه القوميّ وتشوّه البعد الحضاريّ للهوية العربيّة.
إنّ الوعي بالذات والوجود والانتماء يعزز البعد القومي للغة العربيّة التي بها وحدها يكون التعبير عن نبض الأمة الحضاريّ والفكريّ والإبداعيّ، وبهذا الوعيّ عينه تستعيد الهوية حضورها الفاعل على مستوى العالميّة، فيتحرر الإنسان العربيّ من أمراض التبعية والاستزلام والانبهار بالآخر، ويسعى ليكون مشاركاً في صنع حضارة كونيّة تحفظ له وجوده ودوره وهويته بلغة عربيّة سليمة من أمراض التكنولوجيا التي شوّهت الحرف العربيّ واللغة العربيّة.

كيف أثّرت تجربتك القاسية بارتحال ابنك في أدبك؟

الأمومة نعمة إلهيّة، والثكل تجربة أليمة، والإيمان وحده يمنح الروح الثكلى أمنها وسلامها، غير أنّ الأمن والسلام لا تفيء إليهما الروح المذبوحة بوجعها وحزنها، فيلذّ لها أن تسكر برشح الألم لتكتب من رذاذها بعض التوق والرجاء.guilaf

في كلّ يوم يزهر ألم الارتحال، فينعشه ندى انتظار يجدل من الصبر رجاء لقاء قريب، وهذا الرجاء يكتبني في كلّ لحظة دمعة كلمة على دواوين اشتياقي.

كيف تقيمين دور المرأة السياسي اليوم في لبنان والعالم العربي؟

تكشف مرايا المعاصرة العالميّة عن حضور نسائي بارز على مستوى الفعل السياسيّ، حيث شغلت المرأة مراكز علميّة وإداريّة وقياديّة ونيابيّة ووزاريّة ورئاسيّة، وأثبتت من خلال هذه المواقع قدرة الأنثى على العمل القياديّ الممهور بالنجاح والتمايز، غير أنّ واقع الأنثى اللبنانيّة غريب عن أصالة الأرض التي أنجبت أليسار وأوربّ، وبالتالي فإنّ هذا الواقع لا يبشّر بولادة مستقبل لبنانيّ معافى، لأنّ للمرأة الدور الأكثر أهمية في تدعيم العلاقات والروابط الأسريّة التي تشكّل أهم بنيات المتحدات المجتمعيّة.علماً أن المجتمع اللبنانيّ غني بطاقات نسوية قادرة على المشاركة في صياغة المستقبل الأكثر إشراقاً.

وصلت المرأة في أكثر من قطر عربيّ إلى مراكز نيابيّة ووزاريّة أثبتت من خلالها أنّها شريكة الرجل في صنع القرارات وفي التشريع وصياغة القوانين، وبقيت المرأة اللبنانيّة على هامش الحراك السياسيّ، إذا استثنينا من وصلن إلى الندوة البرلمانيّة بكفاءات وراثية أو بعلاقات صداقة أو قرابة من دون أن تكون الكفاءة المعيار الأساس للاختيار.

نبذة

الدكتورة مها خيربك ناصر حائزة دكتوراه دولة في اللغة العربية وآدابها – الجامعة اللبنانية، الاختصاص الدقيق: النحو العربيّ والألسنية العربيّة والنقد العربيّ الحديث، أستاذة الدراسات العليا/ الجامعة اللبنانيّة/ المعهد العالي للدكتوراه.

عضو في: المجلس العالمي للغة العربيّة( الهيئة الإداريّة / أربع دورات)، اتحاد الكتاب اللبنانيين( الهيئة الإداريّة)، المنتدى القومي العربيّ( الهيئة الإداريّة)، اتحاد الكتاب العرب، جمعية النقد الأدبيّ، الهيئة الاستشارية – مجلة فكر- لبنان( سابقًا)، الهيئة الاستشارية – مجلة مقاربات-محكمة-لمغرب، الهيئة الاستشاريّ- مجلة الاستهلال- محكمة-المغرب، الهيئة الاستشارية -مجلة الخطاب – محكمة- الجزائر، الهيئة الاستشاريّة- مجلة الجنان- محكمة- لبنان، الهيئة الاستشاريّة- مجلة شؤون ثقافيّة- وزارة الثقافة اللبنانيّة، أمينة شؤون مجلة إشارات الصادرة عن اتحاد الكتاب اللبنانيين.
حظيت بتكريم محافل ثقافيّة ووزارات ثقافة عربيّة، ونالت شهادات تقدير أكاديميّة وفكريّة وثقافيّة. قيّمت وحكّمت أبحاثاً لأساتذة جامعيين من أجل الترقية إلى رتبة أستاذ.
شاركت في مناقشة رسائل دكتوراه في جامعات لبنانية وعربيّة، وفي مؤتمرات لغويّة، أدبيّة، فكريّة، ثقافيّة، في الجامعات والمنتديات والمهرجانات العربية، وفي أمسيات شعرية في العالم العربي.
مثّلت لبنان في لجان تحكيم الشعر الفصيح والقصة في الدول العربيّة. نظّمت مؤتمرات أدبية وفكرية في لبنان، أسست جائزة حسان ناصر للإبداع، نشرت أبحاثاً في النحو والنقد والقضايا الإنسانية والاجتماعيّة والسياسية في صحفٍ ودوريات عربية أدبية ونقدية وفكرية ثقافيّة.
مؤلفاتها: “جبران أصالة وحداثة، سعاد الصباح _هدم و بناء، النحو العربي والمنطق الرياضي – التأسيس و التأصيل (الجزء الأول)، النحو العربي والمنطق الرياضي (الجزءان الثاني والثالث تحت الطبع )، مناهج تدريس النحو في الجامعات/ واقعًا ورؤى، اللغة العربية والعولمة ( تحت الطبع )، الأدب وحوار الحضارات (تحت الطبع )، حسّان النغم -انثى خلود (ديوان شعر)، جمرات من ثلج (رواية)، أحبّها ولكن (رواية)، وليد والحلم( قصة للأطفال نشرتها مجلة العربيّ)”.

******

(*) جريدة الجريدة

اترك رد